الجمعة، 10 يوليو 2020

الديان لا يموت

الجمعة 10 يوليو 2020م


خاطرة الجمعة /٢٤٧

(الديان لا يموت)

 

كتبت تقول: أنا لا أكتب مشكلةً خاصةً بي أو حتى بشخصٍ قريبٍ لي، وإنما هذه قصةٌ كنتُ شاهدةً عليها، بل ومشاركةً في بعض أحداثها بحكم عملي في محكمة الأسرة. منذ بداية عملي في المحكمة أُصِبتُ بدهشةٍ ليس لكثرة القضايا الغريبة عن طبيعة مجتمعنا فحسب، بل لأن هذه المشاكل وصلت لجميع المستويات؛ فلا فارق بين عاملٍ بسيطٍ وأستاذٍ جامعيٍ حين يعتدي أيٌ منهما على زوجته بالضرب. وبمرور الوقت بدأتُ أفهم بعض ألاعيب المحامين فأصبحتُ أقيّم المحامي من أول وهلةٍ فأعرف إن كان موكله على حق ٍأم هو المعتدي.

منذ أربع سنواتٍ أتى أستاذٌ جامعيٌ محترمٌ؛ على جبينه علامة الصلاة، ويحمل مسبحةً في يده، حضر مع محاميه ليرفع قضية طاعةٍ على زوجته، واستطاع أن يمثل عليّ وعلى زميلاتي في المكتب جيداً باستغفاره الدائم، وإظهار أنه مضطرٌ لعمل ذلك، وأن زوجته ضعيفة الشخصية أمام أهلها، وأنها تركت المنزل منذ ما يقرب من سنتين مصطحبةً ابنتهما، وقد حاول إصلاح الموقف عدة مراتٍ إلا أنها ترفض، ولم يجد حلاً إلا اللجوء للقضاء.

وعلى الرغم من خبرتي الكبيرة إلا أنني صدقته باستغفاره الدائم، ودموعه التي كان يمنع نزولها بجدارةٍ. استدعينا الزوجة فحضرت، وهو لم يحضر، وبمناقشتها اكتشفنا الحقيقة المُرّة، فالأستاذ الجامعي المحترم كان دائم الخلاف معها في فترة زواجهما التي لم تستمر أكثر من ستة أشهر، ثم قرر أن يتخلص منها فأخذها يوماً لزيارة والدها وتركها ليذهب لشراء دواءٍ من صيدليةٍ مجاورةٍ ولم يعد، حاولت الرجوع إلى شقتها، وجدت القفل قد تم تغييره، واكتشفت أن الأستاذ المحترم باع الشقة من أسبوعين سابقين، وبالتالي فقد طردها من الشقة دون حتى أن تأخذ ملابسها، مستغلاً طيبة والدها الذي لم يكتب قائمةً بالمنقولات، وقال له: "أنا ائتمنك على ما هو أغلى عندي من الذهب والمنقولات". ذهلتُ أنا وزميلاتي لما سمعناه؛ فلم يخطر ببالنا يوماً أن يتصرف أي إنسانٍ بهذا الشكل، وحينما سألناها عن السبب في تأخرها في رفع قضيةٍ، قالت إنها أصيبت بانهيارٍ نفسيٍ تامٍ، وأضافت جملةً -لعلها غير لائقةٍ ولكن لها عذرها- فقد قالت إنه قبل أن يذهب بها إلى بيت والدها عاشرها، وكأنه يأخذ كل ما يمكن أن يأخذه منها، ولحكمةٍ أراد الله سبحانه وتعالى أن تحمل منه في هذا اللقاء. استدعينا الزوج المحترم فلم يحضر ولا مرة، إلى أن انتهت مدة التسوية الودية، وسارت القضية في مسارها الطبيعي في المحكمة. بعد نحو عامٍ ونصف العام جاء الأستاذ المحترم -هو ومحاميه- ليثبت نشوز زوجته، وعلامات النصر على وجهه ووجه محاميه، وفهمتُ فوراً اللعبة الحقيرة التي أصبحت تتكرر كثيراً في المحكمة، فقد اشتروا محاميها. وبالفعل عندما أرسلنا إليها جاءت وهي مذهولةٌ فقد أقرت في الجلسة الودية معنا أنها على استعدادٍ تامٍ للعودة إلى زوجها إذا اتقى الله ورجع عما هو فيه. وحينما قرأتُ الحكم فهمتُ تماماً ما حدث؛ فقد قدم المحامي الاعتراض بعد المدة القانونية لذلك رُفض شكلاً، وبالتالي سقطت كل مستحقاتها كزوجةٍ، وبمجرد أن أثبت نشوزها أرسل لها ورقة الطلاق الغيابي.

بالرغم من مرور حالات طلاقٍ كثيرةٍ إلا أن هذه الحالة أثرت فيّ وفي زميلاتي كثيراً؛ فهي طبيبةٌ شابةٌ صغيرةٌ في السن تزوجت فقط لمدة ستة أشهر، وظلت معلقةً ما يقرب من أربع سنواتٍ، ثم خرجت بدون أن تحصل على أيٍ من مستحقاتها، بأسلوبٍ رخيص.

