الجمعة، 16 ديسمبر 2016

ها قد عُدتَ يا يوم مولدي

الجمعة 16 ديسمبر 2016م

خاطرة الجمعة /٦٢
(ها قد عُدتَ يا يوم مولدي)

اتصل بي هاتفياً مهنئاً قال: "كل عام وأنت بخير"، سألته وأنا أعلم جوابه مسبقاً: "ما المناسبة؟"، قال متعجباً: "أوليس اليوم عيد ميلادك؟"، قلت ممازحاً: "نعم، إنه ليس كذلك"، قال: "أنا متأكد من تاريخ ميلادك؛ إنه يوم العاشر من ديسمبر"، قلت له: "هذا صحيح، إنه يوم مولدي، لكنه ليس عيد ميلادي"، قال: "أراك عُدتَ لألاعيبك اللفظية"، قلت: "بدون ألاعيب، أنا لا أحتفل بما يُسمى عيد ميلاد، فلست أرى في يومٍ يذكرني بانقضاء سنة من عمري ويقربني من أجلي المحتوم سبباً يدعو للاحتفال، بل هو أقرب لأن يدعو للحزن"، قال: "أحس في ردك تشاؤماً لا أعهده فيك"، قلت: "لست متشائماً، لكني أفكر بشكل واقعي وعملي بعيداً عن لغة الأماني والأحلام"، سألني: "وهل يمر عليك اليوم كأي يوم عادي؟"، قلت: "لا بالطبع"، وأوضحت له دون أن يسأل: "إنه يومٌ خاصٌ بلا شك، أجد فيه فرصة للاختلاء بنفسي، للتفكر والتأمل والتدبر وحساب النفس، أقول (ها قد عُدتَ يا يوم مولدي)، وأقوم بشيء أشبه ما يكون بعملية جرد سنوي، أراجع حساباتي، أتساءل ماذا يا ترى حققت خلال العام الماضي؟ هل أنجزتُ شيئاً كنت أرغب في إنجازه؟ هل قابلتني صعوبات أبعدتني عن إنجاز ما كنت أرجو؟ وكيف كانت استجابتي لتلك الصعوبات؟ هل كانت استجابات معقولة ومنطقية؟ وفي المحصلة هل أنا راضٍ عن نفسي؟ ثم ماذا عن عامٍ قادم لو قُدر لي أن أعيشه؟ ما هي أهدافي فيه؟ وما هي مشروعاتي لتحقيق هذه الأهداف؟ وهل تتوفر لدي إمكانات تنفيذها؟"، قاطعني قائلاً: "أراك بالغت، وأعطيت للأمر أكثر مما يستحق، إنك تتحدث بلغة التقويم والتخطيط، إنه مجرد عيد ميلاد يا عزيزي!"، قلت له: "ما أردتُ أن أتحدث عن هذا الأمر، لكنك سألت، وكان لزاماً علي أن أكون أميناً في ردي عليك"، أنهى مكالمته بالقول: "على أي حال، كل عام وأنت بخير Happy Birthday to you".

أحبتي .. يحتفل كثير من الناس بأعياد ميلادهم وأعياد ميلاد أبنائهم وأحبائهم رغم أن الفتوى بعدم جواز ذلك واضحة لا لبس فيها، وها أنا أنقلها بنصها لمن لم يسبق له الاطلاع عليها:
دلت الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة على أن الاحتفال بالموالد من البدع المحدثة في الدين ولا أصل لها في الشرع المطهر ولا تجوز إجابة الدعوة إليها، لما في ذلك من تأييد للبدع والتشجيع عليها. وقد قال الله سبحانه وتعالى: ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ﴾، وقال سبحانه: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ*إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ﴾، وقال سبحانه:﴿اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ ۗ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ﴾. وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال: [من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد] أخرجه مسلم في صحيحه. وقال عليه الصلاة والسلام: [خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة]. ثم إن هذه الاحتفالات مع كونها بدعة منكرة لا أصل لها في الشرع هي مع ذلك فيها تَشَبُّه باليهود والنصارى في احتفالهم بالموالد. وقد قال عليه الصلاة والسلام محذراً من سنتهم وطريقتهم: [لتتبعن سنة من كان قبلكم حذو القُذة بالقُذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه]، قالوا يا رسول الله: اليهود والنصارى؟، قال: [فمن؟]. ومعنى قوله [فمن؟] أي هم المعنيون بهذا الكلام وقال صلى الله عليه وسلم: [من تشبه بقوم فهو منهم]. فإن الاحتفال بمناسبة أعياد الميلاد عادةٌ دخيلة على المسلمين، فلا يجوز الاحتفال بها بأي نوعٍ من أنواع الاحتفال، لما في ذلك من التشبه بالمشركين الذين أمرنا الله تعالى بمخالفتهم والابتعاد عن اتباع ما سنّوه من سنن. وواجب على المسلمين تحري الحق والصواب في عاداتهم وتقاليدهم بأن تكون منضبطة بضوابط الشرع الحكيم، لا بالتقليد الأعمى للأمم الكافرة. وأي أمرٍ يحدث في هذا الدين لم يكن على هدي سيد المرسلين فهو أمر مردود على صاحبه، وأعياد الميلاد لم تكن من هدي النبي صلى الله عليه وسلم ولا صحابته الكرام، ولا عُرفت مثل هذه الأعياد إلا بعد القرون الثلاثة الفاضلة مما يدل على أنها ليس لها أصل في الإسلام.
وقال أهل العلم: ليس في الإسلام عيدٌ لأي مناسبة سوى عيد الأضحى، وعيد الفطر من رمضان، وعيد الأسبوع وهو يوم الجمعة.
ولبعض العلماء رأي آخر في هذا الأمر حيث يرون أن الاحتفال بعيد الميلاد الشخصي ليس له أي بُعدٍ عقائدي؛ فقد جاءت الشريعة بالمنعِ والحذَر والتوقيف للأشياء ذات البُعد الديني، لكن الأشياء الدنيوية والعادات، فإن الأصل فيها الإذن والسماح، إلا إذا اقترن بها شيء يمنع منها مثل التشبُّه، والأصل فيها هو الإذن وليس المنع، والأصل دائمًا أقوى من الشيء الطارئ على الأصل. والاحتفال بأعياد الميلاد ليس تشبهًا، فهو ليس من خصوصيات الأمم الكافرة، وإنما هذا موجود الآن عند معظم، بل كل، شعوب العالم. كما أن دار الإفتاء المصرية أفتت بجوازها كذلك، ورأت أنه لا مانع من ذلك شرعًا؛ لما فيه من تذكر نعمة الله على الإنسان بالإيجاد، على ألا يُعد ذلك عيداً ولا يسميه بذلك، وعلى أن يكون الاحتفال خاليًا من المحرمات كالاختلاط المحرم وكشف العورات ونحو ذلك مما لا يجوز شرعًا، ويُستأنس لذلك بقوله تعالى حكاية عن سيدنا عيسى: ﴿وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وَلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَياًّ﴾، وبما رواه صحيح مسلم عن أبى قتادة الأنصاري أنه صلى الله عليه وسلم سُئل عن صوم يوم الاثنين؟ فقال: [ذاك يوم وُلدتُ فيه، ويوم بُعثت - أو أُنزل علي فيه]، فأشار بذلك إلى المعنى الذي يقتضي الحكم أن يوم مولد الإنسان هو يوم نعمة توجب الشكر عليها. ويجوز لأقارب صاحب المناسبة وأصحابه المشاركة في الاحتفال لما فيه من إدخال السرور على قلبه، وذلك من الأمور المستحبة شرعًا، فقد أخرج ابن شاهين في الترغيب بإسناد لا بأس به عن أبي هريرة، قال: سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي العمل أفضل؟ قال: تُدخل على أخيك المؤمن سروراً، أو تقضي عنه ديناً، أو تطعمه خبزاً.

