الجمعة 19 أكتوبر 2018م
خاطرة الجمعة /١٥٧
(أحجارنا الكريمة)
تقول القصة أن رجلاً جلس ﻋﻠﻰ شاطئ ﺍﻟﺒﺤﺮ في ظلام الليل قبل ﺍﻟﻔﺠﺮ ﻓﻮﺟﺪ كـيساً قد مُلء ﺑﺎﻟﺤﺠﺎﺭة، ﻓﻤﺪ ﻳﺪه ﻭأﺧﺬ ﺣﺠراً ﻣﻦ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻜﻴﺲ ﻭأﻟﻘﺎه ﻓﻰ
اﻟﺒﺤﺮ ﻓـأعجبه ﺻﻮﺕ ﺍﻟﺤﺠﺎﺭة ﻭﻫـي
ﺗُﻘﺬَﻑ ﻓﻰ ﺍﻟﺒﺤﺮ؛ فأعاد ﺍﻟﻜَﺮة ﻣﺮةً بعد مرةٍ، وظل يقذف الحجارة ﻓـي ﺍﻟﺒﺤﺮ؛ ﻷنَّ ﺻﻮﺕ ﺍﻟﺤﺠﺎﺭة ﻋﻨﺪﻣﺎ تسقط ﻓﻰ ﺍﻟﻤﺎﺀ
ﻛﺎﻥ ﻳُﺴﻌِﺪه. حينما أﺷﺮﻗﺖ ﺍﻟﺸﻤﺲ ﺑﺪأ ﻳﺘﻀﺢ ﺍﻟﻜﻴﺲ وما فيه، واكتشف الرجل أنه لم يبق ﻓـي ﺍﻟﻜﻴﺲ إلّا ﺣﺠرٌ ﻭﺍﺣﺪٌ، ﻓﻨﻈﺮ الرجل إﻟﻰ ﻫﺬا ﺍﻟﺤﺠر ، ﻓﻮﺟﺪه حجراً كريماً، واكتشف أن ﻛﻞ ﻣﺎ أﻟﻘﺎه ﻣﻦ ﻗﺒﻞ في البحر ﻛﺎﻧﺖ أحجاراً
كريمةً وﺟﻮﺍﻫﺮ ﻭليست ﺣﺠﺎرةً،
فأخذ ﻳﻘﻮﻝ ﺑﻨﺒﺮة ﻧﺪﻡ: ﻳﺎ ﻟﻐﺒﺎﺋـي ﻛﻨﺖ أﻗﺬﻑ ﺍﻟﺠﻮﺍﻫﺮ ﻋﻠﻰ أنها ﺣﺠﺎﺭةٌ
ﻷﺳﺘﻤﺘﻊ ﺑﺼﻮﺗﻬﺎ ﻓﻘﻂ!! ﻭﺍﻟﻠﻪِ ﻟﻮ ﻛﻨﺖ أﻋﻠﻢ ﻗﻴﻤﺘﻬﺎ ﻣﺎ ﻓﺮﻃﺖ ﻓﻴﻬﺎ هكذا.
كلنا هذا الرجل: كيس ﺍﻟﺠﻮﺍﻫﺮ ﻫﻮ العمر الذي نُلقي به ساعةً وراء ساعةً دون فائدة، وﺻﻮﺕ ﺍﻟﻤﺎﺀ هو متاع الدنيا الزائل وشهواتها، وظلام الليل هو الغفلة، وشروق
الشمس هو ظهور الحقيقة عند الموت حيث لا رجعة!
