الجمعة، 30 ديسمبر 2022

اليأس من رحمة الله

 

خاطرة الجمعة /376


الجمعة 30 ديسمبر 2022م

(اليأس من رحمة الله)

 

هذه قصةٌ مُختصرةٌ لتوبة شابٍ ملحدٍ، يقول كاتبها: عشتُ في ظلال سورة النمل مع قصة سبأ وملكتهم عابدة الشمس من دون الله هي وقومها. ورغم عُمر ملكتهم الطويل في الكُفر إلا أن آيات قصتها انتهت بقوله تعالى: ﴿قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾، هزتني خاتمة القصة؛ فرغم كُفر المرأة طوال عمرها، وإعانتها قومها على الكُفر إلا أن الله تعالى اكتفى منها بالاعتذار، وإبداء الندم على ما فات: ﴿ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ﴾. اختصارٌ بديعٌ من ربٍ رحيمٍ، ليُسر الهداية، وحُبه سُبحانه للتوبة وأصحابها، بدليل قبوله سُبحانه الاعتذار اليسير رغم الذنب الكبير، كأن الرسالة التي تكمن خلف هذه القصة: "حتى وإن كنتَ بكُفر ملكة سبأ يكفينا منك الاعتراف والاعتذار مع الإسلام!!". أبكتني والله الخاتمة؛ فربٌّ يقبل الاعتذار مع عظيم الجُرم وقبيحه، ما أكرمه!!

قلتُ ذلك لشابٍ ولغ في الإجرام حتى الإلحاد، وكان يعيش في بلاد الكُفر، أغرته الفواحش حتى انسلخ من الدين بُغية التحلل من قيود الحلال والحرام، ولما آنستُ من نفسه لحظة سكون بعد طول اضطرابٍ، قال لي فيها مقولة العاصي السابق للنبي صلى الله عليه وسلم: "وغَدَراتي وفَجَراتي؟!"، قلتُ: "يغفرها الله إن تبتَ"، قال: "لو علمتَ قبيح ما صنعتُ؟!"، قلتُ: "لو لم يُرد بك خيراً ما أبقاك حتى هداك!!". ولا زلتُ من يومها أتذكر هزيز صدره وأزيزه وهو يحتضنني بعد هذه الكلمات.

 

أحبتي في الله.. يقول الكاتب: الشباب الوالغ الآن في المعاصي يحتاج إلى مد حبال الأمل في الله أكثر من ذي قبل، سيما وقد بدأت تخرج من أفواههم مقولةٌ ألقاها الشيطان على قلوبهم وألسنتهم، تُكَرِّس (اليأس من رحمة الله): "ما حصل قد حصل، ولن أنجو أبداً من النار!!" وما درى المساكين أن رحمة الله أوسع من ذنوبهم مهما بلغت؛ انظر إلى رحمته وهي تتدارك أنطوني جيرارد فلو صاحب الثلاثين مؤلفاً في الإلحاد، وفيلسوف بريطانيا الأول في فلسفة الأديان، والذي ألحد بسببه خلقٌ كثيرٌ، ثم إذا برحمة الله تُدركه حين تاب، وقد بلغ التسعين من عمره. وهذا قيسٌ بن عاصم التميمي، أول من وأد البنات في الجاهلية، حتى وصل عدد من وأدهن من بناته ثماني بناتٍ، غير أن الله مدّ في عُمره حتى قدم على النبي مُسلماً مُبايعاً رضوان الله عليه. والمواقف في ذلك أكثر من أن تُحصى. تفكرتُ في سبب هداية أمثال هؤلاء بعد طول المسافة مع الكُفر أو المعصية فوجدتُ أنها بُقعة النور أو الخير المرتكزة في القلب، والتي ربما تُغطيها تلال الحواجز، لكنها فور انكشافها تحدث الهدايات.

 

وهل من هدايةٍ وتوبةٍ من الله الحليم الرحيم الغفور التواب أكثر من هداية رجلٍ تَمَلَّكَه (اليأس من رحمة الله) بعد أن قتل مائة نفسٍ؟ قال نبي الله صلى الله عليه وسلم: [كانَ فِيمَن كانَ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ قَتَلَ تِسْعَةً وتِسْعِينَ نَفْسًا، فَسَأَلَ عن أعْلَمِ أهْلِ الأرْضِ فَدُلَّ علَى راهِبٍ، فأتاهُ فقالَ: إنَّه قَتَلَ تِسْعَةً وتِسْعِينَ نَفْسًا، فَهلْ له مِن تَوْبَةٍ؟ فقالَ: لا، فَقَتَلَهُ، فَكَمَّلَ به مِئَةً، ثُمَّ سَأَلَ عن أعْلَمِ أهْلِ الأرْضِ فَدُلَّ علَى رَجُلٍ عالِمٍ، فقالَ: إنَّه قَتَلَ مِئَةَ نَفْسٍ، فَهلْ له مِن تَوْبَةٍ؟ فقالَ: نَعَمْ، ومَن يَحُولُ بيْنَهُ وبيْنَ التَّوْبَةِ؟ انْطَلِقْ إلى أرْضِ كَذا وكَذا، فإنَّ بها أُناسًا يَعْبُدُونَ اللَّهَ فاعْبُدِ اللَّهَ معهُمْ، ولا تَرْجِعْ إلى أرْضِكَ، فإنَّها أرْضُ سَوْءٍ، فانْطَلَقَ حتَّى إذا نَصَفَ الطَّرِيقَ أتاهُ المَوْتُ، فاخْتَصَمَتْ فيه مَلائِكَةُ الرَّحْمَةِ ومَلائِكَةُ العَذابِ، فقالَتْ مَلائِكَةُ الرَّحْمَةِ: جاءَ تائِبًا مُقْبِلًا بقَلْبِهِ إلى اللهِ، وقالَتْ مَلائِكَةُ العَذابِ: إنَّه لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ، فأتاهُمْ مَلَكٌ في صُورَةِ آدَمِيٍّ، فَجَعَلُوهُ بيْنَهُمْ، فقالَ: قِيسُوا ما بيْنَ الأرْضَيْنِ، فَإِلَى أيَّتِهِما كانَ أدْنَى فَهو له، فَقاسُوهُ فَوَجَدُوهُ أدْنَى إلى الأرْضِ الَّتي أرادَ، فَقَبَضَتْهُ مَلائِكَةُ الرَّحْمَةِ].

 

وعن النهي عن اليأس والقنوط من رحمة الله يقول تعالى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾. ويقول سُبحانه: ﴿وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ﴾. ويقول على لسان نبيه يعقوب عليه السلام وهو يُخاطب أبناءه: ﴿وَلَا تَيْئَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾.

