الجمعة، 15 يناير 2021

دعوة المظلوم

 

خاطرة الجمعة /274


الجمعة 15 يناير 2021م

(دعوة المظلوم)

 

وقعت أحداث هذه القصة العجيبة في «العراق» قبل عدة قرون، ولولا أن راويها من المحدثين الثقاة ما كنتُ صدقتُ نهايتها، قال الراوي:

أردتُ أن أسافر من بلدي «الموصل» إلى بلد «سامراء» لشراء بعض البضاعة، وكانت هناك سفنٌ تسير في نهر «دجلة» بين البلدين تنقل الركاب والبضاعة بالأجرة، فركبتُ إحدى هذه السفن، وسرنا في النهر متجهين نحو «سامراء». وكان في السفينة بعض البضاعة ونفرٌ من الرجال لا يتجاوز الخمسة، وكان النهار صحوًا والجو جميلًا، والنهر هادئًا، والربان يحدو حداءً جميلًا، والسفينة تسير على صفحة الماء سيرًا هادئًا، حتى أخذتْ أكثرنا غفوةٌ من النوم، أما أنا فكنتُ أمتَّع ناظري بمناظر الشطآن الجميلة على جانبي النهر، وفجأةً رأيتُ سمكةً كبيرةً تقفز من النهر إلى داخل السفينة؛ فهجمتُ عليها وأمسكتُ بها قبل أن تعود إلى النهر مرةً أخرى. وانتبه الرجال من غفوتهم بسبب الضجة التي حصلت، وعندما رأوا السمكة قال أحدهم: "هذه السمكة أرسلها الله تعالى إلينا، لِمَ لا ننزل بها إلى الشاطئ، فنشويها ونأكلها، وهي كبيرةٌ تكفينا جميعًا"؟ فأعجبنا رأيه، ووافق الربان على ذلك، فمال بنا إلى الشاطئ ونزلنا واتجهنا إلى دَغَلٍ من الشجر لنجمع الحطب ونشوي السمكة. وما أن دخلنا الدَّغَل حتى فوجئنا بمنظرٍ اقشعرت منه جلودنا، فوجئنا برجلٍ مذبوحٍ وإلى جانبه سكينٌ حادةٌ على الأرض، وبرجلٍ آخر مكتوفٍ بحبلٍ قويٍ وحول فمه منديلٌ يمنعه من الكلام والصراخ، فاندهشنا من هذا المنظر؛ فمن قتل القتيل ما دام الرجل مكتوفًا؟ أسرعنا أولًا فحللنا الحبل ورفعنا المنديل من فم الرجل، وكان في أقصى درجات الخوف واليأس، وعندنا تكلم قال: "أرجوكم أن تعطوني قليلًا من الماء أشربه أولًا"، فسقيناه وبعد أن هدأ قليلًا، قال: "كنتُ أنا وهذا الرجل القتيل في القافلة التي تسير من «الموصل» إلى «بغداد»، والظاهر أن هذا القتيل لاحظ أن معي مالًا كثيرًا، فصار يتودد إليّ ويتقرب مني ولا يفارقني إلا قليلًا، حتى نزلتْ القافلة في هذا المكان لتستريح قليلًا، وفي آخر الليل استأنفت القافلة السير، وكنتُ نائمًا فلم أشعر بها، وبعد أن سارت القافلة، استغل هذا الرجل نومي وربطني بالحبل كما رأيتم ووضع حول فمي منديلًا لكي لا أصرخ، وسلب مالي الذي كان معي، ثم رماني إلى الأرض وجلس فوقي يريد أن يذبحني وهو يقول: إن تركتك حيًا فإنك ستلاحقني وتفضحني لذلك لابد من ذبحك. وكان معه سكينٌ حادةٌ يضعها في وسطه، وهي هذه السكين التي ترونها على الأرض، وأراد سحب السكين من وسطه ليذبحني، لكنها علقتْ بحزامه، فصار يعالجها ثم نترها بقوةٍ، وكان حدها إلى أعلى فخرجتْ بقوةٍ واصطدمت بعنقه وقطعت الجلد واللحم والشريان فتدفق الدم منه، وخارت قواه ثم سقط ميتًا، وحتى بعد موته كنت موقنًا بأني سأموت لأن هذا المكان منقطعٌ لا يأتيه أحدٌ إلا قليلًا، فمن يفكني؟ من ينقذني؟ وصرتُ أدعو الله سبحانه وتعالى أن يرسل لي مَن يُنقذني مما أنا فيه، فأنا مظلومٌ ودعاء المظلوم لا يُرد، وإذا بكم تأتون وتنقذونني مما أنا فيه، فما الذي جاء بكم في هذه الساعة إلى هذا المكان المنقطع"؟ فقالوا له: "الذي جاء بنا هو هذه السمكة"، وحكوا له كيف قفزتْ من الماء إلى السفينة، فأتوا بها إلى هذا المكان لكي يشووها ويأكلوها، فتعجب من ذلك وقال: "إن الله سبحانه وتعالى قد أرسل هذه السمكة إليكم لكي يجعلكم تأتون إلى هذا المكان وتخلصونني مما أنا فيه، والآن إنني تعبٌ جدًا، أرجوكم أن تأخذونني إلى أقرب بلدة". فصرفوا النظر عن شي السمكة وأكلها وأخذوا الرجل بعدما حمل معه المال الذي سلبه الرجل الآخر منه، وعادوا به إلى السفينة، وما أن وصلوا السفينة حتى قفزتْ السمكة إلى الماء وعادت إلى النهر مرةً أخرى، فكأنما قد أرسلها الله سبحانه وتعالى حقًا لتكون سببًا في إنقاذ الرجل المظلوم، وهكذا إذا أراد الله تعالى شيئًا هيَّأ أسبابه.

