الجمعة، 8 أكتوبر 2021

الإبداع في عمل الخير

 

خاطرة الجمعة /312


الجمعة 8 أكتوبر 2021م

(الإبداع في عمل الخير)

 

وقف رجلٌ بسيارته في مكانٍ يتجمع فيه عمال اليومية، نزل من سيارته، وقال للعمال المتواجدين: "مَن يريد أن يعمل مقابل عشرين جنيهاً في اليوم فليركب معي السيارة"، اعترض معظم العمال على هذا المبلغ القليل؛ وقالوا له بغضبٍ: "أنت تستغل فقرنا وقلة فرص العمل"، وأخبروه أن أقل أجرٍ يوميٍ لأي عاملٍ لا يقل عن مائة جنيه، رفض الرجل وقال: "أنتم أحرارٌ، لن أدفع أكثر من عشرين جنيهاً". انصرف عنه العمال من الشباب والرجال الأشداء، وركب معه السيارة خمسة عمالٍ من كبار السن، يغلب على مظهرهم الفقر وشدة البؤس، انطلق بهم بسيارته. توقف الرجل عند متجرٍ كبير، ونزل من السيارة، واشترى لكل واحدٍ من العمال الخمسة: كيس دقيق 10 كيلو، وكيس سكر 5 كيلو، وكيس أرز 5 كيلو، وزجاجة زيت طعام 3 لتر، وأعطى كل واحدٍ منهم مبلغ مائة جنيهٍ، وقال لهم: "انتهى عملكم معي، وتستطيعون الآن العودة إلى بيوتكم". ثم انطلق بسيارته مسرعاً وسط دهشة العمال البائسين، الذين لم يُتِح لهم الرجل فرصة أن يشكروه!

 

أحبتي في الله .. كان غرض الرجل أن تصل صدقته لمن يستحقها بالفعل، إلى أكثر الناس احتياجاً، ممن لا يتسولون أو يسألون الناس إلحافاً، وإنما خرجوا متوكلين على الله، يعرضون جهدهم للإيجار اليومي لمن يحتاجه. لم يتواكلوا، بل بذلوا ما استطاعوا من جهدٍ بإخلاصٍ من غير ادعاءٍ ولا تَصَنُّع. هُم من المعدمين الذين خرجوا للعمل من أجل كسب أجرٍ حلالٍ حتى ولو كان أقل من القليل، مقابل أعمالٍ بدنيةٍ شاقةٍ لا يعلمون مُسبقاً إن كان مُقدَّراً لهم العمل أم لا، وإذا قُدِّر كيف وأين سيكون؟ ولمن سوف يعملون؟

كان ذلك موقفاً من مواقف (الإبداع في عمل الخير)؛ إذ فكر الرجل بذكاءٍ، وخطط للموقف بعنايةٍ، ونفذه بدقة.

وهناك مواقف أخرى تُبين أن (الإبداع في عمل الخير) قد يأتي بشكلٍ عفويٍ، بغير تخطيطٍ مسبقٍ ربما هو نتاج تفكير اللحظة أو هو فتحٌ من الله سبحانه وتعالى وإلهامٌ منه بحُسن التصرف؛ ومن ذلك ما حدث مع هذا الشاب الذي كتب يقول:

ذات يومٍ كنتُ في أحد المتاجر الاستهلاكية بمدينة «مكة»، وبعد أن انتهيتُ من انتقاء أغراضي ووضعتها في السلة ذهبتُ إلى المحاسب كي أسدد ثمنها، وقفتُ في الصف، وكان يقف أمامي شابٌ، تقف أمامه سيدةٌ معها بنتان صغيرتان، عندما وصلت السيدة في دورها إلى المحاسب أدخل بيانات مشترياتها إلى الحاسوب ثم قال لها: "حسابك 145ريالاً"؛ فمدت يدها في حقيبتها تبحث عن نقود، جمعت مائة ريالٍ عشرات، وأعطت البنتان لأمهما بعض ريالاتٍ أخرى إلى أن وصل المبلغ إلى 125ريالاً، حينها ظهر الارتباك على الأم؛ حاولت إرجاع بعض الأغراض حتى تُقلل الحساب. قالت لها إحدى بناتها: "أمي، هذه لا نحتاجها" وقالت الأخرى: "وهذه ليست مهمة"! فجأةً، رأيتُ الشاب الذي يقف خلفهم يرمي بورقةٍ من فئة 50 ريالاً تحت قدمي السيدة، ثم خاطبها بمنتهى الهدوء والأدب قائلاً: "يا أمي، انتبهي هذه النقود وقعت من حقيبتك"، وانحنى وأخذ الخمسين ريالاً من الأرض وأعطاها لها، شكرته السيدة وأخذت المبلغ وأكملت الحساب وانصرفت، لكنها وقفت للحظةٍ - وهي تهم بالخروج من باب المتجر- ونظرت إلى الشاب نظرةً تحمل كل معاني الشكر، عندما أحس الشاب بذلك أدار وجهه بسرعةٍ، كأنما لا يريد أن يتلقى منها مقابل عمله ولو كان نظرة شكر!

