الجمعة، 26 مارس 2021

أهل الفضل

 

خاطرة الجمعة /284


الجمعة ٢٦ مارس ٢٠٢١م

(أهل الفضل)

 

قالت الأم لزوجة ابنها مبتسمةً بعد انقضاء شهر العسل: "لقد تمكنتِ أن تجعلي ابني يلتزم بالصلاة في المسجد، نجحتِ في ثلاثين يوماً فيما فشلتُ فيه أنا في ثلاثين عاماً" وامتلأت عيناها بالدموع. ردت زوجة الابن قائلةً: "هل تعلمين يا أمي قصة: الحجر والكنز"؟، لم تنتظر الإجابة واستطردت تقول: "يُحكى أنه كان هناك حجرٌ كبيرٌ يعترض طريقاً لمرور الناس، فتطوع رجلٌ لكسره وإزالته، حاول الرجل وضرب الحجر بالفأس 99 مرةً ثم تعب، ثم مرَّ به رجلٌ فسأله أن يعاونه، وفعلاً تناول الرجل الفأس وضرب الحجر الكبير فانفلق من أول ضربةٍ.

‏ وكانت المفاجأة أنهما وجدا صرةً مملوءةً بالذهب تحت الصخرة؛ فقال الرجل: "هي لي؛ أنا فلقتُ الحجر"، فتخاصم الرجلان إلى القاضي، قال الأول: "ليعطيني بعض الكنز؛ أنا ضربتُ الحجر 99 ضربةً ثم تعبت"، وقال الآخر: "الكنز كله لي؛ أنا الذي فلق الحجر"، فرَّد القاضي: "للأول 99 جزءاً من الكنز، ولك يا من فلقتَ الحجر جزءاً واحداً. يا هذا لولا ضرباته ال99 ما انفلق الحجر في الضربة المئة".

ثلاثون عاماً والأم تحث ابنها على الصلاة دونما يأس، ثم تفرح أن ابنها صلى استجابةً لطلب زوجته، رغم أنه عصاها ثلاثين عاماً!

ثم ما أجمل تصرف زوجة الابن، وما أعظم أخلاقها، حينما لم تنسب الفضل لنفسها، بل جعلت الأم تثق تماماً أن تعبها لم يضع سدىً، وأنها هي التي أنشأت حجر الأساس وقامت بالبناء لبنةً لبنةً حتى بقيت اللبنة الأخيرة التي أكملتها زوجة الابن.

 

أحبتي في الله .. نسبة الفضل لصاحبه خُلُقٌ إسلاميٌ راقٍ ونبيل، امتدح الله عزَّ وجلََ من يعترف بالفضل لأصحابه؛ يقول تعالى: ﴿وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ﴾.

وهو خُلُق علمنا إياه سيد البشر، نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم؛ إذ وجهنا إلى أن نشكر صاحب الفضل؛ فمن يشكر (أهل الفضل) إنما يشكر ربه عزَّ وجلَّ، لأنه هو الذي أجرى هذا الفضل على هؤلاء؛ قال صلى الله عليه وسلم: [مَنْ لَمْ يَشْكُرْ النَّاسَ لَمْ يَشْكُرْ اللَّهَ]. وقال عليه الصلاة والسلام: [لا يعرفُ الفضلَ لأهلِ الفضلِ إلا أولُوا الفضل]. كما أمرنا بأن نكافيء صاحب الفضل؛ قال صلى الله عليه وسلم: [مَنْ صَنَعَ إِلَيْكُمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا مَا تُكَافِئُونَهُ فَادْعُوا لَهُ حَتَّى تَرَوْا أَنَّكُمْ قَدْ كَافَأْتُمُوهُ]، وأحسن ما يُدعى به لصاحب المعروف أن يُقال له: "جزاك الله خيراً"؛ قال صلى الله عليه وسلم: [مَنْ صُنِعَ إِلَيْهِ مَعْرُوفٌ فَقَالَ لِفَاعِلِهِ: جَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا، فَقَدْ أَبْلَغَ فِي الثَّنَاءِ].

 

ومن المواقف التي يظهر فيها كمال خُلُق نبينا الكريم، وحرصه على حق (أهل الفضل) في الوفاء والعرفان، ما أخبرت به السيدة عائشة رضي الله عنها؛ قَالَتْ: "كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا ذَكَرَ خَدِيجَةَ أَثْنَى عَلَيْهَا فَأَحْسَنَ الثَّنَاءَ"، قَالَتْ: "فَغِرْتُ يَوْمًا..، فَقُلْتُ: مَا أَكْثَرَ مَا تَذْكُرُهَا حَمْرَاءَ الشِّدْقِ -تغمز عن كبرها وسقوط أسنانها- قَدْ أَبْدَلَكَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهَا خَيْرًا مِنْهَا"، فقَالَ النبي صلى الله عليه وسلم معترفاً بفضلِ خديجة: [مَا أَبْدَلَنِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ خَيْرًا مِنْهَا، قَدْ آمَنَتْ بِي إِذْ كَفَرَ بِي النَّاسُ، وَصَدَّقَتْنِي إِذْ كَذَّبَنِي النَّاسُ، وَوَاسَتْنِي بِمَالِهَا إِذْ حَرَمَنِي النَّاسُ..].

وكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أُتِيَ بِالشَّيْءِ يَقُولُ: [اذْهَبُوا بِهِ إِلَى فُلَانَةٍ؛ فَإِنَّهَا كَانَتْ صَدِيقَةَ خَدِيجَةَ، اذْهَبُوا بِهِ إِلَى بَيْتِ فُلَانَةٍ؛ فَإِنَّهَا كَانَتْ تُحِبُّ خَدِيجَةَ]. وعَنْ السيدة عَائِشَة رضي الله عنها قَالَتْ: «مَا غِرْتُ عَلَى أَحَدٍ مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا غِرْتُ عَلَى خَدِيجَةَ، وَمَا بِي أَنْ أَكُونَ أَدْرَكْتُهَا، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِكَثْرَةِ ذِكْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهَا، وَإِنْ كَانَ لَيَذْبَحُ الشَّاةَ فَيَتَتَبَّعُ بِهَا صَدَائِقَ خَدِيجَةَ فَيُهْدِيهَا لَهُنَّ».

فهل بعد ذلك من وفاءٍ وردٍ للجميل وعرفانٍ بالفضل؟

 

وكان ذلك خُلُق الصحابة والتابعين؛ فقد رُوي عن ابن عباسٍ رضي الله عنه أنه أمسك للحسن والحسين رضي الله عنهما ركابيهما حتى خرجا من عنده، فقال له بعض من حضر: "أتمسك لهذين الحدثين ركابيهما وأنت أسنُّ منهما"؟ فقال له: "اسكتْ يا جاهل، لا يعرفُ الفضلَ لأهلِ الفضلِ إلا ذَوُو الفضل".

وهذا هو الخليفة العباسي المأمون، علم أن معلم ابنيه، أراد أن ينهض إلى بعض شأنه، فابتدر ابنا الخليفة إلى نعله يقدمانها له، فتنازعا أيهما يفعل، ثم اتفقا على أن يُقَدِّم كل واحدٍ منهما فردةً، فقدماها. فاستدعى المأمون المعلم وسأله عن ذلك، قال المعلم: "يا أمير المؤمنين، لقد أردتُ منعهما من ذلك، ولكن خشيتُ أن أدفعهما عن مَكْرُمَةٍ سبقا إليها، وأكسر نفوسهما عن شريفةٍ حرصا عليها"؛ فقال له المأمون: "لو منعتَهما عن ذلك لأوجعتُك لوماً وعتباً، وألزمتُك ذنباً، وما وضع ما فعلاه من شرفهما، بل رفع من قدرهما، وبيّن عن جوهرهما". وأمر للمعلم بمكافأةٍ على حُسن أدبه للولدين.

 

يقول أهل العلم إن الاعتراف بفضل (أهل الفضل) خُلقٌ رفيعٌ تعرفه النفوس الكريمة، وتنكره الطبائع المتمردة اللئيمة. إنه الإقرار بفضل من يصدر منه الفضل دون جحودٍ أو نسيانٍ، جحودٍ يغمط الحق، أو نسيانٍ يستر الإحسان.

ولهذه الصفة وقعٌ إيجابيٌ وأثر ٌطيبٌ، ليس على الفرد فقط، بل وعلى المجتمع كله؛ فطبيعة الإنسان أنه ينشط إذا فَعل الفضل فأُثني عليه، مما يدفع الناس لينشطوا في بذل الخير والزيادة فيه. إن عدم الاعتراف بفضل الناس هو الكِبْر بعينه؛ قال عليه الصلاة والسلام: [الكِبْرُ بَطَرُ الحَقِّ، وغَمْطُ النَاسِ]. وقد سُئل حكيمٌ: "ما التواضع"؟ قال: "ألا تقابل أحداً إلا رأيتَ له الفضل عليك، بكلمةٍ قالها لك، أو معروفٍ أسداه إليك، أو ابتسامةٍ قابلك بها".

 

كيف ننسى فضل من أحسن إلينا يوماً، ولله در القائل:

أحسِنْ إلى الناسِ تستعبدْ قلوبَهم

فلطالما استعبدَ القلبَ إحسانُ

وقال الشاعر:

ومَن يُسدِ مَعروفاً إليكَ فكُن لَهُ

شَكُوراً، يكُن مَعروفُهُ غيرَ ضائعِ

ولا تبخلنَّ بالشكرِ، والقَرْضَ فاجْزِهِ

تكنْ خَيرَ مَصنوعٍ إليه وصَانعِ

وقال ثالثٌ:

إنَّ الوفاءَ على الكريمِ فريضةٌ

واللؤمُ مقرونٌ بذي الإخلافِ

وترى الكريمَ لمن يعاشرُ منصفًا

وترى اللئيمَ مُجانبَ الإنصافِ

 

أحبتي .. الكلمة الطيبة صدقةٌ، فلا تبخلوا بردٍ جميل، وكلمةٍ طيبةٍ لكل من أسدى إليكم معروفاً. إياك أن ننسى من أحسن إلينا في وقتٍ كنا فيه بأمَّس الحاجة إليه. لنكن جميعاً من (أهل الفضل) ولنُعَوِّد أنفسنا على شكر الناس، ولو على أقل شيءٍ يقدمونه أو يفعلونه لنا. ليكن هذا ديدننا مع الصغير والكبير، مع الغني والفقير، مع الرئيس والمرؤوس، مع القريب والبعيد، مع المسلم وغير المسلم. لنجعل ذلك منهج حياةٍ؛ فلكلمة الشكر مفعول السحر في كسب القلوب واستمالة النفوس.

ولا ننسَ نية أن يكون ذلك تنفيذاً لأمر الله سبحانه وتعالى، واقتداءً بسنة رسوله الكريم، صلوات الله وسلامه عليه؛ حتى نؤجر ونثاب، ومَن منا مستغنٍ عن الأجر والثواب؟!

تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال.

 

https://bit.ly/3lVO41H