الجمعة، 27 ديسمبر 2019

زهوة الانتصار


الجمعة 27 ديسمبر 2019م

خاطرة الجمعة /٢١٩
(زهوة الانتصار)

تحكي إحدى السيدات قصتها فتقول: منذ ثلاثين عاماً كنتُ فتاةً غريرةً وزوجةً حديثةً أرفع شعارات تحرير المرأة، وأرى الزواج مجرد إجراءٍ اجتماعيٍ لا يترتب عليه أية واجبات، وشاء الله أن أقيم مع حماتي حتى يوفر لي زوجي سكناً مستقلاً بالمواصفات التي أريدها، وكانت السنوات التي عشتها مع حماتي هي أسوأ سنواتٍ عاشتها تلك السيدة الصابرة، وكنتُ أنا للأسف سر هذا السوء؛ فقد أعطيتُ أذني لنصائح الصديقات بأن أُظهر لها العين الحمراء منذ البداية، ولذلك قررتُ أن أحدد إقامة حماتي داخل حجرتها، وأتسيد بيتها وأعاملها كضيفةٍ ثقيلة! كنت أضع ملابسها في آخر الغسيل، فتخرج أقذر مما كانت، وأُنظف حجرتها كل شهرٍ مرة، ولا أهتم بأن أُعد لها الطعام الخاص الذي يناسب مرضها، وكانت كجبلٍ شامخٍ تبتسم لي برثاءٍ، وتقضي اليوم داخل حجرتها تُصلي وتقرأ القرآن، ولا تغادرها إلا للوضوء، أو أخذ صينية الطعام التي أضعها لها على منضدةٍ بالصالة وأطرق بابها بحدةٍ لتخرج وتأخذها! وكان زوجي مشغولاً في عمله؛ لذلك لم يلاحظ شيئاً، ولم تشتكِ هي له، بل كانت تجيبه حين يسألها عن أحوالها معي بالحمد، وهي ترفع يديها إلى السماء داعيةً لي بالهداية والسعادة. ولم أُجهد نفسي كثيراً في تفسير صبرها وعدم شكايتها مني لزوجي، بل أعمتني ( زهوة الانتصار) عن رؤية الحقيقة حتى اشتد عليها المرض، وأحست هي بقرب الأجل فنادتني وقالت لي وأنا أقف أمامها متململةً: "لم أشأ أن أرد لك الإساءة بمثلها حفاظاً على استقرار بيت ابني، وأملاً في أن ينصلح حالك، وكنت أتعمد أن أُسمعكِ دعائي لكِ بالهداية لعلك تراجعين نفسك، دون جدوى، ولذلك أنصحك – كأم – بأن تكفي عن قسوتك، على الأقل في أيامي الأخيرة لعلي أستطيع أن أسامحك". قالت كلماتها وراحت في غيبوبة الموت، فلم تر الدموع التي أغرقت وجهي، ولم تحس بقبلاتي التي انهالت على وجهها الطيب، ماتت قبل أن أريها الوجه الآخر، وأكفر عن خطاياي نحوها، ماتت وزوجي يظن أنني خدمتها بعيني.
وكبر ابني وتزوج ولم يستطع توفير سكنٍ خاصٍ فدعوته للعيش معي في بيتي الفسيح الذي أعيش فيه وحدي بعد وفاة أبيه فاستجاب؛ ودارت عجلة الزمن فعاملتني زوجته بمثل ما كنت أعامل حماتي من قبل، فلم أتضجر، لأن هذا هو القصاص العادل والعقاب المعجل، بل ادخرتُ الصبر ليعينني على الإلحاح في الدعاء بأن يغفر الله لي، ويكفيني شر جحيم الآخرة لقاء جحيم الدنيا الذي أعيش فيه مع زوجة ابني، ويجعلني أتحمل غليان صدري بسؤالٍ لا أملك له إجابةً: هل سامحتني حماتي الراحلة؟ أم أنها علقت هذا السماح على تغيير معاملتي لها، هذا التغيير الذي لم يمهلني الله لأفعله؟

أحبتي في الله .. ليست هذه السيدة هي وحدها التي أعمت (زهوة الانتصار) بصيرتها .. فكم من قويٍ غرته قوته فاعتدى على ضعيف، وكم من غنيٍ أكل مال فقير، وكم من صاحب سطوةٍ ونفوذٍ استولى على حق مسكين، وكم من رجلٍ حرم امرأةً من إرثها، وكم من زوجٍ تلذذ بقهر زوجته، وكم من مديرٍ تمادى في ظلم مرؤوسيه، وكم من مسئولٍ شقَّ على مراجعيه، هؤلاء جميعهم وأمثالهم غرتهم (زهوة الانتصار) وأدارت نشوة النصر - كما الخمر - رؤوسهم، وأعمت بصائرهم فظنوا أن الحياة دانت لهم، وأنهم الأعلى والأعلم والأقوى والأذكى والأغنى والأفضل، وأن لا رقيب عليهم، ولا حسيب يرصد أعمالهم ليحاسبهم عليها؛ لقد ﴿اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ﴾، فنسوا ﴿إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ﴾، ونسوا الحكمة المأثورة "إذا دعتك قدرتك إلى ظلم الناس فتذكر قدرة الله عليك".
كم من ظالمٍ أعمته (زهوة الانتصار) فظلم وطغى وبطش ونكَّل وخاصم وفجر واستعلى وعاث في الأرض فساداً، وتمادى في ظلمه، وهو يظن أنه على الحق المبين! وأن ما يفعله هو عين العدل! لم يدرِ بأن الأيام دُوَلٌ، ولم يدرِ أن الله سبحانه وتعالى يُمهل ولا يُهمل، ولم يدرِ أن دعوة المظلوم تشق عنان السماء وليس بينها وبين الله حجاب، وأن ما يرزقه الله به من مزيد قوةٍ وسلطةٍ ما هو إلا استدراجٌ يأتي من بعده الأخذ ﴿إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ﴾. ولم يدرِ مَن أعان الظالم على ظلمه ولو بكلمةٍ، ومَن ركن إليه فمال له بقلبه، أنهم مشمولون بوعيد الله لهم بأن تمسهم النار؛ يقول تعالى: ﴿وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ﴾.
أين هؤلاء جميعاً من فرعون حينما غرته قوته فقال: ﴿مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾! بل وحث قومه على ألا يتبعوا دين الإسلام الحق الذي كان يدعو إليه موسى عليه السلام؛ فقال عنه: ﴿إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ﴾! ووصلت (زهوة الانتصار) به إلى ذروتها حين قال: ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى﴾!. تعامل فرعون مع قومه باستعلاءٍ واستخفاف ﴿فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ﴾ لماذا أطاعوه؟ لأنهم ﴿كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ﴾، فماذا كانت النتيجة؟ ﴿يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ﴾. أين هؤلاء من فرعون وجنوده وهم يطاردون موسى ومن آمن معه من المسلمين يدفعونهم دفعاً نحو البحر، ألم تتملكهم (زهوة الانتصار) حتى من قبل أن يحققوه ظانين أنهم هم الغالبون لا محالة؟ فماذا كان مصيرهم؟ يقول تعالى: ﴿انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ﴾. هل نفعت فرعون قوته وكثرة عتاده وجنوده؟ هل نفعه الملأ المنافقون من حوله؟ هل نفعه القوم الفاسقون الذين استخف بهم فاتبعوه؟ لا واللهِ لم ينفعه من ذلك شيءٌ حينما جاء أمر الله.
إن انتصار القوي على الضعيف بالقهر والإذلال والطغيان بغير حقٍ، هو انتصارٌ زائفٌ، أبعد ما يكون عن النبل، وأقرب ما يكون من الخسة والدناءة.

ولعل من أكثر حالات الظلم إيلاماً ظلم ذوي القربى؛ حينما يظلم الأب أبناءه، أو يظلم الابن أباه أو أمه، أو يظلم الأخ إخوانه وأخواته؛ يقول الشاعر:
وظُلْمُ ذَوِي القُرْبَى أَشَدُّ مَضَاضَـةً
عَلَى المَرْءِ مِنْ وَقْعِ الحُسَامِ المُهَنَّدِ

ألا يخشى الظالمون عذاب الله؟ ألا يخشون توعده لهم بالعذاب الأليم؟ يقول تعالى: ﴿إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾، ويقول سبحانه واصفاً لحظات احتضارهم بعذاب الهون: ﴿وَلَو تَرى إِذِ الظّالِمونَ في غَمَراتِ المَوتِ وَالمَلائِكَةُ باسِطو أَيديهِم أَخرِجوا أَنفُسَكُمُ اليَومَ تُجزَونَ عَذابَ الهونِ﴾.
ويقول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم محذراً من عقاب الظالمين في الآخرة: [اتقوا الظلمَ، فإنَّ الظلمَ ظلماتٌ يومَ القيامةِ]، ويقول صلّى الله عليه وسلّم عن عقابهم في الدنيا: [بابانِ مُعجَّلانِ عُقوبتُهما في الدنيا: البَغْيُ، والعقُوقُ].

أحبتي .. سيأتي - لا محالة - يومٌ يتجرع فيه الظالم من ذات الكأس التي كان يُجبر مَن ظَلمهم على الشرب منها. فإلى متى الغفلة؟! كم من مثالٍ من أمثلة الظلم والظالمين ضربه الله سبحانه وتعالى لنا في القرآن الكريم، وكم من مرةٍ دعانا فيها للاتعاظ مما آل إليه مصيرهم، وكم من دعوةٍ لنا للاعتبار ﴿فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ﴾، ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُولِي النُّهَى﴾، ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ﴾.
إن الذين غرتهم الحياة الدنيا، وتملكتهم (زهوة الانتصار) فذهبت بعقولهم، يخاطبهم الله سبحانه وتعالى بقوله: ﴿وَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾، فهل من متعظ؟
اللهم لا تجعلنا من الظالمين، ولا ممن يعينونهم ويؤيدونهم، ولا ممن يرضون بأفعالهم ويتغاضون عن الظلم فقط لأنه وقع بغيرهم! وأعنا اللهم على رد المظالم إلى أصحابها كلما استطعنا ذلك.
اللهم لا تجعل الدنيا في قلوبنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعلها كل همنا، واجعلها اللهم مزرعةً لنا لآخرتنا، التي فيها معادنا، وإليها إيابنا، وبها خلودنا. اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.