تركتُ دوري في الصف وتنحيتُ جانباً حتى أنهى الشاب حسابه وهَمّ بالمغادرة فلحقته مُسرعاً وقلت له: "انتظر يا أخي، أريد أن أتحدث معك"، وأخبرته أني شاهدتُ ما قام به منذ قليلٍ مع تلك السيدة، وأني معجبٌ بحُسن تصرفه وسرعة بديهته، وسألته: "بالله عليك، كيف واتتك الفكرة بهذه السرعة ونفذتها بهذا الاتقان؟"، في البداية حاول الإنكار، ولكن بعد أن أخبرته بأني لستُ من سكان «مكة» وأني أعتمر وسوف أرجع إلى مدينتي والأغلب أني لن أراه مرةً أخرى، اطمأن وقال لي: "واللهِ يا أخي إني كنتُ متحيراً على مدى الدقائق التي كانوا يجمعون فيها ما معهم من نقودٍ لدفع الحساب، لكن ربك سبحانه وتعالى ألهمني هذا التصرف حتى لا أُحرِج الأم أمام ابنتيها، لم تكن حيلةً مني ولا حُسن تصرف ولا سرعة بديهة، وبالله عليك لا تفتني واتركني أذهب"، قلتُ له: "يا أخي أرجو الله أن تكون ممن قال عنهم: ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى . وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى . فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى﴾"؛ فدمعت عيناه واستأذن ومشى إلى سيارته مُسرعاً.

 

كثيرٌ من الناس يقومون بعمل الخير، لكن قليلاً منهم من يُبدع في ذلك. يقول أهل الاختصاص عن الإبداع إنه "أن ترى ما لا يراه الآخرون"، أو "أن ترى المألوف بطريقةٍ غير مألوفة"، أو "هو تنظيم الأفكار وظهورها في بناءٍ جديدٍ انطلاقاً من عناصر موجودة بالفعل"، أو "هو القدرة على حل المشكلات بأساليب جديدةٍ غير مسبوقة".

إن (الإبداع في عمل الخير) ليست له صورةٌ واحدةٌ، وإلا ما كان إبداعاً، بل إن كانت هناك فكرةٌ تم تنفيذها بالفعل في هذا المجال فهي إبداعٌ عند تنفيذها لأول مرةٍ فقط، تتحول بعد ذلك عند تكرار تنفيذها إلى فكرةٍ طيبةٍ ومفيدةٍ لكنها تفقد صفة الإبداع.

(الإبداع في عمل الخير) إذن عمليةٌ مستمرةٌ متجددةٌ، وهي بهذا المعنى فرصةٌ للتنافس بين المسلمين توصلهم بإذن الله وبرحمته إلى جنات النعيم؛ يقول المولى عزَّ وجلّ: ﴿وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ﴾.

إن من أهم صفات المبدعين في عمل الخير المسارعة إليه؛ ففيها اقتناص فرصةٍ قد لا تتكرر، فضلاً عن أن المسارعة في الخيرات من صفات الصالحين؛ يقول تعالى: ﴿وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾، وهي من صفات المؤمنين الذين يخشون ربهم؛ يقول تعالى عنهم: ﴿أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ﴾، كما أنها من أسباب استجابة الدعاء؛ يقول تعالى: ﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ﴾.

ومن صور (الإبداع في عمل الخير) الاهتمام بالصدقات الجارية أكثر من الصدقات العارضة، وفي كلٍ خير، لكن الصدقات الجارية تضمن استمرارية عمل الخير دون توقف، حتى أنه يستمر عقوداً وأحقاباً، وكثيراً ما يمتد إلى ما بعد وفاة المؤسسين فيكون ثواباً مستمراً لهم. ومن ذلك أيضاً الاتجاه من عمل الخير الفردي إلى عمل الخير المؤسسي الذي يكفل وصول الإعانات والمساعدات لمستحقيها الحقيقيين الذين ﴿يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا﴾.

 

أحبتي .. أدعو الله أن يجعلنا ممن قال عنهم: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ﴾، وأسأل الله أن يجعلنا ممن يُنفقون في سبيله وابتغاء مرضاته، وممن يبذلون الجهد في (الإبداع في عمل الخير) كي يصل عملهم إلى الفقراء والمساكين المحتاجين بالفعل، المتعففين، وليس إلى من يدَّعون الفقر، وهُم للأسف كُثُر.

هدانا الله وأرشدنا إلى طريق الخير، وألهمنا سرعة البديهة وحُسن التصرف، ونزع من نفوسنا الشُح والبُخل والتقتير، وخلَّص صدقاتنا من المن والأذى، وتقبلها منا، وأبعدنا عن النفاق والمراءاة والعُجب بالنفس.

 

https://bit.ly/3iFpUrR