 

أحبتي في الله .. إنها (دعوة المظلوم)؛ يقول الله سبحانه وتعالى عنها: ﴿لَّا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَن ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا﴾، قال المفسرون في معنى هذه الآية: لا يحب الله أن يدعو أحدٌ على أحدٍ، إلا أن يكون مظلوماً، فإنه قد أرخص له أن يدعو على مَن ظلمه مِن غير أن يعتدي ويتجاوز في الدعاء، وإن صبر فهو خيرٌ له.

وقال عنها النبي عليه الصلاة والسلام: [اتَّقِ دَعْوَةَ المَظْلُومِ، فَإِنَّهَا لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ]، وقال صلى الله عليه وسلم: [ثَلَاثَةٌ لَا تُرَدُّ دَعْوَتُهُمْ: الْإِمَامُ الْعَادِلُ، وَالصَّائِمُ حَتَّى يُفْطِرَ، وَدَعْوَةُ الْمَظْلُومِ تُحْمَلُ عَلَى الْغَمَامِ، وَتُفْتَحُ لَهَا أَبْوَابُ السَّمَاوَاتِ، وَيَقُولُ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ: وَعِزَّتِي لَأَنْصُرَنَّكَ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ ]، كما قال صلوات الله وسلامه عليه: [ثَلَاثُ دَعَوَاتٍ مُسْتَجَابَاتٌ لَا شَكَّ فِيهِنَّ: دَعْوَةُ الْوَالِدِ، وَدَعْوَةُ الْمُسَافِرِ، وَدَعْوَةُ الْمَظْلُومِ].

