الجمعة، 1 فبراير 2019

إياكم والظلم


الجمعة 1 فبراير 2019م

خاطرة الجمعة /١٧٢
(إياكم والظلم)

بدأ الرجل يروي لنا قصته بهذه العبارة: "من رآني فلا يظلمن أحداً"، يقول الرجل وهو يبكي أنه كان جباراً من الجبابرة، يساعد الظالمين على ظلمهم للناس، وكان أكثرهم ظلماً، وذات يومٍ وبينما هو يتمشى على شاطئ بحيرةٍ رأى صياداً حالفه الحظ في اصطياد سمكةٍ كبيرةٍ جداً، رأى الظالم السمكة فأُعجب بها واندهش من حجمها الكبير، يقول إنه لم يرَ مثلها من قبل، توجه إلى الصياد وقال له بأسلوبٍ غير لائقٍ: "أعطني هذه السمكة يا رجل؛ لأنه ليس من حقك أن تصطاد هنا"، فقال الصياد: "هذا قوت أبنائي الصغار، وليس لدي شيءٌ آخر أقوم به غير عملي هذا" ، فقام الرجل الظالم بضربه، وأخذ السمكة منه بالقوة، وألقاه في البحيرة ومضى في طريقه، وبينما هو عائدٌ إلى البيت فتحت السمكة، بقدرة الله، فمها وعضت يده عضةً قويةً، وعندما وصل إلى البيت ألقى بها من يده؛ فضربت  إبهامه وتسببت له في جرحٍ خطيرٍ وألمٍ شديدٍ جداً لدرجة أنه لم ينم ليلتها نتيجة الألم، وعندما حل الصباح  ذهب الرجل إلى الطبيب يشكو إليه، فقال له الطبيب : "هذه بداية الآكلة؛ ولا بد من قطع الإبهام فوراً، وإذا لم نقطع الإبهام في أقل من يومين من الممكن أن نضطر إلى قطع ذراعك بالكامل!". عاد الرجل إلى بيته محتاراً في أمره لا يدري ماذا يصنع، وبعد مرور الساعات بدأت يده تؤلمه بشدة، بعدها بدأ الألم ينتشر في جسمه بأكمله فتوجه الرجل للمستشفى يستغيث بالطبيب؛ فنصحه الطبيب بقطع يده إلى أعلى الكتف، وبالفعل قَبِل الرجل هذه المرة ما قرره الطبيب، فقام بقطع يده إلى الكتف. وحينما كان الناس يسألونه ما الذي حصل له حتى قُطعت يده، كان يرد وهو يبكي: "إنه صاحب السمكة!". وذات يومٍ حكى الرجل قصته لأحد الشيوخ فقال له: "لو كنتَ بحثتَ عن الصياد صاحب السمكة وتحللتَ منه لما قُطعت يدك"، ونصحه بالبحث عن الرجل وطلب عفوه ومسامحته حتى لا يزيد الألم بالنشر في جسمه بالكامل. وبالفعل خرج الرجل يبحث عن الصياد صاحب السمكة في جميع أرجاء المدينة حتى وجده، فانكب على قدميه يقبلها، ويبكي بحرقةٍ، وأخد يستحلفه بالله أن يسامحه ويعفو عنه، استغرب الصياد من الأمر وسأله: "من أنت؟"، فقال له الرجل: "أنا الذي أخذتُ منك سمكتك منذ وقتٍ بعيدٍ"، وقصَّ له ما وقع له بسبب السمكة من البداية للنهاية، فأخذ الصياد يبكي لما وقع للظالم من بلاءٍ، وقال له أنه قد سامحه، فسأله: "أستحلفك بالله؛ ما قلتَ فيّ يوم أخذتُ منك السمكة بالقوة؟"، أجاب الصياد: "قلت فيك وقتها يا ربِ إن هذا الظالم ظلمني وأخد مني رزق أولادي وتغلب عليّ بقوته، فأرني قوتك فيه يا رب العالمين“.

