الجمعة، 9 ديسمبر 2022

فضيلة الستر

 

خاطرة الجمعة /373


الجمعة 9 ديسمبر 2022م

(فضيلة الستر)

 

هذه القصة منقولةٌ عن مقالةٍ صحفيةٍ بعنوان "الفضيلة المنسية"، كتب صاحبها يقول:

في نهاية التسعينيات من القرن المُنقضي كنتُ أعمل لدى رجل أعمالٍ معروفٍ يمتلك مجموعةً من المطاعم الشهيرة، توطدت علاقتي به بعد فترةٍ وجيزةٍ من انضمامي للعمل حتى أصبح يثق بي تماماً، وسرعان ما تمت ترقيتي أكثر من مرةٍ حتى أصبحتُ أُدير مجموعة المطاعم إدارةً كاملةً بصلاحياتٍ واسعةٍ، حيث كان يعمل تحت إدارتي مئات العمال والموظفين، كل هذا وأنا لم أكن قد أتممتُ بعد عامي الخامس والعشرين. كان كل شيءٍ يسير على ما يُرام حتى ذلك اليوم؛ في نهاية الوردية المسائية كنتُ أتفقد المطعم كعادتي إلا أنني لاحظتُ وجود فتاةٍ من العاملات تقف مرتبكةً، وازدادت ارتباكاً عندما رأتني وهمت بالانصراف مُسرعةً، وبتفتيشها وجدتها تُخبئ في حقيبتها بعض المأكولات والعصائر؛ فما كان مني إلا أن أمرتُ بفصلها من العمل فوراً مع حرمانها من باقي مستحقاتها لأنها سرقت.

لم تُفلح توسلات الفتاة ولا دموعها، ولم تُجدِ وساطة العاملين نفعاً ولا مُبرراتهم بأنها فتاةٌ صغيرةٌ يتيمة الأب، تعمل كي تُنفق على والدتها المريضة على الرغم من أنها ما زالت تدرس بالمرحلة الثانوية، لم يحّن قلبي أبداً؛ حيث أنني مُستأمنٌ على ذلك المال. وظننتُ أنني فعلتُ الصواب، بل وأسرعتُ للاتصال بالسيد صاحب العمل لإخباره بما حدث، مُتوقعاً إشادةً واسعةً ومُكافأةً مُجزيةً، إلا أنني وجدتُ الرجل كما لم أره من قبل، كان ثائراً غاضباً يوبخني بشدةٍ، وقطع إجازته، وفي صبيحة اليوم التالي اجتمع بجميع العاملين والعاملات وحثهم على الأمانة والحفاظ على مصدر دخلهم، وأمر بزيادةٍ مُجزيةٍ جداً في راتب جميع العاملين، وأعاد الفتاة إلى عملها مع منحها وجبتي عَشاءٍ لها ولوالدتها يومياً عند الانصراف.