 

وهذا نبينا صلى الله عليه وسلم يُبين لنا كرم المولى سُبحانه وتعالى مع من يُكرر الذنب ويُكرر التوبة؛ فيَحْكِي عَنْ رَبّهِ عَزّ وَجَلّ، قَالَ: [أَذْنَبَ عَبْدٌ ذَنْباً. فَقَالَ: اللّهُمّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي. فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَىَ: أَذْنَبَ عَبْدِي ذَنْباً، فَعَلِمَ أَنّ لَهُ رَبّا يَغْفِرُ الذّنْبَ، وَيَأْخُذَ بِالذّنْبِ. ثُمّ عَادَ فَأَذْنَبَ. فَقَالَ: أَيْ رَبّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي. فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَىَ: عَبْدِي أَذْنَبَ ذَنْباً. فَعَلِمَ أَنّ لَهُ رَبّا يَغْفِرُ الذّنْبَ، وَيَأْخُذُ بِالذّنْبِ. ثُمّ عَادَ فَأَذْنَبَ فَقَالَ: أَيْ رَبّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي. فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَىَ أَذْنَبَ عَبْدِي ذَنْبَاً، فَعَلِمَ أَنّ لَهُ رَبّا يَغْفِرُ الذّنْبَ، وَيَأْخُذُ بِالذّنْبِ، اعْمَلْ مَا شِئْتَ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكَ]. ويوضح عليه الصلاة والسلام أن الله عزَّ وجلَّ يغفر الذنوب جميعاً إلا الشرك به؛ فيَحْكِي عَنْ رَبّهِ عَزّ وَجَل، قال: [قالَ اللَّهُ تبارَكَ وتعالى يا ابنَ آدمَ إنَّكَ ما دعوتَني ورجوتَني غفَرتُ لَكَ على ما كانَ فيكَ ولا أبالي، يا ابنَ آدمَ لو بلغت ذنوبُكَ عَنانَ السَّماءِ ثمَّ استغفرتَني غفرتُ لَكَ، ولا أبالي، يا ابنَ آدمَ إنَّكَ لو أتيتَني بقرابِ الأرضِ خطايا ثمَّ لقيتَني لا تشرِكُ بي شيئًا لأتيتُكَ بقرابِها مغفرةً]. ويُبين لنا النبي صلى الله عليه وسلم فرحة الله سُبحانه وتعالى بتوبة العاصي: [لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ، مِن أَحَدِكُمْ كانَ علَى رَاحِلَتِهِ بِأَرْضِ فلاةٍ، فَانْفَلَتَتْ منه وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فأيِسَ منها، فأتَى شَجَرَةً، فَاضْطَجَعَ في ظِلِّهَا، قدْ أَيِسَ مِن رَاحِلَتِهِ، فَبيْنَا هو كَذلكَ إِذَا هو بِهَا، قَائِمَةً عِنْدَهُ، فأخَذَ بِخِطَامِهَا، ثُمَّ قالَ مِن شِدَّةِ الفَرَحِ: اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ، أَخْطَأَ مِن شِدَّةِ الفَرَحِ]. وقال عليه الصلاة والسلام موضحاً أهمية الاستغفار: [وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ، وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ، فَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ، فَيَغْفِرُ لهمْ].

 

ويرى العلماء أن (اليأس من رحمة الله) كبيرةٌ من الكبائر، وأنه صفةٌ من صفات الكُفار، ولا يلزم من الاتصاف بصفةٍ من صفات الكفار أن يكون المرء كافراً بما في الكلمة من معنى، بل هو فاسقٌ، وإن أدى به الحال إلى إنكار سعة رحمة الله كان كافراً والعياذ بالله. ومع عِظم الذنب إلا أن الله تعالى قد فتح باب التوبة لمن رغب بالرجوع عن ذنبه، وأراد أن يتوب ويستغفر، ولا ينبغي له أن يستبعد عفو الله تعالى ومغفرته، وودَّ الشيطان لو ظفر بهذا من العاصي. يجب على العاصي -مهما بلغت ذنوبه- أن يندم وأن يؤرقه ذنبه، لكن لا ينبغي أن يجعل بينه وبين الله تعالى حائلاً يمنعه من التوبة والاستغفار؛ فإن الله تعالى لا يتعاظمه ذنبٌ أن يغفره، فرحمته وسعت كل شيءٍ؛ ومن أجل ذلك فالإنابة إلى الله تعالى مطلوبةٌ، وباب التوبة إليه من الذنوب جميعاً مفتوحٌ للعبد ما لم يُغرغِر {أي: ما لم تبلُغْ رُوحُه حُلْقومَه، وهو يُشرف على الموت}. فلا ينبغي للمُسلم مهما بلغت ذنوبه أن ييأس ويقنط ويسيء الظن بالله ويتخيل أن الله لن يغفر له؛ فالله -سُبحانه وتعالى- ﴿يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾، وما خلقنا ليعذبنا، بل إنه ﴿رَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ غفارٌ للذنوب، والمُسلم الواعي هو من يتخذ السقوط في المعصية بدايةَ علاقةٍ جديدةٍ، وقُرباً من الله قبل أن يتحكم فيه اليأس والقنوط من رحمة الله، فلا ييأس من رحمته ولا يقنط من روحه فإنه سُبحانه ﴿غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾، وهو سُبحانه بَرٌ بعباده لطيفٌ بهم. أما القنوط فهو من وسوسة الشيطان يُزين هذا المُنكر العظيم ويوهم العاصي أنه من أهل النار ولا بد، وليس الأمر كذلك إن شاء الله، بل الواجب على المؤمن فعله إن هو عصى الله أن يُجدد التوبة، ويُتبع ذلك بحسناتٍ كثيرةٍ حتى تُذهب أثر هذه المعاصي؛ فإن الله تعالى يقول: ﴿إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ﴾. ويقول صلى الله عليه وسلم: [وأتبِعِ السَّيِّئةَ الحسَنةَ تَمْحُهَا].

 

أحبتي.. يظن البعض أن لا توبة لمن يُكرر الذنب، وهذا من تزيين الشيطان؛ ليزيد من يأس وقنوط الإنسان، فيبدأ -كما يقول أحد العارفين- بالانسحاب من تأدية الفرائض، وبالتالي يتخاذل عن أعمال الخير، ظناً منه أنه لا توبة له، وأنَّه مطرودٌ من رحمة الله. والصحيح أن كل عاصٍ عليه المُسارعة إلى التوبة، والندم على ما فعل، والإكثار من الأعمال الصالحة، والحرص على أن يكون حاله بعد التوبة خيراً من حاله قبل ارتكاب المعاصي، والله تعالى يتوب على من تاب؛ فباب التوبة مفتوحٌ ما دامت الروح في الجسد، فإن عاد العاصي وفعل المعصية فليكرر التوبة، فلا يزال الله يغفر له ما دام يُذنب ويتوب، مهما تكرر ذلك منه.