http://bit.ly/35ZFoyQ



الجمعة، 20 ديسمبر 2019

المال مال الله


الجمعة 20 ديسمبر 2019م 

 خاطرة الجمعة /٢١٨ 
(المال مال الله) 
 وقف صاحب أحد المطاعم الفاخرة وسط صالة الطعام شبه الفارغة، في توقيتٍ عُرف بأنه وقت الذروة، لم يكن الحال كذلك أبداً إلى أن تغير تدريجياً منذ بضعة أيام؛ الزبائن تنحسر عن المطعم بلا سببٍ واضحٍ، رغم أنه لم يُقَصِّر في جودة الطعام أو يزيد في الأسعار. خرج إلى الشارع الذي كان يزدحم بالمارة في هذا الحي الراقي التجاري، يبحث عن سببٍ لانحسار الزبائن عن مطعمه؛ مع أنه المطعم الوحيد الذي يقدم أصنافاً مختلفةً وأكثر تنوعاً من المطاعم الأخرى حوله، بل هذا ما يميزه عن غيره، بالإضافة إلى شهرته بحفاوة استقبال العملاء، وسرعة تلبية طلباتهم، الأمر الذي جعله مقصداً أساسياً للزبائن من كل طيف! عاد صاحب المطعم إلى مكتبه الصغير داخل المطعم يفكر في القيام بأي إجراءٍ يجذب به الزبائن مرةً أخرى؛ هل أقدم خصومات؟ أم وجباتٍ جديدةٍ بأسعار مخفضة؟، لا، بل سوف أقدم وجباتٍ مجانيةٍ للمحتاجين. توقف فجأةً عن التفكير عندما تذكر الوجبات المجانية، لينادي على كبير الطهاة بالمطعم، الذي حضر سريعاً فسأله: "هل حضرت «أم أمل» اليوم لتأخذ الطعام؟"، مطَّ كبير الطهاة شفتيه بلا مبالاةٍ وردَّ: "لا لم تأتِ، كما لم تأتِ في الأيام السابقة أيضاً"! اندهش صاحب المطعم من إجابة كبير الطهاة، فسأله مرةً أخرى: "منذ متى؟"، فأجابه: "منذ عدة أيامٍ حين كان المطعم مزدحماً، وأقبلتْ لتأخذ الطعام كعادتها، لكنك حينها صرختَ في وجهها ونهرتها وقلتَ لها أن هذا ليس الوقت المناسب للتسول!". بُهت وجه صاحب المطعم وهو يتذكر تلك الواقعة التي قد نساها تماماً، ولم يهتم منذ حدثت أن يسأل عن تلك السيدة المسنة التي ترمّلت وهي في الأربعين من عمرها، فاضطرت للعمل عدة أعمالٍ شاقةٍ حتى أعياها المرض وأصبحت لا تستطيع العمل كالسابق واكتفت بجلستها لتبيع الخضروات في السوق تتكسب قليلاً من المال لا يكاد يسد رمق أطفالها الثلاثة، وفي أحد الأيام مرَّ بها صاحب المطعم فدعته أن يشتري منها بعض الخضروات، فجلس أمامها بعد أن جذبته طيبة وجهها الصبوح المبتسم برغم الآلام التي تشعر بها، وحكت له قصتها، ومنذ ذلك الحين طلب منها أن تمر يومياً على مطعمه ليعطيها بعض الطعام لها ولأطفالها، وظلت على ذلك شهوراً طويلةً دون أن تنقطع يوماً واحداً. تذكر صاحب المطعم أنه منذ ذلك الوقت وأعمال مطعمه في رواجٍ ورخاءٍ، تذكر أيضاً دعوات «أم أمل» الصادقة وعيونها الشاكرة وهي تأخذ الطعام مغلفاً كما يُعامَل غيرها من الزبائن بالضبط. خرج صاحب المطعم من مطعمه قاصداً المكان الذي كانت تجلس فيه «أم أمل» في السوق، ليجد المكان مشغولاً بسيدةٍ أخرى، بحث عنها في الأماكن المجاورة في السوق فلم يعثر لها على أثر، فوقف شارداً يفكر كيف يجدها وهو لا يعلم أين تسكن، لينتبه على صوت إحدى البائعات تطلب منه أن يشتري منها، فاقترب في هدوءٍ وعلى وجهه ابتسامة بسيطةٌ سألها: "هل تعرفين «أم أمل» التي كانت تبيع الخضروات هنا في السوق؟"، ردت السيدة وهي ترفع يديها داعيةً: "اللهم خفف عنها واشفها يا رب، إنها حبيبتي وحبيبة الجميع هنا"، فزع صاحب المطعم عندما سمع الدعاء؛ فسألها بذعرٍ واضحٍ: "ماذا حدث لها؟"، ردت السيدة بعد أن زفرت الهواء بقوةٍ: "لقد عادت إلى منزلها في إحدى الليالي خاوية اليدين لا تحمل عشاءً لأطفالها كما اعتادت، فأصيبت بحزنٍ شديدٍ أفقدها وعيها وسقطت، لولا أن أنقذها بعض الناس الطيبين". كاد قلب صاحب المطعم أن ينخلع من مكانه؛ فهو يعرف أنه السبب فيما حدث، فعاد وسأل السيدة، والكلمات بالكاد تخرج من فمه: "هل تعرفين أين تسكن؟"، ردت السيدة بالإيجاب، ووصفت له مكان المنزل؛ فرجع مسرعاً إلى المطعم وأمر كبير الطهاة بتجهيز طلبٍ من أشهى مأكولات المطعم ليحمله ويذهب به إلى ذلك العنوان. لم تمر دقائق حتى كان صاحب المطعم يقف أمام بيت «أم أمل» في ذلك الحي العشوائي، وهو يسمع دقات قلبه تكاد تحطم ضلوعه، قبل أن يطرق الباب ويسمع صوت طفلةٍ تسأل من قبل أن يجيبها: "أنا صاحب المطعم .."، لم يُكمل كلماته لينفتح الباب ويرى تلك الطفلة، التي بعمر ابنته، وعلى وجهها ابتسامةٌ صافيةٌ تشبه ابتسامة أمها، وهي ترحب به وتدعوه للدخول. كان ظنه وهو يدلف من الباب أنه سيدخل أولاً إلى الصالة وتكون «أم أمل» في إحدى غرف البيت، لم يكن يعلم أن البيت هو غرفةٌ واحدةٌ بها كل شيءٍ، ليتفاجأ على يساره ب«أم أمل» تجلس على فراشٍ، تتطلع في عينيه بنظراتٍ ملأتها لوماً وعتاباً، وصبيين يجلسان بجوارها، عيونهما معلقةٌ باللفافة التي يحملها بعد أن ملأت روائح الطعام الغرفة. لم يعرف مِن أين يبدأ وكيف يعتذر، وهل هناك كلماتٌ تداوي جرح كلماتٍ؟ اقترب منها بخطواتٍ ثقيلةٍ حتى شعرت بمعاناته، وحنَّ قلبها الرحيم؛ فابتسمت وأشارت إليه ليجلس على طرف الفراش، فجلس وتطلع في وجهها الذي أشرق بابتسامة رضىً وترحيبٍ استقبلها باستحياءٍ قبل أن يبادرها بقوله: "أردتُ أن أتناول طعامي معكم، فهل تسمحين لي أن نتشارك الطعام؟"، هربت دمعةٌ من مقلتها كادت تحرق وجدانه الذي يئن من الإحساس بالذنب، لترد عنها ابنتها «أمل»: "أمي لا تتكلم منذ عدة أيام، ولا تكف عن البكاء". أحس بغُصةٍ في صدره قبل أن يحاول تصنع المرح وهو يفتح لفافات الطعام ويهتف: "دعونا إذاً نُطعمها ونحاول أن نسعدها". بدأوا في تناول الطعام وهو يحاول نشر البهجة في جنبات الغرفة الحزينة، ليبدأ أطفالها تبادل الضحكات، و«أمل» تطعم أمها التي ابتسمت في عدة مناسباتٍ قليلةٍ، وحين جاء وقت الانصراف وقف أمام «أم أمل» يستجديها: "سيدتي، لا أملك أن أستعيد كلمةً خرجت من لساني دون وعيٍ مني، ولكني أملك الشجاعة للاعتراف بالخطأ وطلب المغفرة، وأعرف أنك كبيرة القلب لن تبخلي عليّ بالصفح"، أشاحت بوجهها عنه وعادت تبكي بكاءً صامتاً، ليقف لثوانٍ طويلةٍ منتظراً عفوها دون جدوى، ليطرق رأسه حزناً ويلتفت ناحية الباب مغادراً، قبل أن يتوقف فجأةً على صوتها وهي تنطق بضعف: "أشكرك، ربنا يسعدك ويسترك وينور طريقك". كلماتٌ بسيطةٌ كانت - بالنسبة له - تساوي الدنيا وما فيها، السعادة والستر والهداية، فهو لا يحتاج أكثر من ذلك. غادرهم وهو مفعمٌ بالبهجة، ووعدهم أنه سوف يعودهم حتى تتعافى أمهم، بعد أن أعطاهم من مال الله قدراً، وفي الطريق عرج مرةً أخرى على المطعم، وما أن وصل هناك حتى هاله ما وجد؛ زحاماً شديداً بصالة الطعام، وزبائن على قائمة الانتظار، والعاملين كخلية النحل لا يكادون يستطيعون تلبية كافة الطلبات. اندفع إلى داخل المطعم، وما أن قابل كبير الطهاة حتى استفسر منه عن سبب ما حدث فرد عليه: "هل تعرف «فلاناً»؟"، "نعم، إنه أشهر ناقد طعامٍ في البلد"، "كان هنا، وطلب عدة أنواعٍ من الأطعمة، وصور تجربته مباشرةً على صفحته الخاصة على فيس بوك، ووصف تجربته بأنها رائعةٌ؛ مما دفع الزبائن للحضور كما ترى"، سأله بلهفة: "ومتى كان ذلك؟"، "كان منذ ساعتين تقريباً"، نظر في ساعته وعرف أنه نفس توقيت وصوله عند «أم أمل»، ليتعلم الدرس؛ ويعرف أن (المال مال الله) هو الرزاق العاطي يُعطيِنا من كرمه لنعطي نحن عباده، وأن الكلمة تُحيي وتميت، وأن لا مال ينقص من صدقةٍ، وأن الفقير هو من يتصدق على الغني حين يرضى ويقبل عطفه وإحسانه. 

 أحبتي في الله .. يقول العلماء إن الله سبحانه وتعالى جعل من نوافل الطاعات طريقاً لنيل رضاه ومحبته، ومن أعظم تلك النوافل: الصدقة؛ يقول الله تعالى: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾، ويقول عزَّ وجلَّ: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً﴾. وقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما يرويه عن رب العزة: {إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: ... يَا ابْنَ آدَمَ! اسْتَطْعَمْتُكَ فَلَمْ تُطْعِمْنِي. قَالَ: يَا رَبِّ وَكَيْفَ أُطْعِمُكَ؟ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ. قَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّهُ اسْتَطْعَمَكَ عَبْدِي فُلَانٌ، فَلَمْ تُطْعِمْهُ؟ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ أَطْعَمْتَهُ لَوَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي؟ ...}. ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: [مَنْ تَصَدَّقَ بِعَدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ، وَلاَ يَصْعَدُ إِلَى اللهِ إِلاَّ الطَّيِّبُ، فَإِنَّ اللَّهَ يَتَقَبَّلُهَا بِيَمِينِهِ، ثُمَّ يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهِ كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الْجَبَلِ]، "والفلو: المُهر"؛ فالصدقة تقع في يد الله، يحفظها وينميها لصاحبها؛ يقول الله عزَّ وجلَّ: ﴿وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾. 
ولا طريق لتحصيل ثمار المال بعد الموت إلا بالصدقة؛ يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: [يَقُولُ ابْنُ آدَمَ مَالِي مالِي - قَالَ - وَهَلْ لَكَ يَا ابْنَ آدَمَ مِنْ مَالِكَ إِلاَّ مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ، أَوْ لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ، أَوْ تَصَدَّقْتَ فَأَمْضَيْتَ]. نعم (المال مال الله)، وما يأكله ابن آدم يفنى، وما يلبسه يبلى، وما يتصدق به هو فقط ما يبقى؛ فعن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أنَّهم ذبحوا شاةً فقالَ النَّبيُّ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ: [ما بَقَيَ مِنْها؟] قلتُ: ما بقيَ منْها إلَّا كتفُها. قالَ: [بَقَيَ كُلُّها غَيْرَ كَتِفِها]. ويقول صلى الله عليه وسلم: [مَا نَقَصَ مَالُ عَبْدٍ مِنْ صَدَقَةٍ]. 

