الجمعة، 9 أغسطس 2024

لا تحقرن من المعروف شيئاً

 

خاطرة الجمعة /459

الجمعة 9 أغسطس 2024م

(لا تحقرن من المعروف شيئاً)

 

رجلٌ بسيطٌ يعمل في أحد مصانع تجميد الأسماك، يتمتع بالبشاشة والحُبور؛ مما يزيد من محبة الناس له دون حتى أن يكون قريباً منهم، توجه كعادته كل يومٍ إلى عمله، ولم يكن في حسبانه ما سيمر به؛ إذ قضى يوم عمله كالمعتاد إلى أن حل موعد الانصراف، إلا أنه قبل أن ينصرف توجه إلى ثلاجة التبريد لإنهاء بعض العمل، ونتيجةً لخطأٍ ما أُغلق باب ثلاجة التجميد عليه، وظل يصرخ ويُنادي لكنه لم يجد أية استجابةٍ؛ فقد غادر جميع العاملين والموظفين المصنع، فظل الرجل حبيس ثلاجة التبريد لعددٍ من الساعات، خارت فيها قواه وشارف على الموت، إلا أنه فجأةً تم فتح أبواب ثلاجة التبريد وتم إنقاذه بعد أن كان على وشك الموت، وكان المنقذ هو حارس المصنع!

سألوا هذا الحارس: "ما الذي جعلك تدخل إلى المصنع وتنقذ هذا الرجل؟ وكيف عرفتَ أنه مازال بالداخل؟"، فقال الحارس: "أنا أعمل في هذا المصنع منذ ما يزيد عن خمسةٍ وثلاثين عاماً، أقف على بوابة المصنع ولا يُلاحظني أحدٌ أو يُخاطبني أحدٌ من العاملين والموظفين وهُم يدخلون إلى المصنع ويخرجون منه، إلا هذا الرجل فهو كلما حضر في الصباح استقبلني بابتسامته ووجهه البشوش وسؤاله عن حالي، وكذلك عند خروجه يودعني بتلك البسمة على وعدٍ باللقاء، وفي ذلك اليوم انتظرته بين الوجوه الخارجة من المصنع إلا أنني لم أجده؛ فاعتقدتُ أنه تخلّف لأن لديه عملاً بالداخل، ظللتُ أنتظر خروجه إلا أنّ الأمر طال كثيراً فقررتُ الدخول إلى المصنع والبحث عنه.

 

أحبتي في الله.. العبرة من هذه القصة هي أن هذا المعروف البسيط الذي كان يُقدمه العامل للحارس كل يومٍ، ببساطةٍ وبنيةٍ مخلصةٍ وبغير غرضٍ، لم يذهب هباءً؛ فرغم أنه لم يُكلف صاحبه شيئاً، ورغم أنه يبدو بسيطاً إلا أنه كان سبباً في انقاذ هذا العامل من موتٍ مُحقق، وكأن هذا العامل كان يعلم بالحديث الشريف: (لا تحقرن من المعروف شيئاً).

 

وهذا مُعلمٌ بإحدى مدارس «جدة» يقول: كنتُ في غُرفة المُعلمين وقت الراحة؛ فصببتُ كأس شايٍ لأشربه، فإذا بالجرس يُقرع، ومُدير المدرسة شديدٌ جداًَ، يحب أن يتوجه المُعلمون فوراً إلى الصفوف عند قرع الجرس، وكان الشاي حاراً جداً لا أستطيع أن أشربه، ورأيتُ فراشاً فلبينياً ابتسمتُ في وجهه وأعطيته كأس الشاي. في اليوم التالي جاءني الفراش وقال لي أنه متفاجئٌ؛ فهذه أول مرةٍ يرى مُعلماً يبتسم في وجهه، بل ويُعطيه كأساً من الشاي! قال إنه لم يتعود على ذلك، ولم يكن يتوقعه، قلتُ وأنا مُحرَجٌ: "أردتُ أن أُكرمك؛ فنحن مُسلمون وهذا من أخلاقنا"، قال: "أعمل بهذه المُدرسة منذ عامين، لم يُكلمني أحدٌ منكم بكلمةٍ، ولم يُعيرني اهتماماً ولو بابتسامة"، ثم أخبرني بأنه يحمل شهادة الماجستير في العلوم، وأن شدة الفقر والحاجة جعلته يقبل بهذه الوظيفة، لم أُصدقه، وأردتُ أن أختبره فدعوته إلى البيت؛ إذ كانت ابنتي في الصف الحادي عشر لديها سؤالٌ في العلوم فأجاب عنه بطلاقةٍ ما بعدها طلاقة، تأكدتُ حينها من صحة كلامه. ظل يزورني كل جمعةٍ، وبعد فترةٍ أعلن إسلامه، ثم أقنع أكثر من عشرين من أصدقائه فاعتنقوا الإسلام، والسبب كان ابتسامةً مع كأس شاي!

