الجمعة، 5 أبريل 2019

سهم إبليس


الجمعة 5 إبريل 2019م

خاطرة الجمعة /١٨١
(سهم إبليس)

شابٌ عربيٌ كان يعيش في الولايات المتحدة الأمريكية، ركب ذات يومٍ مع مجموعةٍ من الناس المصعد إلى طابقٍ مرتفعٍ في إحدى ناطحات السحاب. نزل جميع الأشخاص في طوابق مختلفة وبقيَ هذا الشاب وحده إلى جانب فتاةٍ أمريكيةٍ جميلةٍ جداً تلبس لباساً متبرجاً كباقي النساء في الولايات المتحدة الأمريكية، لما وجدت أنها بقيت لوحدها مع الشاب شعرت بالخوف منه لكنها لاحظت أن الشاب لم يحاول أن يتحرش بها بل ويتحاشى أن ينظر إليها؛ فبقيت متعجبةً لاستمراره في عدم النظر إليها، استغربت كثيراً لذلك. عندما وصل المصعد إلى الطابق الذي يريد الشاب النزول فيه غادر المصعد، ونزلت معه الشابة ثم أوقفته وسألته: "ألست جميلةً؟"، قال: "لا أدري؛ أنا لم أنظر إليك"، قالت: "كنا وحدنا في المصعد ولم تحاول أن تتحرش بي، حتى أنك لم تنظر إليّ؛ لماذا؟"، قال: "أعوذ بالله؛ إني أخاف الله"، فقالت: "أين الله هذا الذي تخشاه وتخافه إلى هذه الدرجة؟ أدينك هو الذي يمنعك من التحرش بي أو النظر إليّ؟"، قال: "نعم"، فقالت له: "أتقبل أن تتزوجني؟"، قال: "أنا مسلمٌ، ما دينك أنت؟"، قالت: "لست مسلمةً، هل تتزوجني إذا دخلت دينك هذا؟"، فقال: "نعم"، قالت: "ماذا أفعل كي أكون مسلمة؟".
شرح لها الشاب المسلم التقي كيفية اعتناقها الإسلام، وقيل إنه بعد زواجه منها فتح الله عليه أوسع أبواب الرزق.
لقد جعل الله هذا الشاب سبباً في إسلامها وهدايتها بعملٍ لم يكن ليخطر على باله أبداً؛ فقط بغض بصره عما حرم الله، واتقائه (سهم إبليس).

وعلى العكس؛ هذا شابٌ آخر ينظر دائماً إلى الفتيات، فتقدم إلى شيخٍ وسأله: "أي شيخ، إني شابٌ صغيرٌ ورغباتي كثيرةٌ ولا أستطيع منع نفسي من النظر إلى الفتيات في الأسواق فماذا أفعل؟"، رد الشيخ بتجربةٍ عمليةٍ؛ أعطى هذا الشاب كوباً من الحليب وأوصى أحد تلامذته أن يرافقه، وقال للتلميذ اذهب معه إلى المكان الفلاني مروراً بالسوق الفلاني وإذا انسكبت قطرةٌ من الحليب على الأرض اضربه بقوةٍ أمام الناس ولا ترحمه. مضى الشاب إلى وجهته حتى أوصل الكأس دون أن ينسكب منه شيءٌ، ثم عاد فسأله الشيخ: "كم فتاةً رأيت في السوق؟"، أجاب الشاب: "واللهِ ما كنتُ أرى إلا أن ينسكب شيءٌ من الحليب فيضربني مرافقي أمام الناس، وهذا ذلٌ وخزيٌ لي أمامهم فكان تركيزي كله على الكأس"، قال له الشيخ: "كذلك حال المؤمن؛ إنه دائم التركيز على الآخرة وذلها وخزيها، وبمراقبته لله عزَّ وجلَّ في سكناته وحركاته يجتنب ما يغضب الجبار فينشغل بما ينفعه ويكون من الفائزين بإذن الله".

أحبتي في الله .. إنه غض البصر؛ قال عنه الله سبحانه وتعالى: ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ﴾، وسبب نزول هذه الآية أنّ رجلاً - على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم - مرّ في طريقٍ من طرقات المدينة، فنظر إلى امرأةٍ ونظرت إليه، فوسوس لهما الشيطان أنه لم ينظر أحدهما إلى الآخر إلا إعجاباً، فبينما الرجل يمشي إلى جنب حائطٍ، وهو ينظر إليها، إذ استقبله الحائط فشقّ أنفه، فقال: واللهِ لا أغسل الدم حتى آتي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخبره أمري، فأتاه، فقصّ عليه قصته، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: [هذا عُقُوبَةُ ذَنْبِك]، وأنزل الله تعالى: ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ﴾. يقول العلماء عن هذه الآية أن الله يأمر نبيه أن يحث المؤمنين على أن يغضوا أبصارهم عمّا لا يحل، ويحفظوا فروجهم عن المحرمات، ويبيّن لهم أن ذلك أطهر لأخلاقهم. ونلحظ هنا أن الله تعالى قد جعل الأمر بغض البصر مقدماً على حفظ الفرج، لأن كل الحوادث مبدؤها من النظر؛ قال الشاعر:
كلُّ الحَوادِثِ مَبدَأُها من النظَرِ
ومُعظمُ النارِ من مُستَصغرِ الشررِ
كم نظرةٍ فتكَت في قلبِ صاحبِها
فَتكَ السِّهامِ بلا قوسٍ ولا وتر
والعبدُ مادامَ ذا عينٍ يقلِّبُها
في أعيُنِ الغيدِ موقوفٌ على الخطرِ
يسُرُّ مُقلَته ما ضرَّ مهجتَه
لا مرحباً بسرورٍ عادَ بالضررِ