والمتصدق يستفيد من صدقته أكثر من الفقير؛ فثمار الصدقة التي يقطفها المتصدق كثيرةٌ: إنها تطفئ الخطيئة؛ يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: [وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ، كَمَا يُطْفِئُ الْمَاءُ النَّارَ]، وهي تقي صاحبها ميتة السوء؛ يقول الرسول الكريم: [إن الصَّدَقَةَ لَتُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ، وَتَدْفَعُ مِيتَةَ السُّوءِ]، وهي ظلٌ لصاحبها يوم القيامة؛ يقول صلى الله عليه وسلم: [كُلُّ امْرِئٍ فِي ظِلِّ صَدَقَتِهِ حَتَّى يُفْصَلَ بَيْنَ النَّاسِ]، وفيها شفاءٌ للمرضى؛ يقول عليه الصلاة والسلام: [دَاوُوا مَرْضَاكُمْ بِالْصَّدَقَةِ]، كما أنها تعالج قسوة القلب؛ قال صلى الله عليه وسلم: [إِنْ أَرَدْتَ أَنْ يَلِينَ قَلْبُكَ، فَأَطْعِمْ الْمِسْكِينَ، وَامْسَحْ بِرَأْسِ الْيَتِيمِ]، وهي إلى جانب ذلك كله تطهر المال مما علق به من آثام؛ قال صلى الله عليه وسلم: [يَا مَعْشَرَ التُّجَّارِ، إِنَّ الْبَيْعَ يَحْضُرُهُ اللَّغْوُ وَالْحَلِفُ فَشُوبُوهُ بِالصَّدَقَةِ]. فمن تمعّن في ثمار الصدقة يجد أن ما يجنيه المتصدق من صدقته أكثر وأكبر مما يجنيه الفقير من تلك الصدقة. وصدق من قال: لو علم الموسرون وأهل الدور والقصور والأرصدة والتجارات والثروات أنهم يكسبون أكثر وأعظم مما يعطون في الصدقات لكانوا أسرع إلى البحث عن الفقراء والمحتاجين من هؤلاء إليهم، ولكان الواحد منهم يتودد ويتوسل إلى الفقير لكي يقبل منه عوناً يعود على صاحبه بالخير والبركة ورضى الرزاق الكريم. وقد كان في الأمة رجالٌ يدفعون إلى الفقراء وكأنهم يأخذون منهم، رجالٌ كان أحدهم يتودد ويتوسل إلى الفقير: "يا أخي أكرمني وتصدق عليّ بقبول هذه الهدية البسيطة ولك الفضل"! ولا يسميها صدقة. قال شيخٌ لتجار مدينته: "أنتم السعداء حقاً إذا قبل الفقراء وتصدقوا عليكم بالأخذ"! وعلى المتصدق ألا يفسد صدقته بإتباعها بالمن والأذى أو بالرياء؛ يقول عزَّ وجلَّ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ﴾. 

 أحبتي .. نخطئُ إن ظننا أن الفقير هو الذي يحتاج إلينا، ونخطئُ أكثر إذا سعى إلينا الفقير فأعرضنا عنه؛ فالصحيح أننا نحن من نحتاج إلى الفقير والمحتاج والمسكين والأرملة وابن السبيل والغارمين وغيرهم ممن تجوز عليهم الصدقات، ذلك أن ما يترتب على صدقاتنا لهم أكبر بكثيرٍ مما يتصور البعض منا؛ فثواب الصدقة نشاهده ونلمسه في الدنيا، أما في الآخرة فإن ربك يضاعف الثواب أضعافاً مضاعفة. ابحثوا أحبتي عن الفقراء والمساكين واسعوْا لهم وتوددوا إليهم حتى يقبلوا منكم هداياكم، فهم مفاتيح أبواب الرزق والسعادة وراحة البال في الدنيا، وهم أصحاب بابٍ من أبواب الجنة اسمه باب الصدقة. هيا أحبتي نخلع عن أنفسنا ثوب شُح النفس، ونتشح بثياب الكرم، ولنتذكر أن (المال مال الله) ما نحن إلا مستخلفين فيه، مسئولون عنه ومحاسَبون عليه، وأننا لسنا برازقين، ما نحن إلا ناقلي رزقٍ للآخرين، ومن رحمة الله بنا وتفضله علينا وكرمه أنه يُجازينا ويُثيبنا على مجرد أننا ننقل ماله ورزقه سبحانه وتعالى إلى غيرنا.

 http://bit.ly/35JzbGZ

الجمعة، 13 ديسمبر 2019

الدعاء يرد القضاء


الجمعة 13 ديسمبر 2019م

خاطرة الجمعة /٢١٧
(الدعاء يرد القضاء)

امرأةٌ سعوديةٌ تحكي قصةً غريبةً عن زوجها فتقول: كان زوجي شاباً يافعاً مليئاً بالحيوية والنشاط، وسيماً جسيماً ذا دينٍ وخلقٍ باراً بوالديه. تزوجنا وسكنتُ معه في بيت والده كعادة الأسر السعودية، ورأيتُ من بره بوالديه ما جعلني أتعجب منه وأحمد الله أن رزقني هذا الزوج. رُزقنا ببنتٍ بعد زواجنا بعامٍ واحدٍ، ثم انتقل عمله إلى المنطقة الشرقية، فكان يذهب لعمله أسبوعاً ويمكث عندنا أسبوعاً، وأكمل على ذلك ثلاث سنين. في أحد أيام شهر رمضان المبارك، وكانت ابنتنا قد بلغت سن الرابعة، تعرض زوجي لحادث سيارةٍ، وهو في طريقه إلينا في الرياض، أُدخل على إثرها المستشفى، ودخل في غيبوبةٍ، أعلن بعدها الأطباء المختصون المعالجون له وفاته دماغياً وتلف ما نسبته 95% من خلايا المخ. كانت الواقعة أليمةً جداً علينا جميعاً، وخاصةً على أبويه المسنين، وكانت تزيدني حرقةً أسئلة ابنتنا "أسماء" عن والدها الذي شُغفت به شغفاً كبيراً وتعلقت به.
بعد مرور خمس سنين على وجود زوجي في المستشفى في حالة موتٍ دماغيٍ ميئوسٍ من علاجها؛ أشار عليّ بعضهم بأن أطلب الطلاق منه بواسطة المحكمة، حيث أفتى بعض المشايخ لي بجواز الطلاق فيهذه الحالة، لكنني رفضتُ ذلك الأمر رفضاً قاطعاً، وقلتُ لهم: "لن أطلب الطلاق طالما أنه موجودٌ على ظهر الأرض، فإما أن يُدفن كباقي الموتى، أو أن يتركوه لي حتى يفعل الله به ما يشاء".
ظللنا نتناوب على زيارته في المستشفى يومياً، طوال خمسة عشر عاماً، وهو لا يزال على حاله لا يتغير منه شيء. كنت خلال هذه السنوات قد وجهتُ اهتمامي لابنتي الصغيرة، وأدخلتها مدارس تحفيظ القرآن حتى حفظت كتاب الله كاملاً وهي لم تتجاوز العاشرة، أخبرتها وقتها بتفاصيل حالة والدها؛ فكانت تذكره حيناً بالبكاء وأحياناً بالصمت. كانت "أسماء" ذات دينٍ؛ تصلي كل فرضٍ في وقته، وتقوم الليل؛ فأحمد الله أن وفقني لتربيتها، وكانت عندما تذهب معي لرؤية والدها تقرأ عليه ما تيسر من القرآن الكريم وتتصدق عنه بين الحين والآخر.

في أحد الأيام - بعد خمس عشرة سنة - قالت لي "أسماء": "يا أماه، اتركيني عند أبي، سأنام عنده الليلة"، وبعد ترددٍ وافقت، وكانت ليلةً عجيبةً لا تُنسى أخبرتني عنها ابنتي فقالت: "جلستُ بجانب أبي أقرأ سورة البقرة حتى ختمتها، ثم غلبني النعاس فنمت؛ فوجدتُ كأن ابتسامةً علت محياي، واطمأن قلبي لذلك؛ فقمتُ من نومتي وتوضأت وصليتُ ما شاء الله أن أصلي، ثم غلبني النعاس مرةً أخرى. وأنافي مصلاي سمعتُ كأن شخصاً يقول لي: «انهضي، كيف تنامين والرحمن يقظان؟ كيف وهذه ساعة الإجابة التي لا يرد الله عبداً يسأله فيها؟» فنهضتُ كأنما تذكرتُ شيئاً غائباً عني، فرفعتُ يديَّ ونظرتُ إلى أبي وعيناي تغرورقان بالدموع، وقلت: «ربِ يا حي يا قيوم يا عظيم يا جبار يا كبير يا متعال يا رحمن يا رحيم .. هذا والدي عبدٌ من عبادك أصابته الضراء فصبرنا.. وحمدناك وآمنا بما قضيته له.. اللهم إنه تحت مشيئتك ورحمتك.. اللهم يا من شفيتَ أيوب من بلواه، ورددتَ موسى إلى أمه، وأنجيتَ يونس في بطن الحوت، وجعلتَ النار برداً وسلاماً على إبراهيم .. اشفِ أبي مما حل به.. اللهم إنهم زعموا أنه ميئوسٌ منه.. اللهم - ولك القدرة والعظمة - الطف به وارفع البأس عنه». ثم غلب النوم عينيّ فنمت قُبيل الفجر، وإذ بصوتٍ خافتٍ يناديني: «من أنتِ؟ وماذا تفعلين هنا؟»، فنهضتُ على الصوت .. اِلتفَّتُ يميناً وشمالاً فلم أرَ أحداً، ثم سمعتُ نفس الصوت مرةً أخرى فإذا بصاحب الصوت أبي! فما تمالكتُ نفسي؛ قمتُ واحتضنته فرِحةً مسرورةً .. وهو يُبعدني عنه ويستغفر ويقول: «اتقِ الله؛ لا تحلين لي»، قلتُ له: «أنا ابنتك أسماء» فسكتَ .. وخرجتُ إلى الأطباء أخبرهم فأتوا ولما رأوه تعجبوا؛ فقال الطبيب الأمريكي بلكنةٍ عربيةٍ متكسرةٍ: «سبحان الله»، وقال طبيبٌ آخر مصريٌ: «سبحان من يحيي العظام وهي رميم» .. وأبي لا يعلم ما الخبر حتى أخبرناه بما حدث له، وبما كانت عليه حالته؛ فبكى وقال: «الله خيرٌ حافظاً وهو أرحم الراحمين .. واللهِ ما أذكر إلا أنني قُبيل الحادث نويتُ أن أتوقف لصلاة الضحى، فلا أدري أصليتها أم لا؟»". 
تقول الزوجة: فرجع إلينا أبو "أسماء" كما عهدته، وقد قارب عمره ستةً وأربعين عاماً، ورُزقت منه بولدٍ بلغ عمره الآن سنتين ولله الحمد، فسبحان الله الذي رده لنا بعد خمسة عشر عاماً، وحفظ ابنته، ووفقني للوفاء وحسن الإخلاص له حتى وهو مغيبٌ عن الدنيا.



أحبتي في الله .. تقول هذه الزوجة: لا تتركوا الدعاء؛ (الدعاء يرد القضاء)، ومَن حَفظ الله حفظه الله. ولا تنسوا البر بوالديكم. ولنعلم أن الله عزَّ وجلَّ بيده تصريف الأمور وتقديرها، وليس لأحدٍ سواه فعل ذلك. إنها قصةٌ للعبرة؛ لعل الله أن ينفع بها. فإلى من ضاقت به السبل، وعظمت عليه الكُرَب، وأُقفلت من دونه الأبواب، وتقطعت به الأسباب: اقرع باب السماء بالدعاء، واستيقن بالإجابة، لا تيأس، ما دام ربك الله، عليك أن تدعو، وأنت تُحسن الظن بالله سبحانه، وتيقن بقرب الفرج والإجابة.                

يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾، ويقول سبحانه: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾، ويقول تبارك وتعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا﴾، ويقول عزَّ وجلَّ: ﴿هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾، ويقول تعالى: ﴿قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى﴾، ويقول سبحانه: ﴿وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا﴾، كما يقول: ﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً﴾، ويقول كذلك: ﴿وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ﴾، ويقول عزَّ من قائل: ﴿وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾، ويقول أيضاً: ﴿فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾،ويقول: ﴿هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾. ويقول على لسان سيدنا إبراهيم عليه السلام: ﴿وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا﴾، ويقول: ﴿إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ﴾.

وقال رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: [إِنَّ الدُّعَاءَ هُوَ الْعِبَادَةُ]، وفي روايةٍ: [الدُّعَاءُ مُخُّ الْعِبَادَةِ]. وقال صلى الله عليه وسلم: [ادْعُوا اللَّهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالْإِجَابَةِ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَجِيبُ دُعَاءً مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ لَاهٍ]. يقول العلماء إن معنى "مُوقِنُونَ بِالْإِجَابَةِ" أي: يغلب على ظنكم أن الله تعالى يتقبل دعاءكم، ويحقق مرادكم، وهذا من إحسان الظن بالله تعالى، وقد جاء في الحديث القدسي: {أنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي؛ إِنْ ظَنَّ خَيْرًا فَلَهُ، وَإِنْ ظَنَّ شَرًّا فَلَهُ}.

يقول أهل العلم إن لقبول الدعاء شروطاً منها: الدعاء لله وحده لا شريك له، بأسمائه الحُسنى وصفاته العُلى، بصدقٍ وإخلاصٍ. ومنها: ألا يدعو المرء بإثمٍ أو قطيعة رحمٍ أو يستعجل؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لا يزَالُ يُسْتَجَابُ لِلعَبْدِ مَا لَم يدعُ بإِثمٍ، أَوْ قَطِيعةِ رَحِمٍ، مَا لَمْ يَسْتعْجِلْ] قيل: يا رسول اللَّه مَا الاستعجال؟ قَالَ: [يَقُولُ: قَدْ دعَوْتُ، وَقَدْ دَعَوْتُ فَلَم أَرَ يَسْتَجِيبُ لي، فَيَسْتَحْسِرُ عِنْد ذَلِكَ، ويَدَعُ الدُّعَاءَ]. وفي هذا الحديث أدبٌ من آداب الدعاء، وهو الإلحاح وملازمة الطلب، وعدم اليأس من الإجابة؛ لما فيذلك من الانقياد والاستسلام، وإظهار الافتقار، حتى قال بعض السلف: "لأنا أشد خشيةً أن أُحرم الدعاء من أن أُحرم الإجابة". وقال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَدْعُو بِدَعْوَةٍ لَيْسَ فِيهَا إِثْمٌ وَلَا قَطِيعَةُ رَحِمٍ إِلَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ بِهَا إِحْدَى ثَلَاثٍ: إِمَّا أَنْ تُعَجَّلَ لَهُ دَعْوَتُهُ، وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَهَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ مِنْ السُّوءِ مِثْلَهَا]، قَالُوا: إِذًا نُكْثِرُ؟ قَالَ: [اللَّهُ أَكْثَرُ].

وينبغي للداعي أن يدعو بقلبٍ حاضرٍ، وأن يتحرى أوقات الإجابة؛ كالثلث الأخير من الليل، وبين الأذان والإقامة، وعند الإفطار من الصيام، ووقت المطر. وليعلم أن (الدعاء يرد القضاء)؛ قال النبي عليه الصلاة والسلام: [لا يردُّ القضاءَ إلَّا الدُّعاءُ، ولا يزيدُ في العمرِ إلَّا البرُّ]، وقال صلى الله عليه وسلم: [... وَالدُّعَاءُ يَنْفَعُ مِمَّا نَزَلَ، وَمِمَّا لَمْ يَنْزِلْ، وَإِنَّ الْبَلَاءَ لَيَنْزِلُ فَيَتَلَقَّاهُ الدُّعَاءُ فَيَعْتَلِجَانِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ]، كما يدل على ذلك حديث القنوت الذي جاء فيه: [وَقِنِي شَرَّ مَا قْضَيْتَ].

أحبتي .. أوصيكم ونفسي بالإكثار من الدعاء؛ فهو عبادةٌ سهلةٌ لا مشقة فيها، لا تُكلف مالاً ولا جهداً، ولا تستلزم وضوءً ولا طهارةً ولا استقبال قبلةٍ ولا سفراً، ولا تستغرق وقتاً .. إنها عبادةٌ ميسرةٌ لمن يسرها الله له. فلندعو الله دائماً - خاصةً في أوقات الاستجابة - ولنكن موقنين بالإجابة، فمن ذا الذي يرفع يديه للكريم مؤمناً مخلصاً خاشعاً منيباً موقناً فيردهما صفراً خائبتين؟ قال عليه الصلاة والسلام: [إِنَّ اللَّهَ حَيِيٌّ كَرِيمٌ، يَسْتَحِي إِذَا رَفَعَ الرَّجُلُ إِلَيْهِ يَدَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا خَائِبَتَيْنِ].

اللهم إنا ندعوك باسمك الأعظم الذي إذا دُعيتَ به أجبت، وإذا سُئلتَ به أعطيت، وإذا اُسترحمتَ به رحمت، وإذا اُستجرتَ به أجرت، وإذا اُستغفرتَ به غفرت، أن تكفر عنا سيئاتنا، وتغفر لنا ذنوبنا، وتقبل منا أعمالنا، وتتوفنا وأنت راضٍ عنا.

http://bit.ly/34ixA9N

الجمعة، 6 ديسمبر 2019

أخوك سندك


الجمعة 6 ديسمبر 2019م

خاطرة الجمعة /٢١٦
(أخوك سندك)

كتب يقول: هذه قصتي مع أخي أكتبها كما حدثت في الواقع، لعل البعض يتعظ منها، فلا يظل يحمل مشاعر الأسى والمرارة والندم كما أحملها أنا.
كنا أنا وأخي أعداءً في صغرنا، واستمر عداؤنا حتى عندما كبرنا وتزوج كلٌ منا استمرت عداوتنا، حتى أن زوجتينا كانتا حينما تجتمعان صدفةً في بيت أبي تحدث بينهما مشاكل! احتارت أمي كثيراً معنا، وكذلك أبي، وكانا يخافان أن يقفا مع أحدٍ منا في رأيٍ فيَغضب الآخر. استمرت العداوة وظل الخصام قائماً بيننا، لم يتغير الحال. ماتت أمي، وبعدها بخمس سنواتٍ مات أبي، كانت والدتي - رحمها الله - تقول لكلٍ منا دائماً: "يا ابني (أخوك سندك)". والوالد - رحمه الله - كان غاضباً منا لعدائنا المستمر، لا يكلمنا، وإذا كلمنا كان كلامه معنا رسمياً جداً كأننا أغراب، وكان يقول للوالدة: "عسى الله يهديهما، سيأتي اليوم الذي يعرفان فيه قيمة بعضهما، ويتذكران كلامنا: إن الأخ لا يُعوض؛ لو تألم الواحد منهما يقول «أخ»، لا يقول صاحبي أو صديقي".
بعنا أملاك أبي، وأخذ كل واحدٍ منا حقه ونصيبه من الميراث، وذهب كل واحدٍ منا في طريق، لم يعد بيننا أي اتصال، ولا ندري عن بعضٍ شيئاً! وكبر أبناؤنا ولم يتقابلوا أو يلتقوا أبداً، حتى أنهم لا يعرفون بعضهم بعضاً!
في واحدٍ من أسوأ أيام حياتي، دخلتُ في مضاربات سوق الأسهم وخسرتُ فيها كل ما أملك؛ فصارت أحوالي المعيشية صعبةً للغاية. مرضتُ بمرض السكري، ومع الضغوط، ومن كثرة التفكير في حالي وحال أسرتي وأبنائي، وندمي لأني ضيعتُ كل شيءٍ في لحظات طمع، أصابتني جلطةٌ أفقدتني عيني اليمنى.
في يومٍ آخر، كان من أحسن أيام حياتي، دعوتُ ربي وأنا أصلي الفجر وقلتُ: "اللهم ارحم ضعفي وقلة حيلتي، وعوضني خيراً مما ضاع مني"، وبكيتُ كما لم أبكِ من قبل. في ذلك اليوم التقيت مصادفةً بصديقٍ قديمٍ لي كان جارنا ونحن صغار، سلَّم عليّ، وعرف مني كل شيءٍ عن: أسرتي، وعملي، ومكان سكني. بعد أسبوعٍ زارني في بيتي وقال: "لي طلبٌ عندك، لا تردني خائباً"، قلتُ له: "أبشر"، قال: "هذا مبلغٌ من المال، ابدأ به حياتك من جديد، اعتبره قرضاً وديْناً عليك، رده عندما يفرجها عليك الله"، أعطاني مبلغاً كبيراً فشكرته، وقدرتُ له جميله ومعروفه. بدأتُ بهذا المبلغ في تنفيذ مشروعٍ صغيرٍ كبر مع الأيام، والحمد لله، عوضني ربي به كل ما فقدته في بورصة الأسهم؛ فكنتُ دائم الشكر لله على فضله، وعلى أن رزقني ذلك الصديق الذي أخذ بيدي ووقف إلى جانبي وساعدني. في أحد الأيام تفاجأت بصديقي يزورني ويقول لي: "اعذرني؛ جئتُ إليك اليوم بغير ميعادٍ وذلك لأمرٍ ضروريٍ ومهمٍ لا يحتمل التأجيل"، قلت له: "خيراً إن شاء الله. إن كنتَ جئتَ تطلب مالك الذي أقرضتني إياه؛ فأبشر، ربنا - له الحمد - قد فرجها، أمهلني عدة أيام أرتب خلالها أموري وأرد لك ديْنك"، قال لي: "الأمر أهم بكثيرٍ من ذلك"، سألته وأنا قلقٌ: "أخبرني إذن، ما هو هذا الأمر الهام؟"، قال لي: "المال الذي أقرضتك إياه، لم يكن مالي أنا؛ بل هو مال أخيك"، قاطعته متعجباً: "تقول مال أخي، هل هذا معقول؟!"، قال: "نعم؛ علم أخوك بحالك فطلب مني أن أسلمك ذلك المال، وحلفني بالله أن يكون هذا الأمر سراً بيني وبينه. وقال لي بالحرف الواحد «ما أقدر أشوف أخوي محتاج وأتركه في هذه الحالة، خذ هذا المبلغ واعطه له كأنه منك أنت، ولا يدري أنه مني»"، كنت أستمع بذهولٍ لما يقوله صديقي؛ لم أكن أصدق أن أخي - الذي طالت بيني وبينه العداوة كل هذه السنين - هو الذي سارع إلى مساندتي والوقوف بجانبي في محنتي. أخرجني صديقي من حالة الذهول التي انتابتني إلى حالةٍ أخرى من القلق حينما قال لي: "ليس هذا هو الأمر المهم الذي جعلني آتي إليك بغير موعدٍ سابق"، قلتُ مستبقاً ما يود قوله: "ما الأمر إذن؟ أخبرني"، قال: "جئتُ إليك اليوم لأخبرك أن أخاك في المستشفى، يرقد في غرفة العناية المركزة بين الحياة والموت، أرجوك أن تزوره وتتسامح أنت وهو، وأنا أشهد أنه يحبك". وقع عليّ هذا الخبر كالصاعقة؛ فذهبتُ مسرعاً إلى المستشفى، ودموعي تسابقني، تغسل كره السنين الذي حملته لأخي، وشريط ذكريات خصامي أخي وعداوتي له يمر في مخيلتي، ثم مفاجأة تفضله عليّ بالقرض الحسن، كل تلك الأفكار كانت تؤجج مشاعري ولازمتني حتى  دخلتُ إلى غرفة الإنعاش، فرأيتُ أخي راقداً ممدداً على سريره دون حراك، وقد أوصل الأطباء جسمه بالعديد من الأجهزة، أمسكتُ بيده، ودموعي الحارة تغالبني، قبَّلتُ رأسه، وطلبتُ منه أن يسامحني، استطاع بالكاد أن يفتح عينيه فنظر إليّ وتساقط الدمع على وجنتيه، وارتسمت ابتسامةٌ خفيفةٌ على شفتيه، وضم يده إلى يدي وشدَّ عليها، لم ينطق بأية كلمةٍ، أرخى جفونه في سلامٍ ثم شهق شهقةً مات بعدها. كأنه كان ينتظر حضوري ليلفظ أنفاسه الأخيرة ويموت بين يديّ.
يعلم الله كم ندمتُ على كل يومٍ من أيام العمر مرَّ وأنا وأخي في خصامٍ. ما أشد إحساسي بالمرارة حينما أتذكر أنه لم يقف معي في شدتي إلا أخي، وأن روحه لم تفارق جسده إلا عندما رآني واطمأن عليّ. أحاول الآن إصلاح ما فسد، ولكن بعد فوات الأوان؛ فأذهب كل يوم جمعةٍ إلى قبر أخي وأبكي، وأتذكر كلام أمي: "يا ابني (أخوك سندك)".