 

وإنْ تعجب فعجبٌ هي هذه القصة؛ يقول أحدهم بأنه كان ذات مرةٍ، وهو صغير السن، يقف في المخبز لشراء خُبزٍ لأهله، يقول: "وجدتُ الرجال يتدافعون لأخذ الخُبز وكلما أخرج الخباز من الفرن خُبزاً تلقفته أيديهم، وأنا واقفٌ لا أستطيع مزاحمتهم، وبينما أنا كذلك إذ التفت إليّ رجلٌ لا أعرفه وأعطاني ما أريد؛ فذهبتُ دون أن أشكره؛ لصغر سني وجهلي بما يجب عليّ أن أفعله. نسيتُ ذلك الرجل وهيأته، ونسيتُ ذلك الموقف تماماً. بعد أكثر من خمسةٍ وعشرين عاماً، وبينما أنا ساجدٌ في صلاة التهجد في الثُلُث الأخير من الليل إذ بي أتذكر ذلك الموقف بتفاصيله، وكأنه يحدث أمام عينيّ أنظر إليه، فدعوتُ لذلك الرجل بما فتح الله عليّ. بعدما أنهيتُ صلاتي أخذتُ أتعجب كيف ذكرَّني الله بذلك الرجل بعد كل هذه السنين، وفي هذا الوقت المُبارك الذي يستجيب فيه الله سُبحانه وتعالى للدعاء؟! قلتُ في نفسي سُبحان الله؛ عملٌ قام به ذلك الرجل لم يُكلفه مالاً ولا جُهداً، يُذكِّرك الله به بعد كل هذه السنين وأنت ساجدٌ لتدعو له، وقد تكون دعوتك مُستجابةً ينتظرها ذلك الرجل!".

 

يقول الله سُبحانه وتعالى داعياً إلى عمل الخير: ﴿وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا﴾، ويُخبر سُبحانه أن عمل الخير مهما كان صغيراً فإن المُسلم يُثاب عليه: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ﴾، ويقول حاثاً على فعل الخير ولو كان قليلاً: ﴿وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾، ويُبين عزَّ وجلَّ أنّ فعل الخير سببٌ للفلاح: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾.

 

يقول النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [لَا تَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا، وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ]، [لَا تَحْقِرَنَّ]؛ أي: لا تستقلنَّ [مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا]، فتتركه لقلَّته؛ فقد يكون سبب الوصول إلى مرضاة الله تعالى. ويقول عليه الصلاة والسلام: [بيْنَما رَجُلٌ يَمْشِي بطَرِيقٍ وجَدَ غُصْنَ شَوْكٍ علَى الطَّرِيقِ فأخَّرَهُ، فَشَكَرَ اللَّهُ له فَغَفَرَ له]، وفي روايةٍ أخرى للحديث: [لقَدْ رَأَيْتُ رَجُلًا يَتَقَلَّبُ في الجَنَّةِ، في شَجَرَةٍ قَطَعَها مِن ظَهْرِ الطَّرِيقِ، كانَتْ تُؤْذِي النَّاسَ]. ويقول صلى الله عليه وسلم: [بينما كلبٌ يطيف برَكِيَّةٍ -أي: ببئرٍ- قد كاد يقتُلُه العطَش، إذ رأَتْه بغيٌّ من بَغايا بني إسرائيل، فنزَعَتْ مُوقَها -أي: خُفها- فاستَقَتْ له به، فسقَتْه إيَّاه، فغُفِر لها به]، وفي روايةٍ أخرى للحديث: [أَنَّ رَجُلًا رَأَى كَلْبًا يَأْكُلُ الثَّرَى مِنَ الْعَطَشِ، فَأَخَذَ الرَّجُلُ خُفَّهُ، فَجَعَلَ يَغْرِفُ لَهُ بِهِ، حَتَّى أَرْوَاهُ، فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ، فَأَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ].