أما الدُعاة والوعاظ والمربون فمُطالَبون بتوسم الخير، ومظنة وجود النية الصادقة المُخلصة لتوبةٍ نصوحٍ في نفوس العاصين، فيدعونهم برفقٍ ولينٍ وسعة صدرٍ، وهذا من الحكمة والموعظة الحسنة؛ امتثالاً لقوله تعالى: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾، وتأسياً بسُنة النبي صلى الله عليه وسلم إذ قال: [إِنَّما بُعِثْتُم مُيَسِّرينَ ولَمْ تُبْعَثوا مُعَسِّريْنَ].

اللهم اجعلنا من المهتدين، ومن الهادين المبشرين غير المنفرين، نستغفرك اللهم ونتوب إليك.

 

https://bit.ly/3GtjRD4

الجمعة، 23 ديسمبر 2022

الصلاة خيرٌ من النوم

 

خاطرة الجمعة /375


الجمعة 23 ديسمبر 2022م

(الصلاة خيرٌ من النوم)

 

ما ندمتُ في حياتي كلها قدر ندمي على أمرين: عدم حفظي للقرآن الكريم كاملاً في صغري، وعدم التزامي بأداء الصلوات الخمس المفروضة بالمسجد مع جماعة المُسلمين وخاصةً صلاة الفجر. ولأن صلاة الفجر بالذات في المسجد لها حلاوةٌ خاصةٌ وطعمٌ مُميزٌ عن غيرها من الصلوات؛ رأيتُ أن أُخصص هذه الخاطرة للحديث عنها.

أبدأ بهذه القصة العجيبة:

جلس الداعية أمام الشيخ يحكي له تجربته الدعوية، ومن حوله مجموعةٌ من جُنود الكتيبة الصينية المُشاركة في حرب الخليج عام 1991م. أطرق الشيخ برأسه إلى الأرض ليُصغي باهتمامٍ والداعية يُحدثه قائلاً: "لقد قَدِم هؤلاء للمشاركة في عمليات المساندة لتحرير الكويت من الاحتلال العراقي، كانوا مُتواجدين في شمال المملكة العربية السعودية، وكان لزاماً علينا -نحن الدُعاة إلى الله- أن ندعوهم إلى الإسلام، ونُخرجهم من ظُلمات الشرك والظلام، ومن عبادة بوذا وكونفوشيوس وغيرهما من الأصنام إلى عبادة الله الواحد الأحد لا شريك له، وقد وفقنا الله سُبحانه وتعالى في مُهمتنا؛ فأسلم عددٌ لا بأس به من هؤلاء، وصرنا نُعلمهم أركان الإسلام ونُدرِّسهم واجباته، وبدأوا في أداء الصلوات في أوقاتها بعيداً عن قادتهم وكُبرائهم. لكن المشكلة واجهتهم في صلاة الفجر؛ فعندما علم قادتهم بتجمعهم في خيمةٍ واحدةٍ ليتناوبوا السهر كي لا تفوتهم صلاة الفجر فرقوهم بين الخيام، فأخذ كلٌ منهم ساعته المُنبهة معه، لكنها صودرت منه، وكلما وجدوا طريقةً للاستيقاظ قُبيل الفجر لأداء الصلاة في وقتها حاربهم هؤلاء القادة وسدوا عليهم المنافذ والأبواب، وفجأةً توصلوا لطريقةٍ مُبتكرةٍ للاستيقاظ!"

وإذا بالشيخ ينظر باهتمامٍ أكبر إلى الداعية المُتحدث، وإلى الجُنود المُحيطين به الذين ينظرون إليه بإكبارٍ وإجلالٍ، وواصل الداعية كلامه قائلاً: "لقد قرر كل واحدٍ من هؤلاء شُرب كمياتٍ كبيرةٍ من الماء قُبيل النوم لكي يستيقظ للذهاب للخلاء ومن ثَمّ ينظر إلى ساعته ويعلم كم بقي من الزمن لصلاة الفجر، فإن قارب الوقت انتظر وصلى وإلا شرب كميةً أخرى من الماء. ومع تكرار التجربة مِراراً قدَّرَ هؤلاء الكميات المُناسبة التي تجعلهم يستيقظون في وقتٍ يكاد يقترب من وقت الفجر، وصار كلٌ منهم يؤدي صلاة الفجر في وقتها!". عندها نظر الداعية إلى وجه الشيخ فإذا عيناه تذرفان بالدمع.

 

أحبتي في الله.. هؤلاء جنودٌ صينيون حديثو عهدٍ بالإسلام، بلغ حبه في قلوبهم هذه الدرجة؛ لأنهم عرفوا ما كانوا عليه من جاهليةٍ وفسادٍ، ثم عندما شرح الله قلوبهم للإسلام ذاقوا طعم السعادة وحلاوة الإيمان وطُمأنينة القلب فتمسكوا به، فأين نحن من هؤلاء؟! إنهم يذكرونني بأهل الكهف الذين وصفهم الله عزَّ وجلَّ بقوله: ﴿إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى﴾.

 

يقول أهل العلم إن الله تعالى اختص صلاة الفجر بمكانةٍ عظيمةٍ من بين الصلوات، فجعل لها زيادةَ أجرٍ، وكبيرَ فضلٍ، وعظيمَ مثوبةٍ فاقت فيها بقية الصلوات؛ ذلك لمشقتها على النفوس؛ فهي تأتي في ظُلمة الليل، وفي وقت الراحة والنوم، فكان هجر الفراش، خصوصاً في ليالي برد الشتاء القارس، وترك النوم، خصوصاً مع التعب، والاستجابة لداعي الفلاح (الصلاة خيرٌ من النوم) ما يجعلها سببَ التمايز بين العباد، والامتحان الصعب الذي يُختبر به الإيمان، مَن نجح في هذا الامتحان حاز على الجوائز العظيمة في الدنيا والآخرة، والتي منها:

- النور التام يوم القيامة؛ قال صلى الله عليه وسلم: [بشِّرِ المشَّائينَ في الظُّلمِ إلى المساجدِ بالنُّورِ التَّامِّ يومَ القيامةِ].

- حِفظ الله له؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: [مَن صَلَّى الصُّبْحَ فَهو في ذِمَّةِ اللهِ] يعني في حفظه وحمايته وعهده.