أحبتي في الله .. الأخ لا يُعوض؛ فمهما زاد عدد الأصدقاء الذين يحيطون بنا لن يحلوا محل الأخ ولن يعوضوه إن هو غاب، الأخ للأخ عونٌ وسندٌ، قصدهما واحدٌ؛ يقول النحويون: "سُمي الأخ أخاً لأن قَصْدَه قَصْدُ أخيه، وأصله من وَخَىَ أي قَصَدَ".
الأخ هو الذي طلب سيدنا موسى من الله سبحانه وتعالى أن يجعله سنداً له يُعينه في أمر الدعوة؛ فقال عليه السلام: ﴿وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي . هَارُونَ أَخِي . اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي . وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي﴾؛ فاستجاب له المولى عزَّ وجلَّ بقوله: ﴿سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ﴾، وبقوله تعالى: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا﴾. وهو الذي دعا له سيدنا موسى عليه السلام؛ فقال: ﴿رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾.
الأخ هو الذي ذكره تبارك وتعالى في سورة يوسف بقوله: ﴿وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾.
والأخ هو الذي بيَّن لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أَوْلَى الناس بالإحسان والبِر والإكرام، بعد الأم والأب والأخت؛ قال عليه الصلاة والسلام: [يَدُ الْمُعْطِي الْعُلْيَا، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ؛ أُمَّكَ وَأَبَاكَ وَأُخْتَكَ وَأَخَاكَ، ثُمَّ أَدْنَاكَ أَدْنَاكَ].

يقول أهل العلم الشرعي إن الله سبحانه وتعالى أمرنا بصلة الأرحام، وخصَّ الأخ بمزيدٍ من البِر والإحسان، فإن له منزلةً كريمةً، ومكانةً ساميةً عظيمةً؛ فهو عطيةٌ من الله تعالى، وهبةٌ منه سبحانه، فالأخ هو الحصن لأخيه، وهو مصدر العون والمنعة والقوة، يقف معه ويؤازره بكل ما استطاع، وهو ركنه الذي يلجأ إليه في مواجهة أعباء الحياة.
وبِرُ الأخ يكون بالسؤال عنه وعن أولاده وأهله، وتفقد أحواله، والتودد إليه، وزيارته وصلته، ومشاركته في أفراحه وأتراحه؛ فالدم الذي يسري في عروق الإخوة واحدٌ، فقد تربوا في بيتٍ واحدٍ، واجتمعوا على طعامٍ واحدٍ، تجمعهم ذكرياتٌ جميلةٌ في طفولتهم، ومواقف لا تُنسى في نشأتهم وصباهم وشبابهم، وتُوحدهم علاقات المحبة والتعاون طيلة حياتهم.
إن قوام العلاقة الصادقة بين الأخ وأخيه أن يحب له ما يحب لنفسه؛ فالأخ يحب لأخيه الخير، ويعمل على تحقيق نفعه. والأخ مرآة أخيه؛ إذا رأى فيه عيباً أصلحه، وإن وجد فيه نقصاً أكمله، وإذا نصحه أخلص النصيحة له، فينصحه بالفضائل، ويدله على المحاسن، ويستشيره فيما عرض له من الأمور، وصدق منقال: (أخوك سندك).

يقول علماء النفس والاجتماع إنه ليس هناك أفضل من وجود أخٍ لك، تعتمد عليه في شتى الأمور، تشكو له همومك، وتجده أوّل من يفرح لفرحك، فالإخوة هم نعمةٌ من الله مَنَّ بها علينا؛ إنهم سندنا وقوتنا في الدنيا، وهم مصدر عزتنا وفخرنا، يتحقق بقوة علاقتنا الترابط والانسجام للأسرة، والسعادة والاطمئنان للأهل، والتلاحم والسلام للمجتمع.

قال الشاعر:
إنّ أخاك الصّدق مَن يسعى معك
ومَن يضرّ نفسه لينفعك
ومن إذا صَرْفُ زمانٍ صَدَّعك
بدَّد شملَ نفسِه ليجمعك
وقال آخر:
وليس أخي مَن ودّني بلسانه
ولكن أخي مَن ودّني وهو غائبُ
ومَن ماله مالي إذا كنت معدماً
ومالي له إن أعوزته النّوائبُ

ولنحذر من عداوة الأخ والخصومة معه، فإن فيها قطيعةً للأرحام التي أمرنا الله سبحانه وتعالى أننصلها؛ يقول تعالى: ﴿وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ﴾، وقرن قطعها بالإفساد في الأرض؛ يقول تعالى: ﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ﴾، وينبهنا رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم بأنه: [لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ، يَلْتَقِيَانِ، فَيُعْرِضُ هَذَا، ويُعْرِضُ هَذَا، وخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ] هذا للأخين في الدين والعقيدة، فما بالنا إذا كانا أخين شقيقين بالنسب تربطهما صلة الدم وصلة الرحم؟ ألا تقشعر أبداننا عندما نقرأ ما أخبرنا به عليه الصلاة والسلام حين قال: [لاَ يَدْخُلُ الجَنَّةَ قَاطِعُ رَحِمٍ]؟!

أحبتي .. لا تكونوا - يرحمكم الله - من قاطعي الأرحام. احرصوا على تقوية علاقتكم بإخوانكم؛ مَن كانت صلته بأحد إخوانه مقطوعةً فليسارع إلى مصالحة أخيه، الآن الآن وليس غداً؛ فلا يدري في أية لحظةٍ يأتي الموت فيفارق أخاه أو يفارقه أخوه وهما على خصامٍ وقطيعةٍ فيكون الخسران وتكون الحسرة والندامة حين لا ينفع ندم. ومَن كانت علاقته مع أخٍ له فاترةً فليبادر إلى تحسينها وتقويتها؛ (أخوك سندك) وظهرك ونعمةٌ أنعم بها الله عليك، ليشد به عضدك. ومَن هداه الله فكانت علاقته مع إخوانه طيبةً فليعمل على تعزيزها؛ يقول تعالى: ﴿وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى﴾.
وما ينطبق على إخواننا في النسب، ينطبق على إخواننا في الدين، كما ينطبق أيضاً على أخواتنا.
اللهم احفظ لنا إخواننا، وبارك لنا في علاقتنا بهم، واجمعنا وإياهم على الخير دائماً، واهدنا إلى ما فيه رضاك، وابعدنا عن كل ما يغضبك ويسخطك يا رب العالمين.

http://bit.ly/38f9HCU


الجمعة، 29 نوفمبر 2019

إمهال الله لعباده فرصةٌ لا تُعوض


الجمعة 29 نوفمبر 2019م

خاطرة الجمعة /٢١٥
(إمهال الله لعباده فرصةٌ لا تُعوض)

تحت عنوان "حين داهمني الموت، ما الذي حدث؟" كتبتْ تقول: في يومٍ من الأيام، وأنا على سجادة الصلاة، والكسل يغلبني وضعتُ رأسي بوضعية السجود مُلقيةً بثقلي على الأرض، بقيتُ على ذلك وقتًا ليس بالقصير. هممتُ بالوقوف للصلاة مستعيذةً بالله من الكسل، فلما وقفتُ ودخلتُ في الصلاة، فجأةً، أظلمت الدنيا في عينيّ فأصبحتُ لا أرى إلا سوادًا قاتمًا مُخيفًا، وتملكني إحساسٌ بأن الدماء تتدفق إلى رأسي ساخنةً وهي تفور، وأني أكاد أسقط على الأرض من ثقل رأسي. أيقنتُ لحظتها أنه الموت لا مناص منه، فطار قلبي رُعبًا وخوفًا من تلك النهاية. لم أتذكر من القرآن الكريم كله إلا قوله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ . لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾، ولكأن لساني يصرخ بها لكني لا أستطيع الصراخ، ولا أقوى على إخراج أي صوت. بدأتْ الآن إذن سكرات الموت. وجدتني أكلم نفسي وأقول: "يا ربِ كنتُ في صلاةٍ، لكن لم أخشع فيها، ليتني علمتُ أنها آخر صلاةٍ لكنتُ خشعتُ خشوعًا لم أخشعه في حياتي من قبل؛ كيف لا وهي صلاة مودع!". ثم تذكرتُ أعمالاً صالحةً كنتُ أنوي عملها لكني كنت دائماً أؤجلها لأعذارٍ واهيةٍ؛ فأردتُ أن أصرخ قائلةً: "ربِ أنظرني لأفعل كذا وكذا؛ فأنا لم أتوقع أن الموت سيفاجئني وأنا أصلي، ولم أستعد بأي شيءٍ فقد كنتُ أؤجل، وطول الأمل يَغُرُّني ويُغْريني، أنا في صلاةٍ الآن، لكني يا ربِ لم أفرح لأن الموت أتاني الآن وأنا أصلي، رغم أني كنتُ أتمنى هذه الميتة وأدعوك أن تحققها لي، لكن لما أتى الجد علمتُ أني كنتُ أُمَنّي نفسي بالعمل الصالح ولا أعمله. وصلاتي هذه أستحي منك ربي أن تقبضني عليها، فإني بلغتُ من التقصير في حقك يا رب مبلغًا، أنت سبحانك أعلم به مني، فاعفُ عني يا الله!". حانت ساعة الفراق، ما الذي سينفعني الآن؟ أحسستُ وقتها أني غادرتُ الحياة الدنيا وانتقلتُ إلى حياة البرزخ. كل الأماني رحلت حين وافتني المنية، ولم يبقَ سوى ما أخلصتُ فيه النية. الآن يُعرف المؤمن الحق من المنافق، ويرى كل عبدٍ مقعده من الجنة أو النار. قلتُ لنفسي معاتبةً: "كنتِ يا نفسي تظنين أنكِ من عباد الله الأخيار الصالحين، ولعب الشيطان بفكرك حتى صوّرك بأبهى وأطهر صورة. الآن ذهب كل شيءٍ، ولم يبقَ إلا العمل الصالح والخوف من الله. فماذا استفدتِ يا نفسُ الآن؟! صندوق عملك يكاد يطير خفّةً فلا شيء يُثقله! الآن لحظة نزع روحك، لقد انتهى وقت الاختبار". كل هذه الأفكار دارت في ذهني للحظاتٍ، ثم زالت بعدها الظلمة من عينيّ، وبدأتُ أرى شيئًا فشيئًا، زالت العتمة؛ لكأن الله سبحانه وتعالى يقول لي: "سنمهلك لنرى ماذا ستعملين!".