 

يقول أهل العلم إنّ جنَّة الرحمن ليسَتْ مقصورةً وخاصَّةً لِمَن باعُوا أرواحَهم، وبذَلُوا أموالهم في سبيل الله، مغفرةُ الرحمن ليسَتْ وقفاً للعِباد النُسَّاك، والصُوَّام والقُوَّام، بل رحمة الله وجنَّته تُدرَك بأعمالٍ يسيرةٍ، صغيرةٍ في أعيُنِ كثيرٍ من الناس، كبيرةٍ عند الله سُبحانه وتعالى، وهي سببٌ لأن يتمتع أصحابها بالسعادة السرمديَّة، والمُتعة الأبديَّة، عملٌ قليلٌ في نظر الناس، قد لا يُكلّف من الجُهد أو الوقت شيئاً، لكنّ الله تعالى بواسع رحمته وعظيم كرمه جعل فعله سبباً في مغفرة الذنوب ودخول الجنة.

 

قال الشاعر:

الناسُ للناسِ مادام الوفاءُ بهم

‏والعسرُ واليسرُ أوقاتٌ وساعاتُ

وأفضَلُ النَّاسِ ما بين الوَرَىٰ رَجلٌ

‏تُقضَىٰ علىٰ يَدهِ للناسِ حاجاتُ

لا تمنَعنَّ يدَ المَعْروفِ عَن أحَدٍ

‏ما دُمْتَ مُقتَدِراً فالسَعْدُ تاراتُ

واشكر فضائِلَ صنعِ الله إذ جُعِلتْ

‏إليكَ لَا لكَ عند النَّاسِ حاجاتُ

قَد ماتَ قومٌ ومَا ماتَت فَضائِلهم

‏وعاشَ قومٌ وَهُمْ في النَّاسِ أمواتُ

 

أحبتي.. استَكثِروا من فِعْل الخيرات، ولا تستَصغِروا شيئاً من صالح العمل و(لا تحقرن من المعروف شيئاً). كل معروفٍ يُمكنك فعله افعله، مهما كان صغيراً. وجدتَ قطعة زجاجٍ بالطريق من المحتمل أنها ستؤذي الناس أَمِطْها عن الطريق تُجزَى خيراً. وجدتَ شخصاً كبيراً في السن يحتاج أحداً أن يوصله أوصله؛ ربما يكون ذلك سبباً في نجاتك يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون إلا من أتى الله بقلبٍ سليم. وجدتَ شخصاً مكروباً في أمسّ الحاجة لمن يُفرِّج عنه كربه، فرِّج عنه؛ ربما تكون هي المُنجية. وجدتَ إنساناً لا يُريد منك إلا ابتسامةً، ابتسم تُكتب لك صدقة. وجدتَ شخصاً يُريدك أن تشفع له عند أحدهم، اشفع له ولا تتردد. وجدتَ فقيراً أو مسكيناً في حاجةٍ إلى مالٍ أو طعامٍ أو كساءٍ أو دواءٍ سارِع إلى تقديم ما يُمكنك من مساعدةٍ وإعانةٍ. باختصار؛ افعل كل معروفٍ ولو صَغُرَ في عينيك فإنك لا تعلم بأي معروفٍ يُغفر لك، وبأي عمل خيرٍ تنال رحمة الله فتدخل الجنة.

اللهم استعملنا في الخير، وأرشدنا إليه، ويسِّره لنا، ونقِّه من الرياء والنفاق والسُمعة، واجعله خالصاً لوجهك الكريم، وتقبله منا؛ إنك سُبحانك على كل شيءٍ قدير.

https://bit.ly/46HDMcV