يقول أهل العلم إنَّ إطلاق البصر في الحرام هو (سهم إبليس)؛ فمن أطلق بصره في الحرام جرّه ذلك إلى أنواع الفواحش؛ كما قال عليه الصلاة والسلام: [إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنَ الزِّنَا، أَدْرَكَ ذَلِكَ لاَ مَحَالَةَ، فَزِنَا العَيْنِ النَّظَرُ، وَزِنَا اللِّسَانِ المَنْطِقُ، وَالنَّفْسُ تَمَنَّى وَتَشْتَهِي، وَالفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ كُلَّهُ وَيُكَذِّبُهُ]؛ فالنظرةُ تولِّدُ خَطْرةً، والخطرةُ تولد فِكرةً، والفِكرةُ تولِّد شهوةً، والشهوةُ تولد إرادةً، ثم تشتدّ الإرادةُ فتصيرُ عزيمةً جارفةً؛ فيقعُ الفِعلُ ما لم يمنع من ذلك مانعٌ؛ فالصبر على غضِّ البصر أيسرُ من الصبر على ألم ما بعدَه. لقد جعل الله سبحانه وتعالى في الرجالِ شهوةً تجاه النساء، وهي تعلو شهوةَ النساء في النظر إلى الرجال، لذا أمر الله النساء بالحجابِ وأمرهُنَّ بسترِ الزينةِ ولم يأمر الرجال بذلك؛ لأن الداعي في قلبِ الرجل بنظرهِ للمرأةِ أقوى من الداعي في قلب المرأةِ بنظرها للرجل، وعندما ينظر الرجل إلى أيّ امرأةٍ سواءً كانت مسلمةً أو كافرةً أو صالحةً أو فاجرةً فإنّ الشيطانَ يثيرُ في قلبهِ ويوسوسُ والحلُّ هو غضُّ البصر؛ ومع ذلك فإن غض البصر ليس قاصراً على الرجال فقط، فالنساء كذلك مأموراتٌ بغض البصر؛ قال الله عز وجل: ﴿وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ﴾.

وعندما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الجلوسِ في الطرُقات، قال الصحابة: يا رسول الله هيَ مجالسُنا ما لنا منها بُدٌّ نتحدثُ فيها، قال عليه الصلاةُ والسلام: [إنْ أبَيتُم إلّا ذلك فأعطوا الطريقَ حقَّهُ]، قالوا: وما حقُّ الطريق؟ قال: [غَضُّ البَصَرِ، وكَفُّ الأذَى، ورَدُّ السَلامِ].

وقد يسير الإنسان في طريقٍ أو يكون في مكانٍ فيقع بصره على ما حرم الله تعالى بغير قصدٍ منه، وهذا ما يُسمى بنظرة الفجاءة، والواجب في هذه الحالة أن يصرف الإنسان بصره؛ قال أحد الصحابة: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظرة الفُجاءةِ؛ فأمرني أن أصرفَ بصري. وقال صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: [يَا عَلِيُّ لَا تُتْبِعْ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ فَإِنَّ لَكَ الْأُولَى، وَلَيْسَتْ لَكَ الْآخِرَةُ]؛ فالنظرة الأولى الواقعة دون قصدٍ أنت غيرُ مؤاخذٍ عليها لأنك لم تتعمد، لكنَّ النظرة التي بعدها أنت مؤاخذٌ عليها، فحذَّره أن يُتبع النظرة النظرة. وهذا الخطاب لعليٍ رضي الله عنه، مع علمه عليه الصلاة والسلام بزهد عليٍ وورعه، فما بال الواحد منا يطيل النظر ويدعي الأمن من الفتنة ويظن أنه قادرٌ على أن يعصم نفسه من (سهم إبليس)!

قيل في تفسير قوله تعالى: ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾ هو الرجلُ يكونُ في القومِ فتمُرُّ بهم المرأةَ فيُريهم أنَّه يغُضُّ بصرَه عنها، فإذا انشغلوا عنهُ رفعَ بصرَه فنظرَ إليها، وقد اطلع الله سبحانه وتعالى من قلبه أنه وَدَّ لو ينظرُ إليها.