أحبتي في الله .. قرأتُ هذه القصة على أحد مواقع الإنترنت فاقشعر بدني. وضعتُ نفسي - للحظاتٍ - مكان كاتبة القصة؛ فعلمتُ كم أنا مقصر، وعلمتُ أن (إمهال الله لعباده فرصةٌ لا تُعوض) ونعمةٌ عظيمةٌ لا يشعر بقيمتها إلا المقصرون من أمثالي.
يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا﴾، ويقول تعالى: ﴿وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا﴾، وفي كلتا الآيتين يكون الإمهال للكافرين والمكذبين.

ويقول رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [إِنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ قَالَ ثُمَّ قَرَأَ "وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ"]، والإمهال هنا للظالمين.
يقول تعالى: ﴿وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ﴾؛ كأن الله سبحانه وتعالى يقول: عمرناكم في الأرض عمراً مديداً، وأمهلناكم زمناً طويلاً، فماذا فعلتم فيه؟
يقول المفسرون في معنى هذه الآية: أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر، من ذوي الألباب والعقول، واتعظ منهم من اتعظ، وتاب من تاب، وجاءكم من الله منذرٌ ينذركم ما أنتم فيه اليوم من عذاب الله، فلم تتذكروا مواعظ الله، ولم تقبلوا من نذير الله الذي جاءكم ما أتاكم به من عند ربكم.

يقول أهل العلم إن الله يُنعم على الناس بكثيرٍ من النعم، لكن الإنعام ليس دليلَ محبَّة الله سبحانه وتعالى؛ فإنَّ الله عزَّ وجلَّ لَم يَحجب الرزق عن الكفَّار لكفرهم، أو الفجار لفجورهم، فإنَّه يعطي الدنيا مَن يحبُّ ومَن لا يحبُّ، ولا يعطي الدِّين إلاَّ لِمَن أحبَّ، فمَن أعطاه الله الدين فقد أحبَّه؛ فالمؤمن يُجازى بالذنوب، والكافر والمنافق والفاسق يُستدرَج بالنِّعم؛ يقول تعالى: ﴿سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ . وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ﴾، فيسبغ الله عليهم النِّعمَ، وينسيهم الشُّكرَ، وكم من مُستدرَجٍ بالإحسان إليه، وكم من مَفتونٍ بالثناء عليه، وكم من مَغرورٍ بالستر عليه؛ يقول النبي صلَّى الله عليه وسلَّم: [إِذَا رَأَيْتَ اللَّهَ يُعْطِي الْعَبْدَ مِنْ الدُّنْيَا عَلَى مَعَاصِيهِ مَا يُحِبُّ، فَإِنَّمَا هُوَ اسْتِدْرَاجٌ]، ثم تلا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ﴾. إنه عطاءُ إمهالٍ وإملاءٍ واستدراجٍ، لا عطاءَ محبَّةٍ كما يظنُّ البعض؛ قال تعالى: ﴿فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ  . أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ . نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ﴾. هكذا موقف الفُسَّاق والكفَّار، عطاءٌ وإمهالٌ واستدراجٌ؛ كما قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: [إنَّ الله ليُملي للظالِم، حتى إذا أخَذه لَم يُفْلته]، ثم قرأ: ﴿وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ﴾. يظن البعض أنَّ ما يُعايشه من سلامٍ وأمانٍ، مع كثرة ذنوبه وإصراره على الضلال، حبًّا وقَبولاً من الله، والحقُّ أنه إملاءٌ وإمهالٌ؛ يقول الله تعالى: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِير﴾، ويقول سبحانه: ﴿إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾.



السؤال: هل الإمهال هو للكافرين والمكذبين والظالمين فقط؟ فإذا لم نكن من هؤلاء، وكنا مقصرين ندعو الله أن يعطينا فرصةً للتوبة، أو مؤمنين نسأله سبحانه أن يُسهل لنا أداء المزيد من العبادات والمزيد من أعمال الخير والبر، فهل في إمهال الله لنا فرصةٌ لتحقيق ذلك؟
يرى جمهور العلماء أنه من رحمة الله سبحانه وتعالى أن جعل الإملاء يمتد ليشمل جميع خلقه: فهو فرصةٌ لإسلام غير المسلمين، وهو فرصةٌ لتوبة المسلمين المقصرين الغافلين المُسَوِّفين، كما أنه فرصةٌ للمؤمنين الأتقياء الصالحين للاستزادة من أعمال الخير والبر. إنه منحةٌ إذن لكل البشر؛ وصدق من قال إن (إمهال الله لعباده فرصةٌ لا تُعوض).

يقول أهل العلم إن عمر الإنسان في هذه الحياة هو فرصةٌ له لمزيدٍ من العمل الصالح، فإذا استغل ما بقي له من أنفاسٍ وساعاتٍ وأيامٍ وشهور وسنين فيما يقربه إلى الله ازداد رصيده؛ فالزمن يمضي وينقضي، وهو رأس مال الإنسان في هذه الحياة الفانية، فالسعيد من اغتنمه في الطاعات، وشغله في إرضاء رب الأرض والسموات، والشقي من ضيَّعه في المنكرات، وأهدره في المعاصي والمحرمات. وعندما سُئل رَسُولُ اللَّهِ مَنْ خَيْرُ النَّاسِ؟ قَالَ: [مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ]، وفي الحديثِ حثٌّ على التَّزوُّدِ مِن الطَّاعاتِ كلَّما زاد العُمرُ، وفيه أنَّ الزِّيادةَ في عُمرِ المُحسِنِ علامةُ خيرٍ، والزِّيادةَ في عُمرِ المسيءِ علامةُ شرٍّ؛ فعلى ذلك ينبغي للإنسان أن يسأل الله دائماً أن يجعله ممن طال عمره في طاعةٍ، من أجل أن يكون من خير الناس.

وأتفكر في أحوالنا، وفي إمهال الله عزَّ وجلَّ لنا: يُمهلنا بأن يعطينا مع كل يومٍ جديدٍ ساعاتٍ إضافيةً عسى أن يتوب المسيء منا، وعسى أن يستثمرها المؤمن في مزيدٍ من العبادة وأعمال الخير والبر. يُمهلنا مع كل رزقٍ جديدٍ ليرى هل نكون من الشاكرين فيزيدنا من فضله؟ أم من الغافلين عن شكره فنستحق الحرمان أو التقتير أو إمساك الرزق؟ ثم ليعلم سبحانه ماذا نحن فاعلون برزقه، أننفقه في حلالٍ أم في حرام؟ أنخرج زكاته؟ أنتصدق ببعضه على لفقراء والمساكين؟ يُمهلنا بأن يُنعم علينا بصحةٍ وعافيةٍ لم يُنعم بمثلها على غيرنا، فينظر أنستخدمها في الخير أم الشر؟ أنستعملها فيما يُرضيه أم فيما يُغضبه ويُسخطه؟ يُمهلنا مع كل مصيبةٍ من مصائب الدنيا لينظر أنصبر فننال ثواب الصابرين؟ أم نجزع ونسخط فنكون من الخاسرين؟ يُمهلنا بأن يُعطينا جاهاً ونفوذاً فينظر أنتكبر ونتعالى على خلقه؟ أم نكون من المتواضعين؟ يُمهلنا بأن يُعطينا سيادةً وقيادةً فينظر هل منعنا الظلم؟ هل أقمنا العدل؟ هل مكَّنا لتطبيق شرعه الحنيف الذي ارتضى لنا؟ هل نصرنا المستضعفين من المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها؟ يُمهلنا بأن يُنعم علينا بنعمة العلم فينظر أنتباهى به؟ أيكون سبباً في كِبرنا وغرورنا؟ أنخفيه عن الناس؟ أنتاجر به من أجل دنيا فانية، أم نجعله في خدمة البشر؟ يُمهلنا بأن يُنعم علينا بنعمة العقل فينظر هل نسخره فيما ينفع أم فيما يضر؟ يُمهلنا بأن يُنعم علينا بمواهب خاصةٍ قلّ أن يتمتع بها غيرنا فينظر كيف نستخدمها؛ هل في شيءٍ مفيدٍ أم في أمور ليس من ورائها إلا ضياع الوقت والجهد والمال؟
هكذا تتوالى نعم الله علينا، وفي كلٍ منها إمهالٌ واختبارٌ وابتلاءٌ، فهل نحن على بصيرةٍ من ذلك أم في غفلةٍ لاهون؟ إن (إمهال الله لعباده فرصةٌ لا تُعوض).

أحبتي .. أنصح نفسي وإياكم بما نصح به أحد العارفين حين قال: إن كنتَ ممن وُّفقتَ للخيرات، فاشكر الله على الفضل الكبير، واحمده على الخير الكثير، وسله سبحانه الإخلاص والثبات حتى الممات، وإن كنتَ من أهل التقصير والتفريط، وضاع وقتك فيما لا ينفع، فبادر بالتوبة قبل فوات الأوان، فأبوابها ولله الحمد مفتوحةٌ للتائبين، واغتنم ما بقي من حياتك في طاعة ربك وإرضاء خالقك، واعلم أن الذين أضاعوا أعمارهم في غير طاعةٍ باءوا بالخسران المبين؛ يقول تعالى: ﴿قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ . وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ﴾.
اللهم اجعلنا من الذين يعقلون، الذين يعلمون أن الدار الآخرة خيرٌ؛ فيعملون لها. اللهم لا تُمهلنا إلا لنفيق من غفلتنا، ونتدارك تقصيرنا، ونثوب إلى رشدنا، ونتوب توبةً نصوحاً، ونقلع عن سوء أفعالنا، لنقلل من أوزارنا، ونكثر من حسناتنا، ونزيد من خيرات أعمالنا وأقوالنا، حتى إذا جاءتنا الساعة بغتةً، وهي آتيةٌ لا ريبَ فيها، لا نكون من الخاسرين.

http://bit.ly/2rBGy4h



الجمعة، 22 نوفمبر 2019

التكافل في الإسلام


الجمعة 22 نوفمبر 2019م

خاطرة الجمعة /٢١٤
(التكافل في الإسلام)