هذه قصةٌ يتداولها الناس عن الظلم، أما الواقع الذي نعايشه ويجعلنا نقول بأعلى صوتٍ لكل من نعرفه ومن لا نعرفه (إياكم والظلم) فهو شاهدٌ حيٌ على أن عاقبة الظلم وخيمةٌ؛ فهذا ظالمٌ لم يمت إلا بعد أن أذله الله، وهذا نهش جسمه المرض العضال قبل أن يموت، وذلك غرق وهو يسبح في مصيفه، والآخر انقلبت به سيارته، وغيرهم كثيرٌ وكثيرٌ؛ علَّ الظالم يتعظ، وعسى المفتونين بقوة أي ظالمٍ وجبروته أن يعتبروا.

أحبتي في الله .. إن الله سبحانه وتعالى لا يَظلم؛ قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَظلِمُ مِثقالَ ذَرَّةٍ﴾، ولا يرضى الظلم لعباده؛ قال تعالى: ﴿وَمَا اللَّهُ يُريدُ ظُلمًا لِلعالَمينَ﴾، بل وحرَّم الظلم على نفسه وجعله بيننا مُحَرَّماً؛ يقول تعالى في الحديث القدسي: {يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُوا}.

ووردت في القرآن الكريم آياتٌ كثيرةٌ تنهى عن الظلم وتحذر من عواقبه الوخيمة؛ من ذلك قوله سبحانه وتعالى: ﴿فَأَرسَلنا عَلَيهِم رِجزًا مِنَ السَّماءِ بِما كانوا يَظلِمونَ﴾ وقوله: ﴿وَأَخَذنَا الَّذينَ ظَلَموا بِعَذابٍ بَئيسٍ بِما كانوا يَفسُقونَ﴾، وقوله: ﴿وَلَقَد أَهلَكنَا القُرونَ مِن قَبلِكُم لَمّا ظَلَموا﴾، وقوله: ﴿وَتِلكَ القُرى أَهلَكناهُم لَمّا ظَلَموا﴾، وقوله: ﴿فَتِلكَ بُيوتُهُم خاوِيَةً بِما ظَلَموا إِنَّ في ذلِكَ لَآيَةً لِقَومٍ يَعلَمونَ﴾، وقوله كذلك: ﴿فَكُلًّا أَخَذنا بِذَنبِهِ فَمِنهُم مَن أَرسَلنا عَلَيهِ حاصِبًا وَمِنهُم مَن أَخَذَتهُ الصَّيحَةُ وَمِنهُم مَن خَسَفنا بِهِ الأَرضَ وَمِنهُم مَن أَغرَقنا وَما كانَ اللَّهُ لِيَظلِمَهُم وَلكِن كانوا أَنفُسَهُم يَظلِمونَ﴾.

