الجمعة، 14 فبراير 2020

بالشكر تدوم النعم/2


الجمعة 14 فبراير 2020م

خاطرة الجمعة /٢٢٦
(بالشكر تدوم النعم)

قصةٌ واقعيةٌ رواها صاحبها فقال: في شهر مارس الماضي كنتُ خارجاً من المسجد بعد صلاة العصر، وطئتُ بقدمي طوبةً صغيرةً فاختل توازن جسمي؛ فسقطتُ فانكسرت قدمي؛ ذهبتُ إلى المستشفى، وبعد عمل الأشعة تم تشخيص الحالة على أنها كسرٌ في قاعدة المشطية الخامسة بالقدم. تم تجبيس القدم والساق حتى الركبة، وأخبرني الطبيب أن الجبس سيستمر ما بين شهرٍ ونصف إلى شهرين! ما هذا الذي تقول؟ مستحيل، إنها مجرد طوبةٍ صغيرةٍ جاءت قدمي فوقها، فلم تصدمني سيارةٌ ولم أسقط من مكانٍ مرتفع!
مساء نفس اليوم، وبعد العودة إلى البيت بدأت تتكشف لي حقائق وتتتابع دروسٌ وعبرٌ ما كنت ألحظها ولا أُلقي لها بالاً؛ بدأتُ أكتشف أهمية قدمي للمرة الأولى في حياتي! وأكتشف عظيم ما تقدمه لي من خدماتٍ، وما تقوم به من أدوار لم أشعر بها قبل اليوم! صار دخول الحمام مهمةً تحتاج إلى تخطيطٍ وتنسيقٍ وترتيبٍ وتركيزٍ شديدٍ جداً، الوضوء والصلاة وقضاء الحاجة صارت مهام تحتاج إلى ترتيباتٍ خياليةٍ وصعوباتٍ بالغة!
فجر اليوم الأول بعد الحادث ذهبتُ إلى الحمام وبعدما توضأتُ سقطتُ سقطةً في الحمام، لا أعرف إلى الآن كيف نجوتُ منها، لكن الله سَلَّم.
صرتُ لا أستطيع المكوث بمفردي في البيت؛ فلابد من وجود مَن يقوم على خدمتي ورعايتي، ولم يعد بإمكان أفراد الأسرة اتخاذ قرارات خروجهم من البيت بمعزلٍ عن هذا التغيير الذي حدث. صار الحمام بعيداً جداً وشاقاً، وصار المطبخ في قارةٍ أخرى! لأول مرةٍ أستوعب مشاعر مَن أقعده المرض ومشاعر كبار السن، وأتخيل من يعيش وحده وتتوقف حياته حتى يأتي مَن يخدمه ويساعده ويرعاه! لم أكن أتخيل أبداً أهمية وخطورة قدمي إلى هذا الحد، فمجرد أن تعطلت قدمي تعطلت حياتي كلها وتبدلت تماماً!
في أحد الأيام كنتُ وحدي في البيت لوقتٍ قصيرٍ، فذهبتُ على مشّاية كبار السن على قدمٍ واحدةٍ إلى المطبخ، وصنعتُ لنفسي كوباً من الشاي ثم اكتشفتُ مفاجأةً لم تخطر ببالي: كيف سأعود بكوب الشاي لكي أشربه أمام التلفاز؟! لقد اكتشفتُ أن العودة سيراً على قدميّ بكوب الشاي في يدي نعمةٌ عظيمةٌ لم أنتبه إليها قط!
طوبةٌ صغيرةٌ تحت قدمي بدلت برنامج حياتي كله .. يا سبحان الله .. خرجتُ من بيتي في الصباح ماشياً، وعدتُ في المساء محمولاً على أكتاف أصحابي.
في مطلع شهر إبريل شعرتُ بألمٍ رهيبٍ في سمانة ساقي التي بها الكسر، فأسرعتُ في منتصف الليل إلى المستشفى، وبعد فك الجبس وإجراء الفحص بالموجات الصوتية تم تشخيص الحالة بأنها جلطةٌ في الأوردة العميقة، وهي تحصل في حالات الجبس أحياناً نتيجة عدم الحركة. كان يتم حقني بحقنةٍ في البطن، لم يمر عليّ في حياتي شيءٌ بهذا الرعب، كنتُ أفكر في الحقنة التالية، والحقنة الحالية لم تخرج من جلدي بعد!
تم حجزي بالمستشفى؛ فنتيجةً لنوبة سعالٍ أصابتني حصل شكٌ في أن الجلطة وصلت للرئة، فتم نقلي إلى العناية المركزة فوراً، وبدا أن طوبةً تحت قدمي أمام المسجد قد تحولت إلى كابوسٍ مرعب. تم عمل أشعةٍ بالصبغة على الصدر على أن نعرف نتائجها في صباح اليوم التالي، في الصباح كانت حياتي كلها متوقفةً على كلمة الطبيب الذي راجع الأشعة، دخل عليّ حاملاً الأشعة، وأنا في انتظار كلمةٍ فارقة! "الأشعة سليمةٌ والحمد لله" قالها الطبيب بكل بساطةٍ؛ فانتهت في عقلي سيناريوهاتُ مرعبةٌ محزنةٌ مؤلمة!
كانت المعضلة هي أن القدم ما زالت مكسورةً، لكن الجبس ممنوعٌ بسبب جلطة الساق، وأن علاج الجلطة مقدمٌ على علاج الكسر، مما يعني أن العودة للمشي عليها سيحتاج لوقتٍ أطول من الطبيعي. تورمت قدمي وتغير لونها بسبب عدم وجود الجبس، وبسبب الاعتماد على قدمٍ واحدةٍ أصبح هناك ألمٌ رهيبٌ في مفصل الحوض في القدم السليمة، وفي ركبة الساق السليمة، أصبحتْ يدي تؤلمني من ثقل الاعتماد عليها وزاد وزني! وبسبب عدم الحركة لمدة شهرٍ اختفت عضلة سمانة القدم المكسورة تقريباً.
مرَّ عليّ أكثر من شهر لم تمس جبهتي الأرض! فأنا أتوضأ وأُصلي في الفراش مستلقياً، لأني ممنوعٌ حتى من الجلوس العادي، أكاد أُجن من شوقي لصلاةٍ أسجد فيها لله على الأرض، وأقف وأركع وأجلس كما كنت من قبل بشكل طبيعيٍ وعادي! المرض الشديد الذي أقعدني عن الحركة عرفني معنى الآية الكريمة: ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ﴾.