وقالوا عن عواقبِ النظرِ الحرامِ أنه يحرِمُ المرءَ من العلم؛ فهذا أحدُ طُلابِ وكيعٍ القاضي نظر يوماً إلى امرأةٍ حسناءَ فتتبَّعها ببصرِه ثم انصرف، فلاحظَ أنَّ فهمَه وحِفظهُ تشتّتَ؛ فاشتكى أمرَه إلى وكيعٍ، فقال له: غُضَّ بصرَك عن الحرام.
 فقال هذا الطالبُ، ويُقال إنه الإمام الشافعي:
شكوتُ إلى وكيعٍ سوءَ حِفظي
فأرشَدني إلى تَركِ المعاصي
وأخبَرني بأنَّ العِلمَ نورٌ
ونورُ اللهِ لا يُؤتاهُ عاصي

أما من غضَّ بصره عن محاسن امرأةٍ وهو قادرٌ على أن ينظر إليها أورَثَه اللهُ إيماناً يجدُ حلاوتَه في قلبه. ومن حفظ بصره أورثه الله نوراً في بصيرته. وقيل إن غض البصر يخلص القلب من ألم الحسرة، ويورثه نوراً وإشراقاً يظهر في العين وفي الوجه وفي الجوارح، ويزيده سروراً وفرحةً وانشراحاً ولذةً أعظم من اللذة التي تحصل بالنظر؛ فلذة العفة أعظم من لذة الذنب. وغض البصر يقوي العقل ويزيده ويثبته، ويفتح طرق العلم وأبوابه، ويسهل أسبابه، فضلاً عن أنه يسد عن العبد باباً من أبواب جهنم، فإن النظر المحرم باب الشهوة الحاملة على مواقعة الفاحشة، فمتى غض الإنسان بصره سلم من الوقوع في الفاحشة، ومتى أطلقه كان هلاكه أقرب؛ فالنظر المحرم هو (سهم إبليس).

وغض البصر سببٌ لدخول الجنة؛ قال صلى الله عليه وسلم: [اضْمَنُوا لِي سِتًّا مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَضْمَنْ لَكُمُ الْجَنَّةَ: اصْدُقُوا إِذَا حَدَّثْتُمْ، وَأَوْفُوا إِذَا وَعَدْتُمْ، وَأَدُّوا إِذَا ائْتُمِنْتُمْ، وَاحْفَظُوا فُرُوجَكُمْ، وَغُضُّوا أَبْصَارَكُمْ، وَكُفُّوا أَيْدِيَكُمْ].

أحبتي .. في زمنٍ أصبح السفور مباحاً، والاختلاط مألوفاً، صار غض البصر صعباً، لكنه يبقى دليل سلامة المعتقد وقوة الإيمان ويقظة الضمير ونظافة القلب وإخلاص الجوارح؛ فيكون الصبر على غض البصر مع المشقة سبباً في زيادة الثواب والأجر بإذن الله.
علينا أحبتي أن ننتبه إلى أن غض البصر يكون كذلك بترك النظر إلى الصور إجمالاً سواءً في الأفلام أو المسلسلات، في دور العرض والمسارح والتلفزيون، في المطبوعات من الكتب والصحف والمجلات والإعلانات، في شبكة الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي وبرامج الحاسوب والهواتف الذكية؛ حيث اعتاد الناس للأسف إطالة النظر، وكأن لسان حالهم يقول إنها مجرد صور!
تذكروا أحبتي أن أبصارنا نعمةٌ مِن الله، فلا نعصه بنعمه، ولنحذر أن تكون عقوبة العصيان والنظر المحرم سلب تلك النعمة. قيل أن كل زمن الجهاد في غض النظر لحظة، فان فعلتَ نلتَ الخير وسلمتَ من الشر، فنحن مسئولون عن جميع نعم المولى عزَّ وجلَّ - ومن بينها نعمة البصر - ومحاسبون عليها؛ كيف استخدمناها هل في حلالٍ أم في حرامٍ والعياذ بالله؛ يقول تعالى: ﴿وَلا تَقفُ ما لَيسَ لَكَ بِهِ عِلمٌ إِنَّ السَّمعَ وَالبَصَرَ وَالفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنهُ مَسئولًا﴾.

اللهم إنا نعوذ بك من الفتن ما ظهر منها وما بطن. اللهم وفِّقنا لفِعل الخيرات وتركِ المنكرات. اللهم طهِّر قلوبنا من النفاق وأعمالنا من الرياء وألسنتنا من الكذب وأعيننا من الخيانة وفروجنا من الفاحشة وأموالنا من الربا.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.

هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.

http://bit.ly/2FSFcW6