أحبتي في الله .. وردت الألفاظ الدالة على الزمن في القرآن الكريم بصيغة
"الاسم" كثيراً: كالقرن والسنة والعام والشهر واليوم، وكالليل والنهار
والفجر والعصر، وكشهر رمضان ويوم الجمعة، كما ورد ذكر الزمن بأسلوبٍ آخر مختلفٍ هو
صيغة "فعل الأمر" يوجهنا به المولى عزَّ وجلَّ، ويرشدنا إلى كيفية
التعامل مع الزمن؛ قال تعالى: ﴿وَقُلِ اعمَلوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُم
وَرَسولُهُ وَالمُؤمِنونَ﴾. وقال تعالى: ﴿هُوَ الَّذي جَعَلَ لَكُمُ الأَرضَ
ذَلولًا فَامشوا في مَناكِبِها وَكُلوا مِن رِزقِهِ وَإِلَيهِ النُّشورُ﴾. وقال
تعالى: ﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنوا إِذا نودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَومِ الجُمُعَةِ
فَاسعَوا إِلى ذِكرِ اللَّهِ وَذَرُوا البَيعَ ذلِكُم خَيرٌ لَكُم إِن كُنتُم
تَعلَمونَ﴾. وقال تعالى: ﴿فَاستَبِقُوا الخَيراتِ إِلَى اللَّهِ مَرجِعُكُم
جَميعًا فَيُنَبِّئُكُم بِما كُنتُم فيهِ تَختَلِفونَ﴾. وقال تعالى: ﴿سابِقوا إِلى
مَغفِرَةٍ مِن رَبِّكُم وَجَنَّةٍ عَرضُها كَعَرضِ السَّماءِ وَالأَرضِ﴾، وقال
تعالى: ﴿وَسارِعوا إِلى مَغفِرَةٍ مِن رَبِّكُم وَجَنَّةٍ عَرضُهَا السَّماواتُ
وَالأَرضُ أُعِدَّت لِلمُتَّقينَ﴾. وقال تعالى: ﴿فَفِرّوا إِلَى اللَّهِ إِنّي
لَكُم مِنهُ نَذيرٌ مُبينٌ﴾. ومن بلاغة القرآن الكريم أن هذه الآيات تحدد لنا سرعة
انطلاق الفعل على قدر الهدف؛ ففي: الحث على المبادرة إلى العمل قال: ﴿اعملوا﴾. وفي
طلب الرزق قال: ﴿امشوا﴾. وللصلاة قال: ﴿اسعوا﴾. ولعمل الخيرات قال: ﴿استبقوا﴾، وللمغفرة
وللجنة قال: ﴿سابقوا﴾، وقال: ﴿سارعوا﴾. وأما إليه سبحانه وتعالى فقال: ﴿فروا﴾؛
سبحانك ربي إنك أنت العليم الخبير.
ثم إن المولى عزَّ وجلَّ قد حذرنا من إضاعة (أحجارنا الكريمة) وجواهرنا،
التي هي أوقاتنا وأعمارنا، بغير عملٍ صالحٍ ينفعنا يوم الحساب ويُثقِّل موازيننا،
مستخدماً صيغة التحذير من مغبة نفاد الوقت وانقضاء الأجل وعَبَّر عن ذلك بقوله
﴿مِن قَبلِ﴾؛ قال تعالى: ﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنوا أَنفِقوا مِمّا رَزَقناكُم
مِن قَبلِ أَن يَأتِيَ يَومٌ لا بَيعٌ فيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ﴾، وقال
تعالى: ﴿قُل لِعِبادِيَ الَّذينَ آمَنوا يُقيمُوا الصَّلاةَ وَيُنفِقوا مِمّا
رَزَقناهُم سِرًّا وَعَلانِيَةً مِن قَبلِ أَن يَأتِيَ يَومٌ لا بَيعٌ فيهِ وَلا
خِلالٌ﴾، وقال عز وجل: ﴿فَأَقِم وَجهَكَ لِلدّينِ القَيِّمِ مِن قَبلِ أَن يَأتِيَ
يَومٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ﴾، كما قال: ﴿وَأَنيبوا إِلى رَبِّكُم
وَأَسلِموا لَهُ مِن قَبلِ أَن يَأتِيَكُمُ العَذابُ ثُمَّ لا تُنصَرونَ﴾، وقال:
﴿وَاتَّبِعوا أَحسَنَ ما أُنزِلَ إِلَيكُم مِن رَبِّكُم مِن قَبلِ أَن يَأتِيَكُمُ