قاضٍ قَلَّ أن يجود الزمان بمثله، عُرضت عليه في إحدى الجلسات قضيةٌ اهتزت لإنسانيتها جنبات المحكمة حين نُودي على اسم المتهمة - وكان لا يضع النساء داخل القفص - وكانت تُحاكم بجريمة تبديدٍ لمبلغٍ في إيصال أمانةٍ، دخلت المتهمة على المنصة، وكانت محبوسةً ولم يُفرج عنها لعدم سداد الكفالة، كانت في أواخر الأربعينيات من عمرها، واللافت للنظر فقر حالها. سألها القاضي: "لماذا لم تدفعي مبلغ  ٧٠٠٠ جنيه للسيد فلان؟"، بصوتٍ خائفٍ ومرتعشٍ أقرب للبكاء أجابته المسكينة: "المبلغ ليس٧٠٠٠ جنيه وإنما في حقيقة الأمر هو ١٠٠٠ جنيه فقط كنتُ قد استدنتهم نظير شراء بضاعةٍ من الحاج "فلان" التاجر والد الأستاذة المحامية الحاضرة في الجلسة، وكنتُ أعطيه ٦٠ جنيهاً كل شهرٍ، لكن حصلت لي ظروفٌ منعتني من السداد، ولم يُمهلني الحاج، ورفع عليّ هذه القضية بموجب إيصال  الأمانة الذي كان قد كتبه عليّ ب ٧٠٠٠ جنيه"، التفت القاضي إلى المحامية وسألها بأدبٍ وهدوءٍ عن صحة ما قالته السيدة المتهمة؛ فأنكرت المحامية معرفتها بالحقيقة. نظر القاضي إلى المتهمة وسألها عن حالها؛ فعلم أنها أرملةٌ تعمل لتربية بناتها الثلاث، فقال لها: "خيرٌ إن شاء الله"، ورفع الجلسة. وقبل أن يدخل غرفة المداولة وجَّه كلامه للمحامين الموجودين وقال لهم: "أعلم أنكم أصحاب فضلٍ ومروءةٍ، ولن تتأخروا عن فعل المعروف"، وأخرج منديلاً كان في جيبه وضعه على المنصة ثم أخرج من جيبه مبلغاً من المال وضعه في المنديل وقال: "هذه ٥٠٠ جنيه، هي كل ما معي الآن، ولا أدري مَن مِن السادة المحامين سيشاركني في سداد دين هذه السيدة؟". أعطى المنديل للحاجب فتوجه به إلى المحامين الذين تسابقوا في عمل الخير؛ دفع أولهم ١٠٠٠ جنيه، ثم توالى الباقون حتى تجمع في المنديل ما تجاوز ٨٠٠٠ جنيه. كانت المحامية ابنة صاحب الدين قد خرجت مسرعةً إلى خارج المحكمة واتصلت بوالدها وأخبرته بما تم، ثم عادت إلى القاعة ونُودي عليها حين دخلت المتهمة غرفة المداولة، وكان القاضي جالساً خلف مكتبه فأشار للمحامية قائلاً: "هذه ٧٠٠٠ جنيه موجودةٌ بالمنديل؛ تستطيعين أخذها وتتصالحين مع المتهمة ونفرج عنها"، قالت المحامية إن أباها أخبرها بألا تأخذ أكثر من ٥٠٠ جنيه قيمة الباقي من القرض. شكرها القاضي وابتسم ناظراً إلى المحامين الذين امتلأت بهم غرفة المداولة وقال: "أظن أنها أخذتال٥٠٠ جنيه الخاصة بي"؛ ضحك الجميع، فقاطعهم قائلاً: "وأظنكم لا تريدون أن يحرمكم الله ثواب المشاركة" فعلا صوت المحامين في الغرفة بالتأييد؛ فنظر إلى المتهمة ومد يده بالمنديل وباقي ال ٨٠٠٠جنيه وقال: "وهذه من الله لك ولبناتك"، فضجت غرفة المداولة بالتهليل والتكبير الذي سرى إلى القاعة وهتف كل من فيها. هرول كل الحاضرين في المحكمة إلى تلك القاعة يتساءلون: "ماذا حدث؟"، فيعلموا بأن ما حدث كان وجود قاضٍ رحيم.

أحبتي في الله .. هذا موقفٌ من مواقف (التكافل في الإسلام) التي غَلَّب فيها القاضي الإنسانية على القانون فكان العدل، وظهرت سماحة الإسلام في أبهى صورها من محبةٍ وتفاهمٍ وتعاونٍ وودٍ ورأفةٍ ورحمةٍ وتسامحٍ وصفحٍ وعفوٍ وإحسان، وهي جميعها قيمٌ إيجابيةٌ عظيمةٌ تقوي روابط الإخوة بين المؤمنين؛ يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾.
و(التكافل في الإسلام) قوامه العطاء وأساسه البر والتقوى؛ يقول تعالى: ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى . وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى . فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى﴾، ويقول تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى﴾. والزكاة والصدقات وجهٌ من وجوه التقوى؛ يقول سبحانه: ﴿وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى . الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى﴾، ويبين لنا المولى عزَّوجلَّ أن ما نتصدق به ليس منةً منا وإنما هو حقٌ للفقراء والمساكين؛ فيقول: ﴿وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْـمَحْرُومِ﴾، ويعلمنا أن الصدقات تطهر المال وتزكيه؛ فيقول تعالى: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا﴾، ويقرر أن الزكاة فريضةٌ واجبةٌ، ويحدد مستحقيها ومستحقي الصدقات بقوله: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْـمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْـمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللهِ﴾.
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: [الْـمُؤْمِنُ لِلْـمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا]، ويقول عليه الصلاة والسلام: [... مَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرُبَاتِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ]، كما قال صلى الله عليه وسلم: [مَا آمَنَ بِي مَنْ بَاتَ شَبْعَانَ وَجَارُهُ جَائِعٌ إِلَى جَنْبِهِ وَهُوَ يَعْلَمُ بِهِ]، وقال عليه الصلاة والسلام: [عَلَى كُلِّ نَفْسٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ طَلَعَتْ فِيهِ الشَّمْسُ صَدَقَةٌ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ]، وقَالَ صلى الله عليه وسلم: [مَنْ كَانَ مَعَهُ فَضْلُ ظَهْرٍ، فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لَا ظَهْرَ لَهُ، وَمَنْ كَانَ لَهُ فَضْلٌ مِنْ زَادٍ، فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لَا زَادَ لَهُ]، كما قال عليه الصلاة والسلام :[إِنَّ اللهَ فَرَضَ عَلَى أَغْنِيَاءِ الْـمُسْلِمِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ بِقَدْرِ الَّذِي يَسَعُ فُقَرَاءَهُمْ ...]، ويقول صلى الله عليه وسلم: [مَثَلُ الْـمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْـجَسَدِ؛ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْـجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْـحُمَّى].
وفي هذ المعنى يقول الشاعر:
ديـنُ التـكافـلِ والمحبــةِ دِينـُـه
لا ســــُـوقـَـةَ فـِيـــه ولا أُمَــــراءُ
فالمُسلمونَ جَميعُهم جَسدٌ إذا
عُضـوٌ شَكا سـَهِرَت لَه الأعْضَـاءُ

و(التكافل في الإسلام) يصفه العلماء بأنه دِعَامَةٌ أساسيةٌ من دعائم المجتمع الإسلامي، ويقولون إنه يشمل صوراً كثيرةً من التعاون والتآزر والمشاركة؛ تتمثَّل بتقديم العون والحماية والنصرة والمواساة، وذلك إلى أن تُقضى حاجة المضطر، ويزول هَمُّ الحزين، ويندمل جرحُ المصاب، ويبرأ جسدُ الأمة كاملاً من الآلام والأسقام.
ويقول أهل العلم إن العطاء من الله وحده، يهب ما يشاء لمن يشاء، يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، ولو شاء لجعل الجميع أغنياء، ولكنه سبحانه جعل في خلقه أغنياء وفقراء، وأقوياء وضعفاء؛ ليبلو بعضهم ببعض، والجميع في موضع الاختبار من الله، الفقير في موضع الاختبار من الله أيصبر أم يجزع؟ والغني في موضع الاختبار من الله أيعطي أم يبخل؟ والإسلام حين يكلف الغني برعايته للفقير، ويضع عليه التزاماتٍ معينةً نحوه، إنما يهدف إلى رفعة قدر ذلك الغني والحفاظ على كرامته فيظل مالكاً لماله لا مملوكاً له، وفي ذلك تحريرٌ للإنسان من عبوديته للمال. كما أن (التكافل في الإسلام) يحفظ كرامة غير القادرين الذين لا يجدون ما ينفقون، ويصونهم من مرارة البؤس وذل الاحتياج؛ ففيها إشعارٌ لهم بالتضامن والتآخي والتآزر والتعاون في محيط الجماعة المسلمة، التي لا يُهمَل فيها فردٌ، ولا يضيع فيها فقيرٌ أو مسكينٌ أو ذو حاجة.

يقول الشاعر:
إذا جَادت الدُنيـا عليك فُجدْ بها
على النـاسِ واعلم أنهـا تتقلــبُ
فلا الجودُ يُفنيهـا إذا هي أقبلتْ
ولا البخلُ يُبقيها إذا هي تَذهبُ
ويقول آخر:
يـَرْجـُـو بـِطـَاعَـتـهِ رِضَـــاهُ فَـإنـَــهُ
بِالجُودُ يُعْطي المُنفِقينَ رِضــــاهُ
فالمَـالُ مَـالُ اللهِ وهُـوَ المُـرتَجَـى
للسَـائليــنَ يُجِيــــبُ مَــنْ نـَـاداهُ

أما عن ثمرات (التكافل في الإسلام) فيقول أحد العارفين إنها عظيمةٌ في الدنيا والآخرة، ومن مظاهرها: تماسك بنيان المجتمع وحمايته، تقوية علاقة المسلم بالله وبالناس، نيل رضا الله ومحبته ورحمته، حصول البركة في العمر والمال والولد، إشاعة التحاب بين أفراد المجتمع، تحقيق العدل في المجتمع الإسلامي، تمتين العلاقات الاجتماعية بين المسلمين، شكر الله على نعمة المال، مواساة الفقراء والمساكين وسد حاجة المعوزين، إشاعة التراحم والتواد وتزكية النفس بإخراج الشُح منها، بركة المال ونماؤه ووقاية الإنسان من المصائب، النجاة يوم القيامة بإذن الله؛ يقول عليه الصلاة والسلام: [كُلُّ امْرِئٍ فِي ظِلِّ صَدَقَتِهِ حَتَّى يُفْصَلَ بَيْنَ النَّاسِ]، أَوْ قَالَ: [يُحْكَمَ بَيْنَ النَّاسِ].
وعن أفضل الصدقة يقول النبي صلى الله عليه وسلم: [أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ تَخْشَى الْفَقْرَ وَتَأْمُلُ الْغِنَى، وَلا تُمْهِلُ حَتَّى إِذَا بَلَغَتْ الْحُلْقُومَ قُلْتَ لِفُلانٍ كَذَا وَلِفُلانٍ كَذَا وَقَدْ كَانَ لِفُلانٍ]، ويقول كذلك: [جُهْدُ المُقلِّ وابدأْ بمن تَعُولُ].
ومن أعظم الصدقات الصدقة الجارية وهي ما يبقى بعد موت العبد، ويستمر أجره عليه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: [إذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلاَّ مِنْ ثَلاَثَةِ، إِلاَّ مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ].

أحبتي .. تصدقوا في السر والعلن، أنفقوا على المحتاجين والفقراء والمساكين؛ أخرجوا الزكاة، وأكثروا من الصدقات، وخصصوا جزءاً من أموالكم للقروض الحسنة، وأَنْظِروا المُعسر إلى حين مَيسرة، اكفلوا اليتامى، سدوا ديون الغارمين، ارعوا ذوي الاحتياجات الخاصة، ساهموا في التخفيف من معاناة غيركم ما استطعتم، تبرعوا بأموالكم في كل مجالات البر، واعلموا أن المال مال الله ونحن مستخلفون فيه، واعلموا أننا مسئولون عن أموالنا يوم القيامة فاجعلوها شاهدةً لنا لا علينا، ثم اعلموا أنما تنفقون منمالٍ في أوجه الخير لا يضيع؛ فما راح من مالٍ فيه هو الباقي، وما تبقى دون الصرف منه على عمل خيرٍ هو الذي يضيع. كونوا عباد الله ممن يقيمون (التكافل في الإسلام)، بأفعالكم وليس بأقوالكم، وأبشروا برضا الله ومحبته.