قال العلماء إن (دعوة المظلوم) معناها إنه إذا ظلمك أحدٌ فدعوتَ الله عليه استجاب الله دعاءك؛ لأن الله حكمٌ عدلٌ، والمظلوم لابد أن يُنصَف له من الظالم، فالمظلوم دعوته مستجابةٌ، إذا دعا على ظالمه بمثل ما ظلمه أو أقل، أما إن تجاوز فإنه يكون معتدياً فلا يُستجاب له. وقالوا إن أثر (دعوة المظلوم) في حق الظالم قد لا يظهر في الحال، لكون المجيب سبحانه وتعالى حكيماً. كما قالوا إن من عواقب الظلم أن لكل ظالمٍ وإن أجَّل الله عقابه في الحياة الدنيا جزاءٌ يوم الحساب، يأتي به ويأتي بالمظلوم ويُقتص من الظالم شر القصاص، وجزاؤه نار جهنم حيث لا ينفعه مالٌ ولا بنون، فلا يتهاون الإنسان في ظلمه، وإن كان بشيءٍ بسيطٍ لكنه هو عند الله ظلمٌ كبيرٌ للنفس وللغير. كما أن انتشار الظلم سببٌ لهلاك الأمم؛ إذ يصبح الكل مشغولاً بأمر الظالم والمظلوم، الظالم يتمادى ويتكبر، والمظلوم يُصبح مغلوباً على أمره همه الشاغل هو الخلاص مما هو فيه من ظلم، أما نهضة الأمة فتبقى معلّقةً إلى أن يشاء الله ويحكم في الأمر. و(دعوة المظلوم) تعهد الله سبحانه وتعالى بقبولها؛ لأن الله عدلٌ لا يرضى على نفسه الظلم ولا يحبه لعباده. ومن عواقب انتشار الظلم حلول المصائب والبلاء الشديد في الدنيا؛ فالظالم الطاغي المتكبر إن لم يَتُبْ إلى الله ويعترف بذنبه ويُقلع عنه ويرد الحقوق إلى أصحابها، فإن الله يبتليه في ماله وأولاده وصحته، وكل ما يُنعم به عليه، علّه يتعظ ويتوب إلى الله. ورغم كل عواقب الظلم فإن باب التوبة مفتوحٌ للجميع، ولكن على الإنسان أن يلتزم بشروط التوبة النصوح ليعفو الله عنه ويتقبل توبته.

يقول الشاعر:

لا تَظْلِمَنَّ إِذَا مَا كُنْتَ مُقْتَدِرًا

فَالظُّلْمُ آخِرُهُ يُفْضِي إِلَى النَّدَمِ

تَنَامُ عَيْنُكَ وَالمَظْلُومُ مُنْتَبِهٌ

يَدْعُو عَلَيْكَ وَعَيْنُ اللَّهِ لَمْ تَنَمِ

 

وعن تأخر إجابة (دعوة المظلوم) وغيرها مما يدعو به المسلم يقول أحد العلماء: على كل مسلمٍ إذا تأخرت إجابة دعائه أن يعلم أن الله عزَّ وجلَّ حكيمٌ عليمٌ؛ قد يؤخر الإجابة ليكثر دعاؤك، وليكثر إبداء حاجتك إلى ربك، ولتتضرع إليه، وتخشع بين يديه، فيحصل لك بهذا من الخير العظيم والفوائد الكثيرة وصلاح قلبك ورقة قلبك ما هو خيرٌ لك. وقد يؤجل الإجابة، فإذا تأجلت فلا تلم ربك ولا تقل: لماذا يا رب؟! ارجع إلى نفسك وانظر فلعل عندك شيئاً من الذنوب والمعاصي كانت هي السبب في تأخير الإجابة، عليك أن تنظر في أعمالك وسيرتك حتى تُصلح من شأنك؛ فتستقيم على أمر ربك، وتعبده على بصيرةٍ، وتمتثل أوامره، وتنتهي عن نواهيه، وتقف عند حدوده. ثم اعلم أنه سبحانه قد يؤخر الإجابة لمدةٍ طويلةٍ كما أخر إجابة يعقوب في رد ابنه يوسف عليه، وهو نبيٌ عليه السلام. وقد يؤخر سبحانه الإجابة ويدخرها لك إلى يوم الحساب، أو يصرف عنك من الشر مثلها؛ كما جاء في حديث رسول الله عليه الصلاة والسلام: [مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَدْعُو بِدَعْوَةٍ لَيْسَ فِيهَا إِثْمٌ وَلَا قَطِيعَةُ رَحِمٍ، إِلَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ بِهَا إِحْدَى ثَلَاثٍ: إِمَّا أَنْ تُعَجَّلَ لَهُ دَعْوَتُهُ، وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَهَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلَهَا]، قالوا: يا رسول الله، إذاً نُكثر، قال: [اللَّهُ أَكْثَرُ]، فعليك بحسن الظن بالله، وعليك أن تستمر في الدعاء وتُلح فيه. وفي الحديث الصحيح يقول عليه الصلاة والسلام: [لا يزَالُ يُسْتَجَابُ لِلعَبْدِ مَا لَم يدعُ بإِثمٍ، أَوْ قَطِيعةِ رَحِمٍ، مَا لَمْ يَسْتعْجِلْ] قِيلَ: يَا رسُولَ اللَّهِ مَا الاسْتِعْجَالُ؟ قَالَ: [يَقُولُ: قَدْ دعَوْتُ، وَقَدْ دَعَوْتُ فَلَم أَرَ يَسْتَجِيبُ لي، فَيَسْتَحْسِرُ عِنْد ذَلِكَ، ويَدَعُ الدُّعَاءَ]، فلا ينبغي لك أن تستحسر، ولا ينبغي لك أن تَدَعْ الدعاء، بل الزم الدعاء واستكثر منه وألح على ربك وتضرع إليه، وحاسب نفسك، واحذر أسباب المنع من المعاصي والسيئات، وتحر أوقات الإجابة كآخر الليل، وبين الأذان والإقامة، وفي آخر الصلاة قبل السلام، وفي السجود، كل هذه من أسباب الإجابة.