أحبتي في الله .. نعمةٌ واحدةٌ من نعم المولى عزَّ وجلَّ التي لا تُعد ولا تُحصى، أقعدت هذا الشخص لشهور طويلةٍ، لم يشعر بقيمتها إلا عندما فقدها، رغم أن فقدها كان مؤقتاً لكنه كان مؤثراً، فإذا علمنا أن (بالشكر تدوم النعم) فهل يا تُرى نقوم بشكر الله سبحانه وتعالى على نعمه العظيمة كما ينبغي أن يكون الشكر؟
يقول أهل العلم إن الله أمر بالشكر ونهى عن ضده، وأثنى على أهله، ووصف به خواص خلقه، وجعله غاية خلقه وأمره، ووعد أهله بأحسن جزائه، وجعله سبباً للمزيد من فضله، وحارساً وحافظاً لنعمته، وأخبر أن أهله هم المنتفعون بآياته. والشكر من العبادات العظيمة التي ينعم الناس بثمرتها في العاجل والآجل: شكر الله تعالى على ما أولى من نعم، و"الشكر نصف الدين" كما قال جماعةٌ من السلف، وكما قيل (بالشكر تدوم النعم). وقد امتلأ كتاب ربنا بكثيرٍ من الآيات عن الشكر والشاكرين؛ من ذلك: يقول الله تعالى: ﴿وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾، ويقول سبحانه: ﴿وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ﴾، ويقول كذلك: ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾، ويقول أيضاً: ﴿وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾، كما يقول: ﴿وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ﴾، ويقول تبارك وتعالى: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ﴾، ويقول عزَّ وجلَّ: ﴿وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ﴾.

وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقوم الليل حتى تتورم قدماه؛ فقيل له: تفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال: [أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا؟]. وقال لمعاذ: [أوصيكَ يا معاذُ لا تدَعنَّ في دُبُرَ كلِّ صلاةٍ تقولُ: اللَّهمَّ أعنِّي على ذِكْرِكَ، وشُكْرِكَ، وحُسنِ عبادتِكَ]، وكان مما يدعو صلى الله عليه وسلم: [رَبِّ اجْعَلْنِي لَكَ شَكَّارًا لَكَ ذَكَّارًا].

وعن قوله تعالى: ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ﴾، يقول المفسرون: ﴿نِعْمَتَ اللَّهِ﴾، أَيْ: نِعَمَ اللَّهِ، ﴿لَا تُحْصُوها﴾، أَيْ: لَا تُطِيقُوا عَدَّهَا وَلَا الْقِيَامَ بِشُكْرِهَا، ﴿إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ﴾، أَيْ: ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ بالمعصية كافرٌ بربه فِي نِعْمَتِهِ. وَقِيلَ الظَّلُومُ الَّذِي يَشْكُرُ غَيْرَ مَنْ أَنْعَمَ عَلَيْهِ، والكَفَّارٌ من يجحد منعمه.
جاء في الأثر أن داود عليه السلام قال: "ربِ، كيف أشكرك وشكري لك نعمةٌ منك علي؟"، فقال الله تعالى: {الآن شكرتني يا داود}، أي: إنك شكرتني حين اعترفتَ بالتقصير عن أداء شكر النعم.

وعن الشكر قال أحد العلماء: هو ظهور أثر نعمة الله على لسان عبده ثناءً واعترافاً، وعلى قلبه شهوداً ومحبةً، وعلى جوارحه انقياداً وطاعةً. والشكر مبنيٌ على خمس قواعد: خضوع الشاكر للمشكور، وحبه له، واعترافه بنعمته، وثناؤه عليه بها، وألا يستعملها فيما يكره.

يقول الشاعر:
إذا كانَ شكري نِعمةَ اللهِ نِعمةً
عليّ له في مثلِها يجبُ الشكرُ
فكيفَ بلوغُ الشكرِ إلا بفضلِه
وإنْ طالتْ الأيامُ واتصلَ العمرُ
إذا عَمَّ بالسراءِ عَمَّ سُرورُها
وإنْ خَصَّ بالضَراءِ أعقبَها الأجْرُ

ويقول آخر:
آلاءُ ربي لا يُحصيها عَددُ
وإنْ يجعلوا البحرَ في عَدِّها مَددُ
البحرُ ينفدُ والآلاءُ لا تُحصى
فسبحانُه ربٌ واحدٌ أحدُ
فمن مسَّتهُ نعماءُ يحمدُه
فشرُ الناسِ قد نَعِموا وما حَمدوا
والنِّعمُ في كلِ العبادِ تفاوتت
ليَمِيزَ ربّي مَنْ شَكروا ومَنْ حَسدوا

أحبتي .. عندما يعيش كلٌ منا حياةً عاديةً فليحمد الله سبحانه وتعالى عليها، فلا تمر لحظةٌ واحدةٌ ننسى فيها نعم الله علينا، أو ننسى فيها شكر الله على نعمه، أو ننسى أن (بالشكر تدوم النعم).
ربنا أوزعنا أن نشكر نعمتك التي أنعمت علينا، وعلى والدينا، وأن نعمل صالحاً ترضاه، وأصلح لنا في ذرياتنا، إنا تبنا إليك، وإنا من المسلمين.
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحُسن عبادتك.

http://bit.ly/31TMSly