ووصف سبحانه الظالمين بأنهم لا يفلحون؛ قال تعالى: ﴿إِنَّهُ لا يُفلِحُ الظّالِمونَ﴾، وبَيَّن لنا أن الظالم من الخاسرين الخائبين؛ قال تعالى: ﴿وَعَنَتِ الوُجوهُ لِلحَيِّ القَيّومِ وَقَد خابَ مَن حَمَلَ ظُلمًا﴾، وتوعد الذين ظلموا بالعذاب يوم القيامة؛ قال تعالى: ﴿فَوَيلٌ لِلَّذينَ ظَلَموا مِن عَذابِ يَومٍ أَليمٍ﴾، وقال تعالى: ﴿الَّذينَ يَظلِمونَ النّاسَ وَيَبغونَ فِي الأَرضِ بِغَيرِ الحَقِّ أُولئِكَ لَهُم عَذابٌ أَليمٌ﴾، وقال تعالى: ﴿وَمَن يَظلِم مِنكُم نُذِقهُ عَذابًا كَبيرًا﴾، وقال تعالى: ﴿وَإِنَّ لِلَّذينَ ظَلَموا عَذابًا دونَ ذلِكَ﴾، وقال تعالى: ﴿وَنَقولُ لِلَّذينَ ظَلَموا ذوقوا عَذابَ النّارِ الَّتي كُنتُم بِها تُكَذِّبونَ﴾، وقال تعالى: ﴿ثُمَّ قيلَ لِلَّذينَ ظَلَموا ذوقوا عَذابَ الخُلدِ﴾. ويصف سبحانه أحوالهم يوم القيامة؛ قال تعالى: ﴿فَيَومَئِذٍ لا يَنفَعُ الَّذينَ ظَلَموا مَعذِرَتُهُم وَلا هُم يُستَعتَبونَ﴾، وقال تعالى: ﴿وَلَو أَنَّ لِلَّذينَ ظَلَموا ما فِي الأَرضِ جَميعًا وَمِثلَهُ مَعَهُ لَافتَدَوا بِهِ مِن سوءِ العَذابِ يَومَ القِيامَةِ وَبَدا لَهُم مِنَ اللَّهِ ما لَم يَكونوا يَحتَسِبونَ﴾، وقال تعالى: ﴿وَلَو أَنَّ لِكُلِّ نَفسٍ ظَلَمَت ما فِي الأَرضِ لَافتَدَت بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمّا رَأَوُا العَذابَ وَقُضِيَ بَينَهُم بِالقِسطِ وَهُم لا يُظلَمونَ﴾.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: [اتَّقُوا الظُّلْمَ، فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ]، وقال عليه الصلاة والسلام: [اتَّقوا دعوةَ المظلومِ فإنَّها تصعدُ إلى السَّماءِ كأنَّها شرارةٌ]، وقال صلى الله عليه وسلم: [اتَّقُوا دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ وَإِنْ كَانَ كَافِرًا فَإِنَّهُ لَيْسَ دُونَهَا حِجَابٌ]، وقال عليه الصلاة والسلام: [اتَّقُوا دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ، فَإِنَّهَا تُحْمَلُ عَلَى الْغَمَامِ، يَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَعِزَّتِي وَجَلالِي لأَنْصُرَنَّكِ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ].

ومن رحمة الله سبحانه وتعالى أنْ وعد الذين يتوبون عن الظلم، ويستغفرون الله، ويُصلحون، ويُبَدِّلون حُسناً بعد سوءٍ وعدهم بالمغفرة والرحمة؛ قال تعالى: ﴿وَمَن يَعمَل سوءًا أَو يَظلِم نَفسَهُ ثُمَّ يَستَغفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفورًا رَحيمًا﴾، وقال تعالى: ﴿فَمَن تابَ مِن بَعدِ ظُلمِهِ وَأَصلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتوبُ عَلَيهِ إِنَّ اللَّهَ غَفورٌ رَحيمٌ﴾، وقال تعالى: ﴿وَالَّذينَ إِذا فَعَلوا فاحِشَةً أَو ظَلَموا أَنفُسَهُم ذَكَرُوا اللَّهَ فَاستَغفَروا لِذُنوبِهِم وَمَن يَغفِرُ الذُّنوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَم يُصِرّوا عَلى ما فَعَلوا وَهُم يَعلَمونَ﴾، وقال تعالى: ﴿إِلّا مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسنًا بَعدَ سوءٍ فَإِنّي غَفورٌ رَحيمٌ﴾. وهذا نبي الله موسى عليه السلام ظلم نفسه واستغفر الله فغفر له؛ قال تعالى: ﴿قالَ رَبِّ إِنّي ظَلَمتُ نَفسي فَاغفِر لي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الغَفورُ الرَّحيمُ﴾.

ومن حِلم الله بعباده أنه يمهلهم كي يتوبوا عن الظلم فيغفر لهم؛ يقول تعالى: ﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَابَّةٍ وَلَٰكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى  فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ﴾.