- شهادة الملائكة له عند الله؛ قال صلى الله عليه وسلم: [يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلَائِكَةٌ باللَّيْلِ ومَلَائِكَةٌ بالنَّهَارِ، ويَجْتَمِعُونَ في صَلَاةِ الفَجْرِ وصَلَاةِ العَصْرِ، ثُمَّ يَعْرُجُ الَّذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ، فَيَسْأَلُهُمْ وهو أعْلَمُ بهِمْ: كيفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي؟ فيَقولونَ: تَرَكْنَاهُمْ وهُمْ يُصَلُّونَ، وأَتَيْنَاهُمْ وهُمْ يُصَلُّونَ].

- شهود قرآن الفجر المشهود؛ يقول تعالى: ﴿أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَىٰ غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ ۖ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا﴾، أي أن ما يُقرأ به من قرآنٍ في صلاة الفجر تشهده الملائكة.

- سبيلٌ لدخول الجنة؛ قال عليه الصلاة والسلام: [مَن صَلَّى البَرْدَيْنِ دَخَلَ الجَنَّةَ]، والبردان الصبح والعصر. وقال: [لَنْ يَلِجَ النَّارَ أَحَدٌ صَلَّى قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَقَبْلَ غُرُوبِهَا]. والمُراد بهذا صلاة الفجر وصلاة العصر.

- من أسباب النظر إلى وجه الله الكريم في الجنة؛ قال صلى الله عليه وسلم: [إنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كما تَرَوْنَ هذا القَمَرَ، لا تُضَامُّونَ في رُؤْيَتِهِ، فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أنْ لا تُغْلَبُوا علَى صَلَاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وقَبْلَ غُرُوبِهَا فَافْعَلُوا ثُمَّ قَرَأَ: ﴿وَسَبِّحْ بحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وقَبْلَ الغُرُوبِ﴾].

- حصول الثواب الكبير؛ ففي الحديث: [رَكْعتا الفجْرِ خيْرٌ مِنَ الدُّنيا ومَا فِيها]، قال بعض العلماء: هما سُنّة الفجر؛ فإذا كان هذا أجر السُنّة فكيف بأجر الفريضة وهي أحب إلى الله؟ كما في الحديث القدسي: {وما تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بشَيءٍ أحَبَّ إلَيَّ ممَّا افْتَرَضْتُ عليه}.

- أجر قيام الليل؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [مَن صَلَّى العِشَاءَ في جَمَاعَةٍ فَكَأنَّما قَامَ نِصْفَ اللَّيْلِ، وَمَن صَلَّى الصُّبْحَ في جَمَاعَةٍ فَكَأنَّما صَلَّى اللَّيْلَ كُلَّهُ].

- براءةٌ من النفاق؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: [إِنَّ أَثْقَلَ صَلَاةٍ عَلَى الْمُنَافِقِينَ صَلَاةُ الْعِشَاءِ وَصَلَاةُ الْفَجْرِ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِيهِمَا لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا].

- أداء صلاة الفجر في وقتها يزيد النشاط ويُريح النفس، ويُبعد عن الإنسان الضيق والاكتئاب والكسل؛ قال عليه الصلاة والسلام: [يَعْقِدُ الشَّيْطَانُ عَلَى قَافِيَةِ رَأْسِ أَحَدِكُمْ إِذَا هُوَ نَامَ ثَلاَثَ عُقَدٍ، يَضْرِبُ كُلَّ عُقْدَةٍ مَكَانَهَا: عَلَيْكَ لَيْلٌ طَوِيلٌ فَارْقُدْ، فَإِنِ اسْتَيْقَظَ فَذَكَرَ اللَّهَ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فَإِنْ تَوَضَّأَ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فَإِنْ صَلَّى انْحَلَّتْ عُقَدُهُ كُلُّهَا، فَأَصْبَحَ نَشِيطًا طَيِّبَ النَّفْسِ، وَإِلَّا أَصْبَحَ خَبِيثَ النَّفْسِ كَسْلاَنَ].

 

ويقول العارفون:

- أهل الفجر فئةٌ موفقةٌ، وجوههم مُسفرةٌ، وجباههم مُشرقةٌ، ونُفوسهم طيبةٌ، وأعمالهم زاكيةٌ، وأوقاتهم مُباركةٌ.

- ما أجمل الفجر؛ فريضته تجعلك في ذمة الله، وسُنته خيرٌ من الدنيا وما فيها، وقرآنه مشهود.

- صلاة الفجر هي أول امتحانٍ يخوضه كلٌ منا صباح كل يومٍ، لينجح فيه من وثب من فراشه صافاً قدميه بين المُصلين.

- إذا دخلتَ لصلاة الفجر ورأيتَ قلة المُصلين فاعلم أن الله اصطفاك من بين عباده؛ فهنيئاً لك.

- هنيئاً لمن حافظ علي صلاة الفجر، لم توقظه مدرسةٌ أو جامعةٌ أو عملٌ، إنما هو حب ملك الملوك أنار قلبه فحرّك جوارحه.

- هنيئاً لمن لبّى نداء ربه واستجاب لحي على الصلاة، حي على الفلاح، و(الصلاة خيرٌ من النوم).

- لا تسألوا من لا يُصلي الفجر عن معنى السعادة؛ فلا يستوي من قام للمولى ومن عشق الوسادة.

- الفَجر والفَرَج توأمان؛ فالفجر: انتقالٌ من ظلامٍ إلى نور، والفرج: انتقالٌ من ضيقٍ إلى سعة.

- عندما تُعطي صلاة الفجر المكانة الأولى في بداية يومك ثق تماماً أن كل الأمور الباقية تأخذ أماكنها الصحيحة تلقائياً.

- صلاة الفجر سِرُ بَركةِ يومك، ومفتَاحُ سَعادتك، وحَياةٌ لِرُوحك.

‏- تنفرد صلاة الفجر بأذانٍ مُختلفٍ عن بقية الصلوات فيه: (الصلاة خيرٌ من النوم) إنه اختبار الصدق مع الله.

- ما أجمَل الفجر؛ ملائكةٌ تهبط، ونسماتُ إيمانٍ، وقلوبٌ تَتمنى الخير لبعضها، لا يَستيقظ لها إلا المُحب الصادق، فيها أنوارٌ تسطع، وجباهٌ تركع، وحسناتٌ تُرفع، وأَرزاقٌ تُوزع، فيها يُنقي الله عباده من الذُنوب والخَطايا.

- يظن من ينام عن صلاة الفجر أنه أخذ قسطاً من الراحة، ولا يدري المسكين أن الراحة كل الراحة هي الوقوف بين يدي الله.