في الوقت نفسه، بعد أن طُلقت هذه الطبيبة المظلومة، حضرت إلى المكتب زوجةٌ شابةٌ أقل ما توصف به هو أنها غبيةٌ ووقحةٌ، جاءت لرفع قضية طلاقٍ على زوجها المهندس المحترم، وبمنتهى البجاحة عندما سألناها عن السبب قالت: "لماذا أعيش مع شخصٍ لا ينجب؟"، وحضر زوجها بصحبة محاميه وأمه، وقال إنه يريد أن يسوّي الموضوع ودياً، وبالرغم من اعتراض محاميه وأمه إلا أنه أعطاها كل شيءٍ من منقولاتٍ ومؤخر صداقٍ وحتى نفقة المتعة التي لا تستحقها، وحينما اعترضت إحدى زميلاتي وقالت له: "دعها تتعب قليلاً في المحكمة"، رد قائلاً: "لا أريد أن أحمل وزرها؟!"، وحصلت هذه الزوجة الوقحة على الطلاق على طبقٍ من ذهب.

ظللتُ مدةً أقارن بين ما حدث مع تلك الطبيبة المظلومة، وما حدث مع ذلك المهندس، وأقول: "سبحان الله". فكرتُ طويلاً واستخرتُ الله، ثم اتصلتُ به، فتعجب في البداية، وسألني: "ألم ينتهِ الأمر في المحكمة؟"، فأخبرته أني قد أحضرتُ له عروسةً، وتكلمتُ معه كأختٍ كبرى له، وقلتُ له إن هذه الزوجة قد ذاقت الظلم، ولها ابنةٌ دون أبٍ فلِمَ لا يتخذها ابنةً له؟ وفي خلال ثلاثة أشهرٍ كانا قد تزوجا، وحضرنا أنا وزميلاتي في المكتب عقد قرانهما، وأصبحنا على اتصالٍ دائمٍ بهما، ولا يذكر أحدٌ منهما الآخر إلا ويقول إن الله عوضه به خيراً.

بعد مدةٍ، أصيبت إحدى قريباتي بالمرض اللعين؛ فذهبتُ لزيارتها في المستشفى، فوجدتُها في حالة عصبيةٍ سيئةٍ، وتطالب بنقلها من غرفتها إلى أية غرفةٍ أخرى، بسبب صوت الصراخ الذي يصدر عن نزيل الغرفة المجاورة، وبالفعل سمعتُ صوته لفترةٍ قصيرةٍ فشعرتُ بالرغبة في مغادرة المكان، وحينما خرجتُ كان باب الغرفة مفتوحاً والأطباء وبعض الممرضات يحملون سيدةً مسنةً فقدت وعيها وحاولوا إفاقتها، ولمحتُ المريض الذي يصرخ يرقد على سريره وهو مقيدٌ، بعد أن أخذ كميةً كبيرةً من المسكنات، وشعرتُ أني أعرفه، ولكن لم أتذكر من هو؟ ساعدتُ الممرضات ونقلنا أمه إلى الاستراحة، وقامت إحدى الممرضات بإفاقتها، وما أن أفاقت حتى انهارت بالبكاء وظلت تردد: "يا رب يموت ويرتاح مما هو فيه". وتذكرتُ فإذا هو نفسه الأستاذ الجامعي الذي رضي أن يأكل حقوق زوجته وابنته، لم يكن عقابه بالمرض فحسب، بل علمتُ من الممرضات أن زوجته الجديدة استولت على ممتلكاته، وخلعته في بداية مرضه، وأن زملاءه وأهل الخير هم من ينفقون عليه!

والعجيب أن محامي هذا الأستاذ -والذي أُشتهر باتباع كل الأساليب غير القانونية- سقط من على سلم المحكمة؛ ليقضي بقية حياته عاجزاً لا يستطيع حتى أن يقضي حاجته!

لكن القصة لم تنتهِ بعد؛ فقد اتصلت بي تلك الطبيبة التي ظُلمت في الماضي لتخبرني بأنها حامل، خبرٌ لم أكن أتوقعه على الإطلاق؛ لأن الأطباء كانوا قد أكدوا سوء حالة زوجها، إلا أن الله أراد أن يجازيها خيراً عن صبرها، ويجازيه خيراً عن أمانته ومراعاته لحدود الله.

أحبتي في الله .. ورد في الأثر: [البِرُّ لا يَبْلَى، وَالِإثْمُ لَا يُنْسَى، وَالدَّيَّانُ لَا يَمُوتُ، فَكُن كَمَا شِئتَ، كَمَا تَدِينُ تُدَانُ]. يقول العلماء في شرح ذلك: "البِرّ لا يبلى" أيْ: لا ينقطع ثوابه ولا يضيع، بل هو باقٍ عند الله تعالى، والإحسان وفعل الخير لا يبلى ثناؤه وذكره في الدنيا والآخرة. "والذنب لا يُنسى" أي: لا بد أن يُجازى عليه ﴿لا يَضِلُّ رَبّي وَلا يَنسَى﴾، إلا أن يغفر الله. ومِن الناس مَن يغتر حين لا يرى تأثير الذنب فينساه، ولم يعلم أن الذنب ينقض -ولو بعد حينٍ- كما ينقض السهم. و(الديان لا يموت) فيه جواز إطلاق اسم الديان على الله سبحانه وتعالى. أما "اعمل ما شئت" ففيها تهديدٌ شديدٌ؛ حيث يأتي بعدها "كما تَدين تُدان" أي: كما تَفْعَلُ يُفْعَل بك وكما تُجَازِي تُجَازَى.

