الجمعة، 1 ديسمبر 2017

لا أكذب؛ أنا مسلم

الجمعة 1 ديسمبر 2017م

خاطرة الجمعة /١١١
(لا أكذب؛ أنا مسلم)

مُعلقاً على خاطرة الجمعة الماضية قال لي: "من يقرأ ما كتبتَ يعتقد أن الغيبة هي أشد آفات اللسان"، قلت له مصححاً: "بل هي مِنْ أشد آفات اللسان"، سألني: "ما الفرق؟"، أجبته: "ألم تنتبه إلى {مِنْ}؟ إنها كما يقول اللغويون حرف تبعيض يُقصد به الدَّلالة على جزءٍ مِنْ كُلٍّ؛ والمعنى عزيزي أن الغيبة هي واحدةٌ من أشد آفات اللسان، لكن يوجد غيرها كذلك". سَكَتَ لحظة ثم استطرد: "لعلك تشير إلى ما سميته في خاطرتك بالبهتان"، قلت: "نعم فالبهتان هو من أشد آفات اللسان، وكذلك النميمة، والافتراء، وقول الزور ، والقذف، واللعن، والشتم والسب، والسخرية، والحلف بغير الله؛ فهذه كلها وغيرها من آفات اللسان وقانا الله منها"، سألني: "ألا تعتقد أن الكذب يمحق الحسنات أكثر من الغيبة؟"، قلت له: "كل آفة من تلك الآفات ماحقةٌ للحسنات؛ تذهب بالأجور وتلتهم كل ثواب، لكنها متفاوتةٌ في ذلك بحسب نية صاحبها، وبقدر ما تحدثه من ضرر. أما عن الكذب تحديداً ومقارنته بالغيبة، فدعني أوضح لك أن الكذب لا يتم إلا بإرادةٍ واعيةٍ من الفرد، وأنه يحدث غالباً بهدف تحقيق مصلحةٍ آنيةٍ، على عكس الغيبة فهي تجري على ألسنة الكثير منا وكأنها فعلٌ لا إرادي، كما أن المقصود منها في غالب الأحوال ليس النفع الشخصي بقدر ما يكون هدفها الانتقاص من الآخرين والحط من شأنهم"، وأنهيت كلامي معه بالقول: "أعدك بأن تكون خاطرة الجمعة القادمة عن الكذب"، شَكَرَ لي اهتمامي وانصرف مذكراً بموعد لقاءٍ قريبٍ يجمع بيننا.