العَذابُ بَغتَةً وَأَنتُم لا تَشعُرونَ﴾، وقال كذلك: ﴿استَجيبوا لِرَبِّكُم مِن
قَبلِ أَن يَأتِيَ يَومٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ﴾، وقال أيضاً: ﴿وَأَنفِقوا
مِن ما رَزَقناكُم مِن قَبلِ أَن يَأتِيَ أَحَدَكُمُ المَوتُ فَيَقولَ رَبِّ لَولا
أَخَّرتَني إِلى أَجَلٍ قَريبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِنَ الصّالِحينَ﴾. فماذا نحن
فاعلون بعد كل هذه التحذيرات؟ هل نظل على حالنا، نضيع (أحجارنا الكريمة) وجواهرنا،
فيضيع العمر منا ونكون والعياذ بالله ممن قال عنهم الحق سبحانه وتعالى: ﴿وَهُم
يَصطَرِخونَ فيها رَبَّنا أَخرِجنا نَعمَل صالِحًا غَيرَ الَّذي كُنّا نَعمَلُ
أَوَلَم نُعَمِّركُم ما يَتَذَكَّرُ فيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذيرُ
فَذوقوا فَما لِلظّالِمينَ مِن نَصيرٍ﴾؟ أم نكون ممن يتحسرون على ما فرطوا في جنب
الله؛ قال تعالى: ﴿أَن تَقولَ نَفسٌ يا حَسرَتا عَلى ما فَرَّطتُ في جَنبِ
اللَّهِ﴾؟
(أحجارنا الكريمة) هي أوقاتنا، هي أعمارنا، إنها هبةٌ من الله لكل إنسان،
تجلى فيها عدله سبحانه وتعالى؛ فقد أعطى ووهب ومنح جميع الناس أحجارهم الكريمة،
أربعةً وعشرين ساعةً في اليوم الواحد، لا تزيد لغنيٍ وتقل لفقير، ولا تزيد لرجلٍ
وتقل لامرأة، ولا تزيد لكبيرٍ وتقل لصغير، لا تزيد لأبيض وتقل لأسود.
فماذا يفعل الناس بأحجارهم الكريمة وجواهرهم؟
صنفٌ من الناس حرصوا عليها وأحسنوا الاستفادة منها؛ منهم زَيْدِ بْنِ
ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: تَسَحَّرْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ. قُلْتُ: كَمْ كَانَ
بَيْنَ الْأَذَانِ وَالسَّحُورِ؟ قَالَ: قَدْرُ خَمْسِينَ آيَةً". لقد حسب
الزمن بالآيات! ومنهم شخصٌ سأله صديقه: كم يبعد عملك من البيت؟ فقال: 800 تسبيحة في
وقت الازدحام، و250 تسبيحة في الأيام العادية. جوابٌ رائعٌ؛ حسب وقته بالطاعات!
وصنفٌ آخر من الناس، انظر كيف يتعاملون مع أحجارهم الكريمة وجواهرهم: يجدون
وقتاً لقراءة رسائل الواتس آب ومنشورات الفيس بوك، ولا يجدون وقتاً لصلة الرحم ولو
بالهاتف!
يجدون وقتاً لمشاهدة مباراة كرة قدم، ولا يجدون وقتاً لقراءة بعض صفحاتٍ من
القرآن الكريم! يجدون وقتاً للنزول بكلابهم لأداء الحاجة، ولا يجدون وقتاً لذكر
الله أو قيام الليل ولو بركعتين! يستيقظون مبكرين في يوم سفرٍ أو لرحلة، ولا
يستطيعون الاستيقاظ لصلاة الفجر! يخرجون لشراء احتياجاتهم من الأسواق أو أداء
مصالح دنيوية، ويتعبهم المشي خطواتٍ للصلاة في المسجد القريب! ينفقون مئات الآلاف
على شراء بيتٍ في مصيفٍ أو سيارةٍ جديدةٍ، لكنهم لا يستطيعون سبيلاً لأداء فرض
الحج! يخصصون الكثير من وقتهم لزيادة أرزاقهم، وينسون ذكر الرازق وشكره وحسن
عبادته والصلاة له بضع دقائق!