يقول الشاعر:

فاعلمْ يقينًا أنّ مُلككَ زائل

واعلم بأنَّ كما تَدِين تُدانُ

قال حكيم: "عباد الله الحذرَ الحذرَ! فواللهِ لقد ستر حتى كأنه غفر، ولقد أمهل كأنه أهمل".

والديان هو: القهار، والقاضي، والحاكم، والمجازي الذي لا يُضيع عملاً، بل يجزي بالخير والشر.

إن فعل الحسنات والإحسان إلى الغير يعود على صاحبه بالخيرات الحسان في الدنيا والآخرة، كما أنّه مِنْ أسبابِ دوام الثناء الجميل؛ يقول الشاعر:

قد ماتَ قومٌ وما ماتَتْ فَضائِلُهم

وعاشَ قومٌ وهُمْ في النّاسِ أمواتُ

 

يقول الله سبحانه وتعالى في الحديث القدسي: {يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُوا}. يرى أهل العلم أن الله جعل الظلم محرماً على نفسه تعالى وعلى عباده؛ حتى لا ينتشر الفسادُ وتعمُّ الشرور الأرض. وفي الحديث القدسي توعُّدٌ من الخالق عزَّ وجلَّ عندما قال مخاطِباً دعوة المظلوم {وعزتي وجلالي لأنصرنَّكِ لو بعد حين}، فنُصرة دعوة المظلوم قادمةٌ لا محالة، ليس بالضرورة أن يكون ذلك فورياً أو قريباً، ولكنها ستأتي، ويكون انتقام الله من الظالم بالإملاء وهو الإمهال؛ يقول تعالى: ﴿وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ﴾، أي أن الله يُمهلُ الظالم لعله يرجع عن ظلمه ويتوب عنه. ثم بالاستدراج؛ يقول تعالى: ﴿سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ﴾ وليس الاستدراج أن تضيق الدنيا على الظالم، ولكن قد يفتحُ الله للظالم أبواباً ويُعطيه من ملذَّات الدنيا وأكثر مما يستحقُّ وفوق ما يتصوَّر. ثم بالتزيين؛ يقول تعالى: ﴿وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ﴾، وفي هذه المرحلة يموت قلب الظالم ويرى كل قبيحٍ يفعله جميلاً، لا يعود لديه إحساسٌ بالذنب، وموتُ قلبه لا يجعل فيه حياةً ليلومه على أفعاله بعد ذلك. ثم بالأخذ؛ يقول تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ﴾ وفي هذه المرحلة تنزل عقوبة الله على الظالم، وكما هو واردٌ في هذه الآية الكريمة؛ تكون العقوبة أليمةً وشديدةً؛ حتى يعرف الظالم شرَّ ما اقترفت يداه.

 

أحبتي .. تدفعنا نفوسنا الأمارة بالسوء في بعض الأحيان إلى ظلم الغير، ويمضي الأمر فننساه، لكن المظلوم لا ينسى، ويدعو ربه للانتقام من الظالم، فيستجيب الله لدعائه من فوق سبع سمواتٍ؛ فينصره بالانتقام من الظالم، ويجبر خاطر المظلوم بإعادة حقه إليه، أو بتعويضه عنه، ومهما طال الزمن فإن المظلوم ينصره الله والظالم ينتقم منه العزيز الجبار؛ يقول تعالى: ﴿وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا﴾. وعندما ينتقم الله من الظالم فإن انتقامه ﴿أَلِيمٌ شَدِيدٌ﴾. فلنعتبر، وليسارع كلٌ منا إلى رد المظالم إلى أهلها، وطلب العفو والسماح منهم فإن (الديان لا يموت). ولنبادر إلى توبةٍ نصوحٍ نوقف فيها كل ظلمٍ نكون قد بدأناه أو فكرنا في الشروع فيه، حينئذٍ نكون قد أنقذنا أنفسنا من عذابٍ مهينٍ أليمٍ شديدٍ في الدنيا والآخرة، بل ونفوز بما لم نكن نحلم به؛ حين يبدل الله سيئاتنا حسناتٍ؛ يقول تعالى: ﴿إِلّا مَن تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحًا فَأُولئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِم حَسَناتٍ وَكانَ اللَّهُ غَفورًا رَحيمًا﴾.

اللهم رُدَّنا عن طريق الظلم، وباعد بيننا وبينه، وباعد بيننا وبين الظالمين، وكُن اللهم مرشدنا وموجهنا إلى طريق العدل والإنصاف.

 

https://tinyurl.com/yamu4sek