أحبتي في الله .. ها أنا ذا أفي بوعدي له، وأكتب عن الكذب. الْكَذِبُ هُوَ الْإِخْبَارُ عَنْ الشَّيْءِ بِخِلَافِ مَا هُوَ فيه على وجه العلم والتعمد، وهو ضِدُّ الصِّدق، وكُلّ إخبارٍ بخِلاف الواقع يُعَدُّ كَذِبَاً.
والكذب من آفات اللسان؛ يقول أهل العلم: اللسان وما أدراك ما اللسان، هو نعمةٌ من نعم الله العظيمة ولطائف صنعه الغريبة، هو ترجمان القلوب والأفكار؛ فهو آلة البيان وطريق الخطاب. له في الخير مجالٌ كبيرٌ وله في الشر باعٌ طويلٌ؛ فمن استعمله للحكمة والقول النافع وقضاء الحوائج وقيده بلجام الشرع فقد أقر بالنعمة ووضع الشيء في موضعه، ومن أطلق لسانه وأهمله سلك به الشيطان كل طريق؛ فلا يكب الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم، بل إن جوارح الإنسان كلها مرتبطةٌ باللسان في الاستقامة والاعوجاج تُذَكِر صاحبها صباح كل يومٍ (لا أكذب؛ أنا مسلم)؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: [إذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء كلها تكفر اللسان ـ أي تخضع له ـ فتقول: اتقِ الله فينا فإنما نحن بك فإن استقمت استقمنا وإن اعوججت اعوججنا]. من هنا جاء التأكيد على حفظ اللسان؛ قال تعالى: ﴿ما يلفظ من قول إلاّ لديه رقيب عتيد﴾. ولعظم هذا الأمر فقد ضرب السلف أروع الأمثلة في حفظهم لألسنتهم؛ فهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه يمسك بلسانه ويقول: "هذا أوردني الموارد". وهذا عليٌ رضي الله عنه يقول: "أعظم الخطايا عند الله اللسان الكذوب، وشر الندامة ندامة يوم القيامة". وكان ابن عباس يأخذ بلسانه ويقول: "ويحك قل خيراً تغنم، أو اسكت عن سوءٍ تسلم، وإلا فاعلم أنك ستندم". وكان ابن مسعود يحلف بالله الذي لا إله إلا هو: "ما على الأرض شيءٌ أحوج إلى طول سجنٍ من لسانٍ".
هكذا إذن الكلام؛ هو أسيرك طالما لم تنطق به، فإذا خرج من فمك صرت أنت أسيره.
والكذب من أشد آفات اللسان، يودي بصاحبه إلى نار جهنم والعياذ بالله.
يقول المختصون أن الكذب يكون إما بتزييف الحقائق جزئياً أو كلياً، أو خلق رواياتٍ وأحداثاً جديدةً، بنية وقصد الخداع لتحقيق هدفٍ معينٍ قد يكون مادياً أو نفسياً أو اجتماعياً. وهو عكس الصدق. والكذب فعلٌ محرمٌ قد يقترن بعددٍ من الجرائم مثل الغش والنصب والسرقة.
لقد حَرَّمَ اللهُ سبحانه وتعالى الكذب واعتبره ذنباً عظيماً وكبيرةً من الكبائر، وذَمَّ الكاذبين في كتابه الكريم وتَوَعَّدَهم بالعذاب؛ قال عَزَّ وجَلَّ: ﴿إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَأُوْلئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ﴾، وقال جَلَّ جَلالُه: ﴿فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴾، وقال تعالى: ﴿إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب﴾، وقال سبحانه: ﴿وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ﴾.
كما أن الكذب كان أبغض الأخلاق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فعن ‏السيدة عائشة رضي الله عنها قالت: ‏"ما كان خلقٌ أبغض إلى النبي عليه الصلاة والسلام ‏من الكذب، ولقد كان الرجل يُحَدِّث عند النبي ‏بالكذبة فما يزال في نفسه حتى يعلم أنه قد أحدث منها توبةً"‏‏.
 ويُعد الكذب من خصال المنافقين؛ قال صلى الله عليه وسلم: [أربعٌ من كُنَّ فيه كان مُنافقاً خالصاً، ومن كان فيه خصلةٌ منهن، كانت فيه خصلةٌ من نفاقٍ حتَّى يدعها: إذا اؤتمن خان، وإذا حدَّث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر]. وسُئل الرسول عليه الصلاة والسلام: أيكون المؤمن جباناً؟ قال: [نعم]. فقيل له: أيكون بخيلاً؟ فقال: [نعم]. فقيل له: أيكون المؤمن كذَّاباً؟ فقال: [لا].
ومن الكذب أنواعٌ أعظمها الكذب على الله سبحانه وتعالى؛ قال عز وجل: ﴿ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة أليس في جهنم مثوى للمتكبرين﴾، وقال تعالى: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً﴾، ومن ذلك التحليل والتحريم بحسب الأهواء، لا بحسب الشرع المنزل من عند الله؛ قال عز وجل: ﴿وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ﴾.
كما أن الكذب على النبي صلوات الله وسلامه عليه هو من أشد أنواع الكذب يُورِد صاحبه النار؛ قال عليه الصلاة والسلام: [مَنْ تَعَمَّدَ عَلَيَّ كَذِبًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ]، وقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [مَنْ حَدَّثَ عَنِّي بِحَدِيثٍ يُرَى أَنَّهُ كَذِبٌ فَهُوَ أَحَدُ الْكَاذِبِينَ].
ولا تهاون في الكذب، قليله ككثيره؛ فعن عبد الله بن عامر رضي الله عنه قال: دعتني أمي يوماً ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاعدٌ في بيتنا، فقالت: ها، تعال أُعطيك، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: [وما أردت أن تعطيه؟]، قالت: أعطيه تمراً، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: [أما إنك لو لم تعطيه شيئاً كُتبت عليك كذبة].
حتى في المزاح، لا يجوز أن يمزح الإنسان بالكذب؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [وَيْلٌ لِلّذِي يُحَدّثُ فَيَكْذِبُ لِيُضْحِكَ بِهِ الْقَوْمَ، وَيْلٌ لَهُ، وَيْلٌ لَهُ]، وقال صلى الله عليه وسلم: [ألا هل عسى رجلٌ منكم أن يتكلم بالكلمة يضحك بها القوم، فيسقط بها أبعد من السماء، ألا هل عسى رجلٌ منكم أن يتكلم بالكلمة يضحك بها أصحابه، فيسخط الله بها عليه، لا يرضى عنه حتى يدخله النار]. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يداعب أصحابه ويقابلهم بالابتسامة، لكنه لم يكن يقول إلا حقاً وإن كان مازحاً؛ أتت عجوزٌ إليه فقالت: يا رسول الله، ادعُ الله أن يدخلني الجنة. فقال: [يا أم فلان إن الجنة لا تدخلها عجوز]، فولت تبكي، فقال عليه الصلاة والسلام: [أخبروها أنها لا تدخلها وهي عجوزٌ؛ إن الله تعالى يقول: ﴿إنا أنشأناهن إنشاء . فجعلناهن أبكارا . عُرباً أترابا﴾] أي أنها حين تدخل الجنة سيعيد الله إليها شبابها وجمالها.