لا يُضيِّع الناس ويوردهم المهالك سوى التسويف والأمل الكاذب؛ وفي الحديث
الشريف عظةٌ وعبرةٌ؛ فقد خَطَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطًّا
مُرَبَّعًا، وَخَطَّ خَطًّا فِي الوَسَطِ خَارِجًا مِنْهُ، وَخَطَّ خُطَطًا صِغَارًا
إِلَى هَذَا الَّذِي فِي الوَسَطِ مِنْ جَانِبِهِ الَّذِي فِي الوَسَطِ، وَقَالَ:
[هَذَا الإِنْسَانُ، وَهَذَا أَجَلُهُ مُحِيطٌ بِهِ - أَوْ: قَدْ أَحَاطَ بِهِ -
وَهَذَا الَّذِي هُوَ خَارِجٌ أَمَلُهُ، وَهَذِهِ الخُطَطُ الصِّغَارُ
الأَعْرَاضُ، فَإِنْ أَخْطَأَهُ هَذَا نَهَشَهُ هَذَا، وَإِنْ أَخْطَأَهُ هَذَا
نَهَشَهُ هَذَا].
أحبتي .. ما تزال الفرصة أمامنا؛ فمع مطلع كل يومٍ جديدٍ يهب لنا الله
سبحانه وتعالى، بكرمه ولطفه وإحسانه، أحجاراً كريمةً وجواهر ولآلئ جديدةً، علينا
ألا نضيعها أو نسيء استخدامها. إنها نعمةٌ متجددةٌ تستوجب الشكر باستثمارها في
العبادات والطاعات وأعمال الخير والبر والتقوى، ولنحذر من أن نكون ككثيرٍ من
الناس، غافلين ومغبونين فيها كما قال النّبي صلّى الله عليه وسلّم: [نِعمَتَانِ
مَغبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، الصِّحَّةُ والفَرَاغ].
من الآﻥ أحبتي؛ فلنعاهد الله سبحانه وتعالى، ونعاهد أنفسنا، ألا نُضَيِّع
أوقاتنا و(أحجارنا الكريمة)، ولا يأخذنا الأمل وتُلهنا الدنيا بمتاعها الزائل
وشهواتها؛ فيضيع منا العمر وتفلت أيامه وساعاته بلا فائدةٍ فنندم حيث لا ينفع
الندم.
ولمن يحس أنه يصعب عليه أن يلتزم بالطاعات كأداء الصلوات في مواعيدها،
والحرص على صلاة الجماعة في المسجد، وغير ذلك، أنقل كلمةً طيبةً قالها ابن القيم
رحمه الله؛ قال: "لا يزال المرء يعاني الطاعة حتى يألفها ويحبها، فيُقيض الله
له ملائكةً تؤزه إليها أزاً، توقظه من نومه إليها، ومن مجلسه إليها؛ قال تعالي:
﴿وَالَّذينَ جاهَدوا فينا لَنَهدِيَنَّهُم سُبُلَنا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ
المُحسِنينَ﴾؛ فاستعينوا بالله أحبتي وابدأوا صفحةً جديدةً في علاقتكم برب
العالمين، المجتهد يزيد من اجتهاده، والمقصر يبادر ويسرع لأوبةٍ لا ينكث عنها؛
(أحجارنا الكريمة) لا ندري متى تنفد!
اللهم نبهنا من غفلتنا، اللهم ارشدنا إلى سبيلك السوي وصراطك المستقيم،
واهدنا إلى طريق الحق، لا يهدينا إليه إلا أنت سبحانك، وأنت اللطيف الحليم.
نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ
في أعمارنا.
هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.