النصوص عن الظلم في القرآن والسُنة المشرفة كثيرةٌ، وواضحةٌ وضوحاً يغني عن شرحها. المهم أن نفتح قلوبنا لكلام الله سبحانه وتعالى. هلا استشعرنا بصدقٍ قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَلا تَحْسَبَنَّ الله غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِموْنَ﴾؟ واللهِ لو استشعرناها بصدقٍ وحقٍ لبكينا وندمنا على كل لحظةٍ ظلمنا فيها غيرنا بالفعل أو القول أو الظن.
على أنه من المهم التأكيد على معنىً يغفل عنه الكثيرون؛ ألا وهو أن عذاب الله سبحانه وتعالى لا يقتصر على الظالمين فقط، بل يمتد ليشمل غير الظالمين؛ الذين يركنون إلى الظالمين فيدعمونهم أو يؤيدونهم أو يرضون بقلوبهم ما يفعل الظالمون. يحذرهم الله سبحانه وتعالى ويتوعدهم بأن النار ستمسهم، ويُذَّكِرهم بأنه شديد العقاب؛ قال تعالى: ﴿وَلا تَركَنوا إِلَى الَّذينَ ظَلَموا فَتَمَسَّكُمُ النّارُ وَما لَكُم مِن دونِ اللَّهِ مِن أَولِياءَ ثُمَّ لا تُنصَرونَ﴾، وقال تعالى: ﴿وَاتَّقوا فِتنَةً لا تُصيبَنَّ الَّذينَ ظَلَموا مِنكُم خاصَّةً وَاعلَموا أَنَّ اللَّهَ شَديدُ العِقابِ﴾.

ولنا في قصة ثمود قوم سيدنا صالح عبرةٌ وعظةٌ؛ حيث يتضح أن من مكرَ وخطط، ومن ساعد وأَذِن، ومن مول وجهَّز، ومن سكت وتغافل عن قتل الناقة، حاق به العذاب نفسه والوعيد نفسه، واشترك في الذنب نفسه؛ فالقاتل الذي تعاطى وعقر واحدٌ فقط، والمحرضون رهطٌ قليل، وباقي القوم الذين لم يسعوْا لنصرة الحق ولا هم أخذوا على يد القاتل ولا هم تصدوا لمن يحرض على الظلم، اشتركوا جميعاً في العذاب؛ يقول الحق سبحانه: ﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا . إِذِ انبَعَثَ أَشْقَاهَا . فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا . فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُم بِذَنبِهِمْ فَسَوَّاهَا . وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا﴾.

أحبتي .. نداءٌ أوجهه للظالمين؛ أقول لهم: (إياكم والظلم)، توقفوا عنه وتوبوا يرحمكم الله ويغفر لكم. وكلمةٌ من القلب للغافلين الذين ما يزالون يركنون إلى الذين ظلموا؛ أقول لهم: أفيقوا من قبل أن تُحاسَبوا على ظلمٍ لم تقترفه أيديكم، وإنما حرضتم عليه أو مكَّنتم له أو وافق هوى قلوبكم فسكَّتُم، ولم تعملوا بحديث النبي عليه الصلاة والسلام: [انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا] قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا نَنْصُرُهُ مَظْلُومًا فَكَيْفَ نَنْصُرُهُ ظَالِمًا؟ قَالَ: [تَأْخُذُ فَوْقَ يَدَيْهِ]، وفي روايةٍ: [تَحْجِزُهُ عَنِ الظُّلْمِ فَإِنَّ ذَلِكَ نَصْرُهُ]. انتبهوا أحبتي فالحديث يوجهكم إلى فعلٍ إيجابيٍ تُثابون على القيام به، والظالمون، كما هو ظاهرٌ لكم، لا عهد لهم حتى مع أقرب الناس إليهم؛ ألا يكفي أنهم قد خانوا الله من قبل، فهل أنتم أعز عندهم من الله؟! ألا تعقلون؟ كم من الذين خالفوا قول الله وركنوا إلى الظالمين صاروا الآن بين يديه سبحانه وتعالى ينتظرون أن تمسهم النار، هؤلاء أغلقوا عيونهم وصموا آذانهم وأماتوا الفطرة السليمة في قلوبهم؛ فلم يأبهوا بتحذير الله لهم ووعيده؛ فباعوا آخرتهم بدنيا غيرهم! أفلا تتعظون؟

اللهم أرنا قوتك في الظالمين، ولا تجعلنا منهم، وتُب علينا واغفر لنا وارحمنا إن نحن تبنا وندمنا وتوقفنا عن الظلم، ولا تجعلنا ربنا للظالمين أعواناً، واجعل لنا من لدنك سلطاناً نصيرا لننصرهم ونأخذ على أيديهم ونحجزهم ونمنعهم من الظلم، أنت ولينا ومولانا.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.

هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.

https://goo.gl/sVhsWR