أحبتي في الله .. وضعت بين أيديكم بأمانة رأيين مختلفين حول موضوع واحد هو: الاحتفال بأيام الميلاد. فماذا علينا أن نفعل في مثل هذه الحالة، حالة اختلاف العلماء في الرأي حول المسألة الواحدة؟ إليكم أحبتي ما يقوله أهل العلم في ذلك:
إذا كان المسلم عنده من العلم ما يستطيع به أن يقارن بين أقوال العلماء بالأدلة والترجيح بينها ومعرفة الأصح والأرجح وجب عليه ذلك، لأن الله تعالى أمر برد المسائل المتنازع فيها إلى الكتاب والسنة، فقال: ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾؛ فيرد المسائل المختلف فيها للكتاب والسنة، فما ظهر له رجحانه بالدليل أخذ به، لأن الواجب هو اتباع الدليل، وأقوال العلماء يُستعان بها على فهم الأدلة. وأما إذا كان المسلم ليس عنده من العلم ما يستطيع به الترجيح بين أقوال العلماء، فهذا عليه أن يسأل أهل العلم الذين يُوثق بعلمهم ودينهم ويعمل بما يفتونه به، قال الله تعالى: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾. وقد نص العلماء على أن مذهب العامي مذهب مفتيه، فإذا اختلفت أقوالهم فإنه يتبع منهم الأوثق والأعلم، وهذا كما أن الإنسان إذا أصيب بمرض عافانا الله جميعاً فإنه يبحث عن أوثق الأطباء وأعلمهم ويذهب إليه لأنه يكون أقرب إلى الصواب من غيره، فأمور الدين أولى بالاحتياط من أمور الدنيا. ولا يجوز للمسلم أن يأخذ من أقوال العلماء ما يوافق هواه ولو خالف الدليل، ولا أن يستفتي من يرى أنهم يتساهلون في الفتوى، بل عليه أن يحتاط لدينه فيسأل من أهل العلم من هو أكثر علماً، وأشد خشية لله تعالى.

أحبتي .. حتى في مسألة اختلاف العلماء يوجد اختلاف! فقد اختلف العلماء في الواجب على المسلم إذا وجد اختلافاً حول العلماء، فقيل يتبع الأشد لكونه أحوط ولحصول براءة الذمة به بيقين، وقيل يأخذ بأي الأقوال شاء ما لم يقصد تتبع الرخص، وقيل يأخذ بالأيسر لكون الشريعة مبنية على التخفيف. عن نفسي: قرأت واستخرت الله سبحانه وتعالى واتخذت لنفسي ما أعتقد أنه صواب؛ فبدلاً من أن يحتفل الإنسان بعيد ميلاده، الأولى به أن يقول (ها قد عدتَ يا يوم مولدي) ويتذكر أنه كلما مر عليه يوم من أيام عمره فإنما هو يقترب من النهاية أي الموت والحساب، فما بالنا إذا كان الذي مر عام كامل!! فلتكن له عبرة بانقضاء الأيام والشهور والأعوام، ولتكن فرصة لحساب النفس، والبعد عن الشبهات، وصرف الوقت والجهد في أعمال البر والخير التي تثقل موازيننا يوم القيامة.
وأختم بقوله تعالى: ﴿رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا﴾.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.
تقبل الله منا ومنكم.


https://goo.gl/Oc8K2v