 

أحبتي .. الأصل أن يبتعد كلٌ منا عن الظُلم أياً كان كثيراً أو قليلاً، فلا يَظلِم؛ فإن عاقبة الظلم وخيمة؛ يقول تعالى: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ﴾، ويقول: ﴿فَيَوْمَئِذٍ لَّا يَنفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ﴾، ويحذرنا النبي صلى الله عليه وسلم من الظلم فيقول: [إيَّاكم والظُّلمَ فإنَّ الظُّلمَ ظُلُماتٌ يومَ القيامةِ].

فإذا كان أحدنا ظالماً فليبادر إلى التوبة، ويتوقف عن الظلم فوراً، ويرد المظالم إلى أهلها؛ يقول تعالى: ﴿فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [مَنْ كَانتْ عِنْدَه مَظْلمَةٌ لأَخِيهِ مِنْ عِرْضِهِ أَوْ مِنْ شَيْءٍ فَلْيتَحَلَّلْه ِمِنْه الْيَوْمَ قَبْلَ أَلَّا يكُونَ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ، إنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلَمتِهِ، وإنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سيِّئَاتِ صاحِبِهِ، فَحُمِلَ عَلَيْهِ]، وليتقِ الظالم (دعوة المظلوم). كما أن على كلٍ منا ألا يرضى الظلم لغيره، وألا يسكت على ظلمٍ يراه؛ يقول رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم آمراً كل مسلم: [انْصُرْ أخاكَ ظالِمًا أوْ مَظْلومًا]، فقال رجلٌ: يا رسولَ اللهِ، أنصرُه إذا كان مظلومًا، أفرأيتَ إذا كان ظالمًا كيف أنصرُه؟ قال: [تَحْجِزُه، أو تَمْنَعُه مِنَ الظُلْمِ فَإنَّ ذَلِكَ نَصْرُه]، من يعلم؟ قد تكون أنت بنصرك لمظلومٍ كما كانت السمكة لذلك الرجل الذي ذكرناه في قصتنا!

اللهم لا تجعلنا من الظالمين، وأعِّنا على التوقف عن كل ظلمٍ اقترفناه، ويسِّر لنا أن نمنع الظلم عن أنفسنا وعن غيرنا، وألا نقبل بأن ينتشر بيننا.

اللهم اهدِ الظالمين منا ليتوبوا توبةً نصوحاً ويردوا المظالم إلى أهلها ﴿فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾، وإن لم يتوبوا وظلوا سادرين في غِيهم فاستجب اللهم لدعوات المظلومين، وأرنا في الظالمين عجائب قدرتك.

https://bit.ly/3oZNPUp