اللهم اهدنا إلى سُبل الخير وقِنا شح أنفسنا.
نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.

http://bit.ly/2OEqsOY

الجمعة، 15 نوفمبر 2019

سفير للإسلام


الجمعة 15 نوفمبر 2019م

خاطرة الجمعة /٢١٣
(سفير للإسلام)

تقول إعلاميةٌ معروفةٌ: كنتُ في زيارةٍ للولايات المتحدة الأمريكية وذهبتُ إلى أحد المحلات الكبرى لشراء بعض الأغراض، وأثناء انتظاري لدفع قيمة مشترياتي، دخلتْ سيدةٌ مسلمةٌ ترتدي حجاباً محتشماً، وتبدو عليها علامات التعب من دفع صندوقٍ ثقيلٍ أمامها، يبدو أنه لماكينة قص الحشائش، ذهبَتْ السيدة المسلمة إلى الموظفة التي تجلس على ماكينة الحساب، وقالت لها بأدبٍ جم: "سيدتي، لقد اشتريتُ منك هذه الماكينة بالأمس ب ٥٠٠ دولار مع عدة أشياء أخرى"، سألتها الموظفة وهي منشغلةٌ: "وتريدين إرجاعها؟"، قالت السيدة المسلمة: "لا، بل أريد أن أدفع ثمنها!"، ردت الموظفة، وهي ما تزال منشغلةً: "لا أفهم! ألم تقولي إنك اشتريتها بالأمس؟ إذا كنتِ تعنين أنك وجدتيها أرخص في محلٍ آخر، فنحن لدينا سياسةٌ لرد الفرق؛ ولكن بشرط أن يكون معك ما يثبت سعرها في المحل الآخر، فهل معك ما يثبت ذلك؟"،قالت السيّدة المسلمة: "يا سيدتي، لا هذا ولا ذاك، لقد اشتريتُ منك هذه الماكينة بالأمس مع مشترياتٍ أخرى ببطاقة الائتمان، وحملتُها لمنزلي في ضاحية كذا - وهي ضاحيةٌ تبعد عن المحل مسافة ساعتين تقريباً - وعندما عدتُ إلى البيت أخذتُ أراجع الفاتورة، فوجدتُ أنك لم تحسبي قيمة هذه الماكينة ضمن المشتريات، فحاولتُ الاتصال بالمحل، حتى لا تتعرضي للأذى بسبب ذلك، ولكن ساعات العمل كانت قد انتهت، فقررتُ أن آخذ اليوم إجازةً من العمل وأحمل لك الماكينة، كي تُسَجِّليها وأدفع ثمنها، فلا تتضرري بسببي، ولا أستخدم شيئاً لم أدفع ثمنه". هنا وقفتْ الموظفة فجأةً، في ذهولٍ شديدٍ، وهي تحدق النظر في السيدة المسلمة، امتلأت عيناها بالدموع، وأخذتْ تحضنها وتقبلها وتقول لها: "أنا لا أفهم، كيف قررتِ الرجوع لدفع مبلغٍ هو بالأساس خطأٌ مني، وحملتِ هذا الصندوق الثقيل، وأخذتِ اليوم إجازة من عملك، ثم قدتِ السيارة كل هذه المسافة! لماذا فعلتِ كل هذا سيدتي؟"، ردت السيدة المسلمة ببراءة ٍشديدةٍ تشي بأنها قد تصرفتْ تصرفاً بديهياً: "إنها الأمانة It is AMANA"، وأخذتْ تشرح للموظفة معنى الأمانة في الإسلام. ذهبتْ الموظفة لمديرتها في مكتبها، وكنا نراها من خلف زجاج المكتب ولا نسمعها، ولكن كان يبدو عليها التأثر الشديد وهي تحكي لمديرتها ماذا فعلت السيدة المسلمة، وبعد دقائق، جمعت المديرة الموظفين بالمحل، وأوقفتهم صفاً واحداً، وأخذتْ تحدثهم عن موقف السيدة المسلمة، التي بدتْ عليها علامات الحياء الشديد والإحساس أنها لم تفعل غير واجبها الذي تعلمته من دينها. ثم أخذ الجميع يسألونها في تلهفٍ شديدٍ عن الإسلام وتعاليمه، وهي تجيبهم بمزيجٍ من الثقة بالنفس والتواضع والإخلاص. بعد أن انتهوا، أصرت المديرة بشدةٍ أن تعطيها الماكينة هديةً من العاملين بالمحل، لكن السيدة اعتذرت بأدبٍ عن قبول الهدية قائلةً إنها تبتغي فقط الثواب؛ فلا تريد للماكينة أن تفسد هذا الثواب الذي هو أفضل بكثيرٍ لها. وطبعاً زاد هذا الرد من إعجاب الناس بها. رحلتْ السيدة في هدوءٍ وأنا أشعر بفخرٍ شديدٍ في داخلي، فقد ظل حديث الإعجاب بها بعد أن رحلتْ ليس فقط بين الموظفين، ولكن أيضاً بين الزبائن الذين ظل أغلبهم يتابعون الموقف في انبهارٍ شديدٍ بتلك السيدة.

أحبائي في الله .. كانت هذه المرأة - من حيث لم تتوقع - سفيرةً للإسلام بغير أوراق اعتمادٍ وبدون صفةٍ رسمية. وضعتها الظروف في هذا الموقف؛ ففتح الله عليها وألهمها التصرف الصحيح بالعودة إلى المحل، ثم ألهمها القول السديد الذي ردت به على أسئلة الموظفين بالمحل.
كلنا سفراء لديننا، منا من يجيد السفارة؛ فينبهر الناس بسلوكه وأقواله فيكون ذلك سبباً لإقبالهم على التعرف على الإسلام واعتناق بعضهم له؛ فالناس يحكمون على الإسلام من خلال أخلاق المسلمين وتعاملاتهم.
يقول العلماء إن المسلم (سفير للإسلام) مسؤولٌ عن هذا الدِّين، وتزدادُ المسؤولية إذا كان يعيش في بلاد الغُرْبة، في عالَمٍ غريبٍ في اعتقاده ومبادئِه وأخلاقه وسلوكياته، فلا ينبغي له أن ينجرِف مع الناس الذين يعيش معهم في عقائدِهم وتصرفاتهم، بل واجبُه أن يكون سفيراً للإسلام بسلوكه وأخلاقه ومعاملاته؛ فيفتح الله له القلوبَ لتتمكَّن من التوحيد الذي حُرِمت منه؛ فيكون المسلم سفيراً عن الله وعن رسوله في البلاد التي يسَّر الله تعالى له الوصول إليها، والعيش فيها. وإذا كان مِن المعلوم أنَّ فاقدَ الشيء لا يُعطيه، فإن على المسلم في بلاد الغربة أن يَعرِف ما هو الإسلام، وأن يحاول بِنِيَّةٍ خالصةٍ وصادقةٍ أن يُطبِّق هذا الدِّين في كلِّ أمور حياته، في معايشِه وعباداته وصداقاتِه، وحبِّه وبُغضِه، وأخْذِه وعطائه، وكلِّ شؤون الحياة، فإذا رأى الأجانبُ هذه الصورة أحبُّوها، وأحبُّوه، وسألوه: لماذا يفعل كذا ولا يفعل كذا؟ فيجيبهم: لأنَّه مسلمٌ يتقي الله، فتكون فرصةً له للتعريف بالإسلام والتأثير في الناس بأبلغ بكثيرٍ من الوعْظ والكلام، وتكون هذه الفرصة بمثابة دعوةٍ إلى دين الله الحق؛ يقول جلَّ وعَلا: ﴿وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُّسْتَقِيمٍ﴾، ويقول تعالى: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ﴾، ويقول تبارك شأنه: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾. وهذه فرصةٌ لا تتوفر لغيره ممن يقيمون في بلاد الإسلام، يتقرب بها إلى الله سبحانه وتعالى؛ فينوي بينه وبين نفسه، مخلصاً نيته لله، أن يكون سفيراً لدينه ومثالاً يُحتذى وقدوةً لغير المسلمين، فيُحَسِّن من سلوكه وأخلاقه ويتمسك بعباداته ويقيم شرع الله - ما استطاع - في نفسه وأسرته، فربما كان سبباً في هداية ولو شخصٍ واحدٍ إلى دين الحق؛ يقول رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم: [ ... فَوَاللَّهِ لَئِنْ يَهْدِي اللَّهُ بِكَ رَجُلا وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ اَلْنَّعَمِ]. كما قال عليه الصلاة والسلام: [مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنَ الأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ، لا يَنْقُصُ ذلِكَ مِنْ أُجُورِهِم شَيْئًا ...]. وقال كذلك: [مَنْ دَلَّ عَلَى خَيْرٍ فَلهُ مثلُ أَجْرِ فَاعِلِهِ].
وورد في الأثر: "مَا مِنْ مُسْلِمٍ إِلا وَهُوَ قَائِمٌ عَلَى ثَغْرَةٍ مِنْ ثُغَرِ الإِسْلامِ، فَمَنِ اسْتَطَاعَ أَلا يُؤْتَى الإِسْلامُ مِنْ ثَغْرَتِهِ فَلْيَفْعَلْ". والمسلم المغترب في بلادٍ يجاوره فيها في السكن أو العمل غير مسلمين هو على ثغرٍ خطير؛ فجيرانه وزملاؤه وكثيرٌ من الناس يطالعونه وينظرون إليه، يشاهدون تصرفاته، ويرصدون أفعاله وأقواله، ثم هُم يحكمون على الإسلام من خلال ما يرونه ويشاهدونه ويسمعونه، فليكن خير (سفير للإسلام).
وللأسف يوجد من المسلمين المقيمين في مجتمعاتٍ غير مسلمةٍ من يتخذ الغربة عذراً للتخفف من أعباء الدين - كما يزعمون - فلا صلاة ولا زكاة ولا صوم ولا حج، وإذا فعلوا فربما في السر أو في المناسبات أو مراءاةً لمسلمين آخرين! بل ويذهب البعض إلى ما هو أبعد من ذلك فيشرب الخمر - والعياذ بالله - فإذا راجعته في ذلك يقول لك إنه مجرد مشروبٍ اجتماعيٍ؛ يقصد أنه يشرب للمجاملة فقط! والبعض يتخلى عن اسمه الإسلامي الجميل ويقبل أن يُنادى باسمٍ لا يتوافق مع دينه بحجة تسهيل نطق اسمه على الآخرين! كيف يكون هؤلاء وأمثالهم سفراء لدينهم؟

أحبتي .. ليكن شعار كلٍ منا: أنا (سفير للإسلام)، ولنحرص على أن تكون أخلاقنا ومعاملاتنا دليلاً ومرشداً على ديننا. إن صلاحنا واستقامة أحوالنا على منهج ديننا الحنيف هو في الأصل واجبٌ علينا، كما أن فيه مصلحةً لنا؛ يقول تعالى: ﴿إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ﴾، فإذا اجتمع مع ذلك أن نكون قدوةً لغيرنا ومثالاً لهم يحذون حذوه فيكون هذا ﴿فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ﴾.

اللهم أعنا ولا تُعن علينا، ووفقنا للوفاء بأحكام شريعتك ودينك الذي ارتضيت لنا، ولا تَفْتِّنا، ولا تستبدلنا، وكن لنا سنداً ونصيراً وآتنا من فضلك الذي تؤتيه من تشاء.

http://bit.ly/2QnE5EW