أشعرني تصرفه بكثيرٍ من الإحباط حتى أنني قدمتُ استقالةً مُسببةً؛ فما كان منه إلا أن مزّق طلب الاستقالة وقال لي: "يا بُني سأقص عليك قصة شابٍ كان يعمل على عربة كبدةٍ، واستأمنه صاحب العربة على ماله فصانه حتى ازداد المال واشتهرت العربة وتضاعف الإيراد أضعافاً مُضاعفةً بفضل الله ثم بكفاءة ذلك الشاب في العمل، إلا أنه -وعلى الرغم من ذلك- كان لا يملك إلا راتبه القليل فقط، بينما كل الأرباح تذهب لصاحب العربة. بدأ والد الشاب يمرض ويحتاج إلى مصاريف علاجٍ كثيرةٍ لم يقدر عليها وحده، وهنا دخل الشيطان مدخله ولعب برأس الشاب كي يقتطع جُزءاً من الربح اليومي دون إخبار صاحب العربة، وبعد مُقاومةٍ شرسةٍ نجح إبليس في مُخططه اللعين، وفعل الشاب ما فعل، لكن أراد الله له ألا يتمادى في طريق الباطل؛ فعلم صاحب المال بفعلته، كان من المُمكن أن يسجنه، أو على الأقل يطرده من العمل، إلا أنه -وفي تصرفٍ غير مُتوقعٍ- سأله عن صحة والده وأعطاه ما يكفي لعلاجه، ثم أمر أن يُصبح الشاب شريكاً له في العمل بمجهوده وبكفاءته وبحب الناس له. ثم نظر لي السيد طويلاً وقال: "هل تعرف من يكون ذلك الشاب؟ إنه أنا! يا بُني إن الله يستر العبد إن عصاه، ثم يستره إن عصاه ثانيةً، ثم يفضحه إن أصر على المعصية؛ فكُن ستّاراً يسترك الله ويُسخِّر لك من يسترك فكلنا عيوبٌ ونحتاج الستر". بعدها بعامٍ هاجر السيد إلى أُستراليا وعلمتُ بوفاته بعدها. أما الفتاة فالتقيتها بعد ثلاثة أعوامٍ صدفةً فى حفل عُرسٍ وأخبرتني أنها التحقت بكلية الطب البشري، وربما هي الآن طبيبةٌ عظيمةٌ وأمٌ لأسرةٍ جميلةٍ، وربما أيضاً تكون سبباً لإنقاذ حياتي يوماً ما.

إنها (فضيلة الستر)؛ تلك الفضيلة المنسية في زمنٍ سيطرت فيه مواقع التواصل الاجتماعي على حياة الناس، إلا من رحم ربك، فكفانا تعقباً لفضائح الناس، وكفانا قسوةً في أحكامنا على الآخرين.

 

أحبتي في الله.. الستر نعمةٌ من الله سبحانه وتعالى، وهو فضيلةٌ يحرص عليها المتقون.

يروي أحد الأخوة موقفاً يُبين لنا معنى الستر ومفهومه الشامل، كتب يقول: كنتُ أشتري صباح كل يومٍ صحيفةً من بائع الصُحف، وقد علمني مرةً درساً مُهماً سيبقى في ذاكرتي طوال العمر؛ سألته مرةً: "كيف حالك اليوم يا عم؟"، فقال لي: "والله، في نعمة الستر!"، فاندهشتُ من إجابته، وسألته: "ولماذا الستر تحديداً؟"، فقال لي: "لأنني مستورٌ من كل شيء!"، قلتُ له مُداعباً: "عن أيّ سترٍ تتحدث، وقميصك مُرقّعٌ بألوانٍ شتى؟!"، فقال لي: "يا بُنيّ، الستر أنواعٌ: عندما تكون مريضاً، ولكنك قادرٌ على السير بقدمَيك، فهذا سترٌ من مذلّة المرض. عندما يكون في جيبك مبلغٌ بسيطٌ من المال يكفيك لتنام وأنت شبعانٌ، حتى لو أكلتَ خُبزاً، فهذا سترٌ من مذلّة الجوع. عندما يكون لديك ملابس، ولو كانت مُرقّعةً أو قديمةً، فهذا سترٌ من مذلّة البرد. عندما تكون قادراً على الضحك، وأنت حزينٌ لأيّ سببٍ، فهذا سترٌ من مذلّة الحُزن. عندما تكون قادراً على قراءة الصحيفة التي بين يديك، فهذا سترٌ من مذلّة الجهل. عندما تستطيع أن تتصل في أيّ وقتٍ بأهلك لتطمئن عليهم وتُطمئنهم عنك، فهذا سترٌ من مذلّة الوحدة. عندما يكون لديك وظيفةٌ أو مهنةٌ حتى لو بائع صحفٍ، تمنعك عن مد يدك إلى أيّ شخصٍ، فهذا سترٌ من مذلة السؤال. عندما يُبارك لك الله في أولادك وبناتك، في صحتهم وتعليمهم وزواجهم وبيوتهم، فهذا سترٌ من مذلة القهر. عندما يكون لديك زوجةٌ صالحةٌ، تحمل معك همّ الدنيا، فهذا سترٌ من مذلّة الانكسار. وتذكّر دائماً أنك تملك نِعَماً يتمناها ملايين‏ البشر؛ هذه هي نعمة الستر. الستر يا بُنيّ، ليس ستر فلوس، وإنما ستر نفوس".