 

قال الشاعر:

صلاةُ الفجرِ في الظُلَمْ

مَنْجاةٌ مِن النِقمْ

فكمْ داوتْ مَن عانى مِن سِقَمْ

وشرحتْ صَدْراً كانَ به حِممْ

فَقوموا لَها بِصِدقٍ وهِمَمْ

وَأبْشِروا بِنورٍ في جَنَّة النِعَمْ

 

ومن المُعينات على صلاة الفجر: صدق الرغبة، وعقد النية، والدعاء لله بالإعانة، وترك السهر، وهجر الذنوب، ومُصاحبة الأتقياء، والأخذ بالأسباب المُساعدة: كالنوم على وضوء، وكثرة الاستغفار، وضبط المؤقت والمنبه ولو كان منبه شُرب الماء، ووصية بعض الأهل أو الجيران أو الأصدقاء للإيقاظ.

 

أحبتي.. قصة الجنود الصينيين فيها عبرةٌ لمن لا يواظبون على صلاة الفجر في المسجد مع جماعة المُسلمين -بغير عذرٍ- فيحرمون أنفسهم من خيرٍ كثيرٍ، يُقدِّمون النوم على الصلاة، وهُم يسمعون المؤذن يُعلنها واضحةً صريحةً لا لبس فيها (الصلاة خيرٌ من النوم). إلى هؤلاء أقول، وبصراحة:

ألا تخجل من سهرك تُشاهد فيلماً أو مسلسلاً أو مباراةً لكرة القدم حتى قُبيل موعد أذان الفجر بقليلٍ فتقوم للنوم؟!

ألا تخاف الله، وأنت تقوم من نومك مُسرعاً لتكون على رأس عملك في موعدٍ مُحددٍ -صباح كل يومٍ- يأمرك به مديرك، وعندما يكون الموعد صلاة الفجر، ويكون الآمر بها الله سبحانه وتعالى، تتكاسل وتنام؟!

ألا تستحي من انتظامك في صلاة الفجر بالمسجد وقت الامتحانات فقط أو في مواسم مُعينةٍ كشهر رمضان مثلاً ثم تنقطع عن ذلك بعد انتهاء الامتحانات أو بعد شهر رمضان؟!

لكن، ولأن الله رؤوفٌ رحيمٌ، ولأنك ما تزال حياً فإنّ أمامك فرصةً -لا تُضيِّعها- لتدارك الأمر والإحسان إلى نفسك؛ بالالتحاق بمن يُصلون الفجر في جماعةٍ، ويحرصون على هذه الصلاة المُباركة، ويواظبون عليها، ويحذرون من إضاعتها والنوم عنها؛ فإن الله قد توعد من يُضيّع الصلاة بقوله تعالى: ﴿فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا﴾، قال العُلماء ليس معنى أضاعوها: تركوها، ولكن أخروها عن أوقاتها، فما بالك بمن ضيّعها؟

أما المواظبون على صلاة الفجر في جماعةٍ بالمسجد، فأقول لهم: احمدوا الله على فضله، واستمروا واثبتوا، أثابكم الله ثواباً عظيماً وحفظكم من كل سوء.

هدانا الله جميعاً إلى طريق الصواب والرشاد.

https://bit.ly/3HVniDV

الجمعة، 16 ديسمبر 2022

العطاء المُدهش

 

خاطرة الجمعة /374


الجمعة 16 ديسمبر 2022م

(العطاء المُدهش)

كتبت تقول: كنتُ كلما مررتُ بذاك الشارع المجاور للجامعة -أثناء تحضير رسالة الماجستير- وجدتُ نفس الفتاة تجلس وقد وضعتْ أمامها بعض أكياس المناديل، بينما انشغلت هي بالكتابة في أوراقٍ بيدها، لم أهتم في البداية، ومرةً بعد مرةٍ زادني الأمر فضولًا تُرى ماذا تكتب؟! وقفتُ لأشتري منها مناديل وسألتها: "ماذا تفعلين؟"، أجابت دون أن تنظر إليّ: "أحاول إنهاء الواجب المدرسي قبل عودة أمي"، سألتها: "وأين أمك!؟"، قالت: "في أحد البيوت المُجاورة تمسح السلالم"، سألتها: "هل تذهبين الى المدرسة!؟"، أجابت: "نعم؛ فبعد وفاة أبي أصرّت أمي على أن ندرس"، سألتها: "هل لديكِ أخوات!؟"، قالت: "نعم؛ ثلاثٌ من الإناث، واثنان من الذكور"، سألتها: "أين هم!؟"، أجابت: "أُختي الكُبرى تجلس مع الصغار وتُعد أعمال المنزل ريثما نعود في آخر النهار، بينما يعمل أخي سالم في إحدى ورش السيارات، ويعمل إبراهيم في مسح السيارات". استكملتُ الحديث معها، وحاولتُ أن أعطيها المزيد من النقود لكنها لم تقبل أبداً، لكن عرفتُ من حديثها أنها تدرس في مدرسة الحي في الصف الثالث الابتدائي.

في اليوم التالي ذهبتُ إلى المدرسة، وسألتُ عنها، رأيتها تجلس وحدها ليس لديها أي أصدقاء؛ إذ ينفر الجميع منها؛ فملابسها تبدو قديمةً، ولا تملك أي مصروفٍ شخصيٍ كزميلاتها، على الرغم من كونها متميزةً جداً وذكيةً في دراستها. أحزنني ذلك كثيراً؛ فقدمتُ إلى مديرة المدرسة بعض المال وطلبتُ منها أن تُكرِّم هذه الفتاة في اليوم التالي باعتبارها طالبةً مثاليةً، وتُقدم لها هديةً تشمل بعض الدفاتر والأقلام وما ينقصها في دراستها مع ثوبٍ جديدٍ، وذلك لعفة نفسها وعدم تقبلها الصدقة من أي شخص. لم تُمانع المديرة في ذلك، كما أنها أمدتني أيضاً بعنوان الفتاة كما طلبتُ منها.

عدتُ يومها إلى منزلي وبداخلي إحساسٌ كبيرٌ بالراحة لشعوري أن الفتاة ستفرح كثيراً بذلك. وبينما نتناول العشاء، لم يكن زوجي على ما يُرام، حاولتُ أن أعرف ماذا يُحزنه، لكنه لم يتحدث، توقعتُ أن يكون واحداً من أهله حدَّثه بشأن الإنجاب -الذي تأخر أربعة أعوام - ولا يُريد أن يُخبرني كيلا أحزن. في اليوم التالي، وقبل ذهابي إلى الجامعة ذهبتُ إلى منزل الفتاة، وأخبرتُ والدتها بأني سأُقدم لها في كل شهرٍ مبلغاً من المال لأجل دراسة ابنتها، مع تأكيدي لها أن هذه جائزةٌ من المدرسة لكونها طالبةً مثاليةً، فرحتْ الأم كثيراً بهذه المنحة، وظللتُ أنا على وعدي طوال سنواتٍ عديدةٍ.