ومع كل ما تقدم فإن الإسلام يبيح الكذب في حالاتٍ خاصةٍ؛ تقول أم كلثوم بنت عقبة: ما سمعت رسول الله ‏‏ يرخص في شيءٍ من الكذب إلا في ثلاثٍ فكان يقول: [لا أعده كاذباً الرجل يصلح بين الناس يقول القول ولا يريد به إلا الإصلاح، والرجل يقول في الحرب، والرجل يحدث امرأته والمرأة تحدث زوجها].

والصدق نقيض الكذب؛ من صدق مصيره إلى الجنة، ومن كذب فمسيره إلى النار؛ قال صلى الله عليه وسلم: [إِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حَتَّى يَكُونَ صِدِّيقًا وَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا].
ومن الإيمان أن تُؤْثِر الصِّدق حتَّى لو كان يضرُّك، على الكذب حتَّى لو كان ينفعك.
كان أحد الصالحين إذا طلبه من يكره أن يخرج إليه وهو في الدار قال للجارية: قولي له: "اطلبه في المسجد"، ولا تقولي له: "ليس ها هنا"؛ كيلا يكون كذباً، تطبيقاً عملياً لمبدأ (لا أكذب؛ أنا مسلم).

يقول أحد العلماء: من سَبَر أحوال الناس اليوم وجد بعضهم يرى الكذب من الذكاء والدهاء وحُسن الصنيع؛ ونتج عن هذا عدم الثقة بين الناس حتى أن بعضهم لا يثق بأقرب الناس إليه إذا كان الكذب ديدنه ومغالطة الأمور طريقته.
ومن عُرف بالكذب فإنه لا يكاد يُصَدَّق في شيءٍ أبداً وإن صَدَق، بل إن سَمِعَ الناس بكذبةٍ ربما خرجت من غيره فإنهم ينسبونها إليه؛ وفي ذلك يقول الشاعر:
حسب الكذوب من البلية
بعضُ ما يُحكى عليه
فمتى سمعت بكذبةٍ من غيره
نسبت إليه
والكاذب إذا تعود الكذب، ولم يجد من يكذب عليه كذب على نفسه؛ قال تعالى: ﴿انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾.
ولا يكون عقاب الكاذب في الآخرة ويوم الحساب فقط، بل إنه يُعاقب في الدنيا أيضاً، ومن ذلك قصة بائع البرتقال؛ حيث يُحكى أنه في يومٍ من الأيام كان هناك بائع برتقالٍ يجلس على جانب الطريق يبيع للناس ما معه من ثمارٍ، فمرت به عجوزٌ سألته إن كانت هذه الثمار حامضةً أم لا، فظن البائع أن العجوز لا تأكل البرتقال الحامض فرد عليها: لا يا سيدتي أنه حلوٌ، كم يلزمك؟ أجابت العجوز: لا أريد؛ فأنا أرغب أن أشتري البرتقال الحامض لزوجة ابني الحامل فهي تشتهي أكل الحامض. هكذا خسر البائع هذه الصفقة بسبب كذبه، لكنه لم يتعلم الدرس. بعد يومين اقتربت منه امرأة حاملٌ تسأله: هل هذا البرتقال حامض؟ تذكر البائع فوراً كلام العجوز وظن أن السيدة الحامل تريد الحامض، فأجابها؛ نعم إنه حامض، كم تريدين منه؟ فأجابته السيدة؛ لا أريد منه شيئاً؛ فقد أرسلتني أم زوجي لأشتري لها برتقالاً حلواً، وأخبرتني أنه يوجد لديك فجئت أشتري منك. حينها أدرك البائع أن هذه هي زوجة ابن العجوز، وخسر أيضاً هذه البيعة بسبب كذبه!.
ولعل أبلغ عقوبة للكاذب في دنياه ليست أنّ الناس لا يصدقونه، بل أنهُ هو لا يستطيع أن يصدق الناس!.
والكاذب من الخاسرين؛ لن يفلح أبداً مهما استمر في كذبه؛ فهو يستطيع أنّ يخدع كل الناس بعض الوقت، ويستطيع أن يخدع بعض الناس كل الوقت، ولكنه لا يستطيع أنّ يخدع كل الناس كل الوقت.

أحبتي .. الكذب خسارة؛ فليكن شعارنا (لا أكذب؛ أنا مسلم) فلا نكذب ولا نصاحب الكاذبين؛ قال حكيمٌ: اجتنب صحبة الكذاب فإنّه مثل السراب يلمع ولا ينفع، ولا تجعل نفسك مهينة وأنت ترى أنّه في قرارة نفسه استطاع بذكائه أن يوهمك ويدلس عليك. بل انفر منه ولا تدعه يلوث سمعك ويخطِّيء معلوماتك ويفسد عليك صفاءك.
وقال الشاعر:
الصِّدْقُ فِي أَقْوَالِنَا أَقْوَى لَنَا
وَالكِذْبُ فِي أَفْعَالِنَا أَفْعَى لَنَا

جعلني الله وإياكم ممن يُقال لهم في ذلك اليوم المشهود والموقف العظيم: ﴿هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ﴾.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.
هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.


http://goo.gl/qtQUcm