 

عن (فضيلة الستر) قال النبي صلى الله عليه وسلم: [إن اللهَ عزَّ وجلَّ حليمٌ حييٌّ، سِتِّيرٌ، يُحِبُّ الحياءَ، والسِتْرَ].

وعن ستر الغير قال عليه الصلاة والسلام: [... ومَن سَتَرَ مُسْلِمًا، سَتَرَهُ اللَّهُ يَومَ القِيَامَةِ]. وفي روايةٍ: [... ومن سترَ مسلمًا، ستره اللهُ في الدنيا والآخرةِ]. وقال عليه الصلاة والسلام: [لا يسترُ عبدٌ عبدًا في الدُّنيا، إلَّا ستره اللهُ يومَ القيامةِ].

أما عن ستر النفس -وهو أولى- فقال عليه الصلاة والسلام: [كُلُّ أُمَّتي مُعافًى إلَّا المُجاهِرِينَ، وإنَّ مِنَ المُجاهَرَةِ أنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ باللَّيْلِ عَمَلًا، ثُمَّ يُصْبِحَ وقدْ سَتَرَهُ اللَّهُ عليه، فَيَقُولَ: يا فُلانُ، عَمِلْتُ البارِحَةَ كَذا وكَذا، وقدْ باتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ، ويُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللَّهِ عنْه]، ويقول العلماء عن ذلك: "للعبد سترٌ بينه وبين الله، وسترٌ بينه وبين الناس؛ فمن هتك الستر الذي بينه وبين الله؛ هتك الله الستر الذي بينه وبين الناس".

 

وعن (فضيلة الستر) قال أحدهم: "كلنا مُثقلون بالعيوب، ولولا رداءٌ من الله اسمه الستر لكُسِرت أعناقنا من شدة الخجل؛ فإذا وصلتك فضيحةٌ لأحدٍ فاجعلها تقف عندك ولا تتعداك، فإن وقفتْ عندك أخذتَ أجر الستر، وسترك الله في الدنيا والآخرة".

 

أما الشاعر فقال:

لِسانُكَ لا تذكرْ بهِ عَورةَ امرئٍ

فَكُلُكَ عَوراتٌ وللناسِ ألسُنُ

وَعيناكَ إنْ أبدتْ إليكَ مَعايباً

فَدَعْها وَقُلْ يا عَيْنُ للناسِ أعينُ

وعاشِرْ بمَعْروفٍ وَسامِحْ مَنْ اعْتَدى

وَدافِعْ ولَكِنْ بالتي هي أَحْسَنُ

وقال آخر:

لا تهتكنَ من مساوي الناسِ ما سُترا

فيهتكُ الله سِـتراً عن مَساويكَ

واذكرْ مَحاسـنَ ما فـيهم إذا ذُكِـروا

ولا تَعبْ أحداً مِنهم بمـا فيـكَ

 

أحبتي.. (فضيلة الستر) ما أحسنها من فضيلةٍ؛ فلنبدأ بأنفسنا نسترها فلا نُجاهر بسوءٍ فعلناه، ستره الله علينا، بل نستغفر ونتوب. ثم إن علينا أن نستر غيرنا؛ فيُنعم الله علينا بستره الجميل في الدنيا والآخرة، ومَنْ أنعَمَ الله عليه بالستر في الدنيا سَلِمَ من أذى الناس، وعاش بينهم عزيزاً كريماً، أما في الآخرة فعسى أن يجعل الله سمعنا وأبصارنا وجلودنا شهوداً لنا لا علينا يوم الحساب؛ يقول تعالى: ﴿وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِّمَّا تَعْمَلُونَ﴾.

اللهم استرنا فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض عليك.

 

https://bit.ly/3VKUwKg