عشنا -أنا وزوجي- تلك السنوات في سعادةٍ كبيرةٍ نتمتع بكثيرٍ من (العطاء المُدهش) يأتي إلينا الخير من كل بابٍ نقصده؛ أنجبتُ اثنين من الإناث ومثلهما من الذُكور، حصلتُ على الماجستير وتبعته بالدكتوراه، ترقى زوجي في عمله مراتٍ مُتكررةٍ، تبدلت حياتنا كثيراً، ولم يكن زوجي يعلم السبب في ذلك، بينما كنتُ أنا أعلم أن سبب ذلك هو الصدقة التي كنتُ أقدمها إلى هذه الفتاة، وكنتُ كلما تحسنت أوضاعنا قدمتُ إليها المزيد، إنه عطاءٌ من الله سُبحانه وتعالى، إنه (العطاء المُدهش) الذي لم أكن أنا وزوجي نتوقعه.

اليوم أرى هذه الفتاة تجلس بين طلابي في كلية الطب، تُعد أكثرهم تفوقاً وتميزاً، لا تعلم أني معها منذ طفولتها، ولا تعلم أنها سر كل ما أنعم علينا به المولى عزَّ وجلَّ.

 

أحبتي في الله.. عن (العطاء المُدهش) حدث هذا الموقف الغريب؛ ففي برنامجٍ تلفزيونيٍ عرض المُذيع حالة مريضٍ يحتاج إلى جراحةٍ مستعجلةٍ تكلف 150 ألف دولار، وبدأ الناس في التجاوب بالاتصال والتبرع، وكان منهم شخصٌ أعلن تبرعه بدولارين! سأله المُذيع لماذا دولاران؟ أجابه: "هي نصف ما أملك؛ فأنا عاطلٌ عن العمل، وعملاً بما يُمليه عليّ ديني؛ الجود بالقليل أفضل من عدمه، والصدقة تُطفئ غضب الرب". كانت المُفاجأة أن أعلن المُتصل التالي تبرعه ب 8 آلاف دولار؛ منها 4 آلاف للمريض، و4 آلاف للمُتبرع بدولارين. واندفع بعده المتصلون؛ فاتصل آخر وتبرع ب 10 آلاف دولار منها 5 آلاف للمريض، و5 آلاف للشاب المُتبرع بدولارين. وهكذا كل من اتصل تبرع للاثنين معاً، وفي نهاية الحلقة اكتمل المبلغ للمريض، وجُمع مبلغٌ ضخمٌ للشاب. وفي حلقةٍ أخرى استضاف المُذيع هذا الشاب المُتبرع بدولارين، وسلمه المال، وجعله يحكي عن عدم حصوله على عملٍ رغم مؤهلاته، وفي الحلقة ذاتها جاءته عشرات الاتصالات من شركاتٍ تعرض عليه العمل ليختار أفضلها.

 

يقول تعالى: ﴿وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾. يقول المفسرون لهذه الآية إنه في قوله تعالى: ﴿مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾ قد جاء ب "مِنْ" الدالة على التبعيض، ولم يقل "أنفقوا ما رزقناكم"، للدلالة على أن الإنفاق إنما يكون في قسمٍ من المال ولا يشمل المالَ كله، فتستسهلُ النفوسُ التخلي عن قسمٍ من المال، استجابةً لأمر ربها. وأسند الرزق إلى نفسه فقال: ﴿رَزَقْنَاكُمْ﴾ للدلالة على أن هذا المال إنما هو من رزق الله سُبحانه، مَلّكه عبادَهُ، فتطيب النفوس لإخراج بعض ما رزقهم الله، استجابةً لأمرِ الله الرازق، وهذا التعبير اللطيف مَدعاةٌ إلى الخروج عن الشُح والاستجابة لأمر الله. وقال تعالى: ﴿لَوْلَا أَخَّرْتَنِي﴾، ولم يقل: "لو أخرتني" لأن "لولا" أَشَدُّ في الطلب من "لو"، وقائلها أكثر إلحاحاً من قائل "لو"؛ فإن "لو" تكون للطلب برفقٍ، وأما لولا فتكون للطلب بشدةٍ وحَثٍّ. ثم إنه طلب مُهلةً قصيرةً لإصلاح حاله، مع أنه كان يتقلب في الأرض من دون أدنى تفكيرٍ أو اهتمامٍ بمآله في الآخرة، أو بالأوقات التي يُضيعها هدراً من دون اكتراثٍ، فقال: ﴿إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ﴾، ولم يقل: "إلى أجل" فيحتمل القريب والبعيد، فطلبَ مُهلةً قصيرةً وأجلاً قريباً لتداركِ ما فات. ثم قال: ﴿فَأَصَّدَّقَ﴾ وبها تضعيفان: أحدهما في الصاد والآخر في الدال، ويدل هذا على المُبالغة والتكثير، فدلّ بذلك أنه أراد أجلاً قريباً ليُكثر من الصدقة ويُبالغ فيها. أما لماذا يختار الميت "الصدقة" لو رُجع للدنيا؛ فيقول أهل العلم: ما ذكر الميت الصدقة إلا لعظيم ما رأى من أثرها بعد موته.

 

ومن أقوال النبي صلى الله عليه وسلم عن الصدقة؛ فيما يروي عن ربه، تبارك وتعالى: [أنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ]، كما قالَ: [يَدُ اللَّهِ مَلْأَى، لا تَغِيضُها نَفَقَةٌ]. وقال عليه الصلاة والسلام: [إِذَا مَاتَ الإنْسَانُ انْقَطَعَ عنْه عَمَلُهُ إِلَّا مِن ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِن صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو له]. والحديث دليلٌ على أنه ينقطع أجر كل عملٍ بعد الموت، إلا هذه الثلاثة فإنه يجري ثوابها بعد الموت لدوام نفعها؛ الأولى: الصدقة الجارية، كالوقف ونحوه. الثانية: علمٌ يُنتفع به كالتعليم والتصنيف {أي ما صُنِّف وأُلِّف من الكُتب}. الثالثة: دعاء الولد الصالح. وقال صلى الله عليه وسلم قال: [الصدقةُ على المسكينِ صدقةٌ، وعلى ذي الرَّحِمِ ثِنْتَانِ: صدقةٌ وصِلَةٌ]. وقال أيضاً: [صَدَقةُ السِّرِّ تُطفِئُ غضبَ الرَّبِّ]. وقال كذلك: [اتَّقُوا النَّارَ ولو بشِقَّةِ تَمْرَةٍ، فمَن لَمْ يَجِدْ شِقَّةَ تَمْرَةٍ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ]. وعن منزلة المُتصدقين؛ قال عليه الصلاة والسلام: [إنَّما الدُّنيا لأربعةِ نفرٍ عبدٍ رزقَهُ اللَّهُ مالًا وعلمًا فَهوَ يتَّقي ربَّهُ فيهِ ويصلُ فيهِ رحمَهُ ويعلمُ للَّهِ فيهِ حقًّا، فَهذا بأفضلِ المنازلِ].

أحبتي.. الصدقة تأتي من القلب قبل أن تخرج من اليد، وهي سببٌ في (العطاء المُدهش) من الله عزَّ وجلَّ؛ نِعمٌ كثيرةٌ في الدنيا، وثوابٌ عظيمٌ في الآخرة، لمجرد أننا ننفق من أموالٍ ليست أموالنا، بل هي أموالٌ رزقنا الله بها، ومع ذلك إذا أنفقناها في زكواتٍ وصدقاتٍ أثابنا وأعلى منزلتنا، إنه حقاً ربٌ كريمٌ، بل هو أكرم الأكرمين؛ فلنُكثر من الصدقة التي نستظل بها يوم القيامة؛ كما قال الحبيب المصطفى: [كلُّ امرئٍ في ظِلِّ صَدَقَتِه حتى يُقْضَى بين الناسِ]. وليجعَلْ كلُّ واحدٍ منا بينه وبين النَّار حاجزاً، ولو أن يتصدَّقَ بأقل القليل، وهل أقل من نصف تمرة؟!

لن ينسى الله خيراً قدمته، وهماً فرّجته، ومساكين أسعدتهم. أرخِ يدك بالصدقة تُرخَ حبال الغم والهُموم من على عاتقك، وتكُن من أحب الناس إلى الله سُبحانه وتعالى؛ قال صلى الله عليه وسلم: [أَحَبُّ الناسِ إلى اللهِ أنفعُهم للناسِ، وأَحَبُّ الأعمالِ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ سرورٌ تُدخِلُه على مسلمٍ، تَكشِفُ عنه كُربةً، أو تقضِي عنه دَيْنًا، أو تَطرُدُ عنه جوعًا]، واعلم أن حاجتك إلى الصدقة أشد من حاجة من تتصدق عليه. واعلم أنّ للصدقة في أيام الحاجة شأناً كبيراً؛ فإنها كلما كانت أنفع للخلق وأخلص للرب كانت أفضل وأعظم أجراً.

اللهم اجعلنا من المُتصدقين.

https://bit.ly/3PvmSG6

الجمعة، 9 ديسمبر 2022

فضيلة الستر

 

خاطرة الجمعة /373


الجمعة 9 ديسمبر 2022م

(فضيلة الستر)

 

هذه القصة منقولةٌ عن مقالةٍ صحفيةٍ بعنوان "الفضيلة المنسية"، كتب صاحبها يقول:

في نهاية التسعينيات من القرن المُنقضي كنتُ أعمل لدى رجل أعمالٍ معروفٍ يمتلك مجموعةً من المطاعم الشهيرة، توطدت علاقتي به بعد فترةٍ وجيزةٍ من انضمامي للعمل حتى أصبح يثق بي تماماً، وسرعان ما تمت ترقيتي أكثر من مرةٍ حتى أصبحتُ أُدير مجموعة المطاعم إدارةً كاملةً بصلاحياتٍ واسعةٍ، حيث كان يعمل تحت إدارتي مئات العمال والموظفين، كل هذا وأنا لم أكن قد أتممتُ بعد عامي الخامس والعشرين. كان كل شيءٍ يسير على ما يُرام حتى ذلك اليوم؛ في نهاية الوردية المسائية كنتُ أتفقد المطعم كعادتي إلا أنني لاحظتُ وجود فتاةٍ من العاملات تقف مرتبكةً، وازدادت ارتباكاً عندما رأتني وهمت بالانصراف مُسرعةً، وبتفتيشها وجدتها تُخبئ في حقيبتها بعض المأكولات والعصائر؛ فما كان مني إلا أن أمرتُ بفصلها من العمل فوراً مع حرمانها من باقي مستحقاتها لأنها سرقت.

لم تُفلح توسلات الفتاة ولا دموعها، ولم تُجدِ وساطة العاملين نفعاً ولا مُبرراتهم بأنها فتاةٌ صغيرةٌ يتيمة الأب، تعمل كي تُنفق على والدتها المريضة على الرغم من أنها ما زالت تدرس بالمرحلة الثانوية، لم يحّن قلبي أبداً؛ حيث أنني مُستأمنٌ على ذلك المال. وظننتُ أنني فعلتُ الصواب، بل وأسرعتُ للاتصال بالسيد صاحب العمل لإخباره بما حدث، مُتوقعاً إشادةً واسعةً ومُكافأةً مُجزيةً، إلا أنني وجدتُ الرجل كما لم أره من قبل، كان ثائراً غاضباً يوبخني بشدةٍ، وقطع إجازته، وفي صبيحة اليوم التالي اجتمع بجميع العاملين والعاملات وحثهم على الأمانة والحفاظ على مصدر دخلهم، وأمر بزيادةٍ مُجزيةٍ جداً في راتب جميع العاملين، وأعاد الفتاة إلى عملها مع منحها وجبتي عَشاءٍ لها ولوالدتها يومياً عند الانصراف.

أشعرني تصرفه بكثيرٍ من الإحباط حتى أنني قدمتُ استقالةً مُسببةً؛ فما كان منه إلا أن مزّق طلب الاستقالة وقال لي: "يا بُني سأقص عليك قصة شابٍ كان يعمل على عربة كبدةٍ، واستأمنه صاحب العربة على ماله فصانه حتى ازداد المال واشتهرت العربة وتضاعف الإيراد أضعافاً مُضاعفةً بفضل الله ثم بكفاءة ذلك الشاب في العمل، إلا أنه -وعلى الرغم من ذلك- كان لا يملك إلا راتبه القليل فقط، بينما كل الأرباح تذهب لصاحب العربة. بدأ والد الشاب يمرض ويحتاج إلى مصاريف علاجٍ كثيرةٍ لم يقدر عليها وحده، وهنا دخل الشيطان مدخله ولعب برأس الشاب كي يقتطع جُزءاً من الربح اليومي دون إخبار صاحب العربة، وبعد مُقاومةٍ شرسةٍ نجح إبليس في مُخططه اللعين، وفعل الشاب ما فعل، لكن أراد الله له ألا يتمادى في طريق الباطل؛ فعلم صاحب المال بفعلته، كان من المُمكن أن يسجنه، أو على الأقل يطرده من العمل، إلا أنه -وفي تصرفٍ غير مُتوقعٍ- سأله عن صحة والده وأعطاه ما يكفي لعلاجه، ثم أمر أن يُصبح الشاب شريكاً له في العمل بمجهوده وبكفاءته وبحب الناس له. ثم نظر لي السيد طويلاً وقال: "هل تعرف من يكون ذلك الشاب؟ إنه أنا! يا بُني إن الله يستر العبد إن عصاه، ثم يستره إن عصاه ثانيةً، ثم يفضحه إن أصر على المعصية؛ فكُن ستّاراً يسترك الله ويُسخِّر لك من يسترك فكلنا عيوبٌ ونحتاج الستر". بعدها بعامٍ هاجر السيد إلى أُستراليا وعلمتُ بوفاته بعدها. أما الفتاة فالتقيتها بعد ثلاثة أعوامٍ صدفةً فى حفل عُرسٍ وأخبرتني أنها التحقت بكلية الطب البشري، وربما هي الآن طبيبةٌ عظيمةٌ وأمٌ لأسرةٍ جميلةٍ، وربما أيضاً تكون سبباً لإنقاذ حياتي يوماً ما.

إنها (فضيلة الستر)؛ تلك الفضيلة المنسية في زمنٍ سيطرت فيه مواقع التواصل الاجتماعي على حياة الناس، إلا من رحم ربك، فكفانا تعقباً لفضائح الناس، وكفانا قسوةً في أحكامنا على الآخرين.

 

أحبتي في الله.. الستر نعمةٌ من الله سبحانه وتعالى، وهو فضيلةٌ يحرص عليها المتقون.

يروي أحد الأخوة موقفاً يُبين لنا معنى الستر ومفهومه الشامل، كتب يقول: كنتُ أشتري صباح كل يومٍ صحيفةً من بائع الصُحف، وقد علمني مرةً درساً مُهماً سيبقى في ذاكرتي طوال العمر؛ سألته مرةً: "كيف حالك اليوم يا عم؟"، فقال لي: "والله، في نعمة الستر!"، فاندهشتُ من إجابته، وسألته: "ولماذا الستر تحديداً؟"، فقال لي: "لأنني مستورٌ من كل شيء!"، قلتُ له مُداعباً: "عن أيّ سترٍ تتحدث، وقميصك مُرقّعٌ بألوانٍ شتى؟!"، فقال لي: "يا بُنيّ، الستر أنواعٌ: عندما تكون مريضاً، ولكنك قادرٌ على السير بقدمَيك، فهذا سترٌ من مذلّة المرض. عندما يكون في جيبك مبلغٌ بسيطٌ من المال يكفيك لتنام وأنت شبعانٌ، حتى لو أكلتَ خُبزاً، فهذا سترٌ من مذلّة الجوع. عندما يكون لديك ملابس، ولو كانت مُرقّعةً أو قديمةً، فهذا سترٌ من مذلّة البرد. عندما تكون قادراً على الضحك، وأنت حزينٌ لأيّ سببٍ، فهذا سترٌ من مذلّة الحُزن. عندما تكون قادراً على قراءة الصحيفة التي بين يديك، فهذا سترٌ من مذلّة الجهل. عندما تستطيع أن تتصل في أيّ وقتٍ بأهلك لتطمئن عليهم وتُطمئنهم عنك، فهذا سترٌ من مذلّة الوحدة. عندما يكون لديك وظيفةٌ أو مهنةٌ حتى لو بائع صحفٍ، تمنعك عن مد يدك إلى أيّ شخصٍ، فهذا سترٌ من مذلة السؤال. عندما يُبارك لك الله في أولادك وبناتك، في صحتهم وتعليمهم وزواجهم وبيوتهم، فهذا سترٌ من مذلة القهر. عندما يكون لديك زوجةٌ صالحةٌ، تحمل معك همّ الدنيا، فهذا سترٌ من مذلّة الانكسار. وتذكّر دائماً أنك تملك نِعَماً يتمناها ملايين‏ البشر؛ هذه هي نعمة الستر. الستر يا بُنيّ، ليس ستر فلوس، وإنما ستر نفوس".

 

عن (فضيلة الستر) قال النبي صلى الله عليه وسلم: [إن اللهَ عزَّ وجلَّ حليمٌ حييٌّ، سِتِّيرٌ، يُحِبُّ الحياءَ، والسِتْرَ].

وعن ستر الغير قال عليه الصلاة والسلام: [... ومَن سَتَرَ مُسْلِمًا، سَتَرَهُ اللَّهُ يَومَ القِيَامَةِ]. وفي روايةٍ: [... ومن سترَ مسلمًا، ستره اللهُ في الدنيا والآخرةِ]. وقال عليه الصلاة والسلام: [لا يسترُ عبدٌ عبدًا في الدُّنيا، إلَّا ستره اللهُ يومَ القيامةِ].

أما عن ستر النفس -وهو أولى- فقال عليه الصلاة والسلام: [كُلُّ أُمَّتي مُعافًى إلَّا المُجاهِرِينَ، وإنَّ مِنَ المُجاهَرَةِ أنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ باللَّيْلِ عَمَلًا، ثُمَّ يُصْبِحَ وقدْ سَتَرَهُ اللَّهُ عليه، فَيَقُولَ: يا فُلانُ، عَمِلْتُ البارِحَةَ كَذا وكَذا، وقدْ باتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ، ويُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللَّهِ عنْه]، ويقول العلماء عن ذلك: "للعبد سترٌ بينه وبين الله، وسترٌ بينه وبين الناس؛ فمن هتك الستر الذي بينه وبين الله؛ هتك الله الستر الذي بينه وبين الناس".

 

وعن (فضيلة الستر) قال أحدهم: "كلنا مُثقلون بالعيوب، ولولا رداءٌ من الله اسمه الستر لكُسِرت أعناقنا من شدة الخجل؛ فإذا وصلتك فضيحةٌ لأحدٍ فاجعلها تقف عندك ولا تتعداك، فإن وقفتْ عندك أخذتَ أجر الستر، وسترك الله في الدنيا والآخرة".

 

أما الشاعر فقال:

لِسانُكَ لا تذكرْ بهِ عَورةَ امرئٍ

فَكُلُكَ عَوراتٌ وللناسِ ألسُنُ

وَعيناكَ إنْ أبدتْ إليكَ مَعايباً

فَدَعْها وَقُلْ يا عَيْنُ للناسِ أعينُ

وعاشِرْ بمَعْروفٍ وَسامِحْ مَنْ اعْتَدى

وَدافِعْ ولَكِنْ بالتي هي أَحْسَنُ

وقال آخر:

لا تهتكنَ من مساوي الناسِ ما سُترا

فيهتكُ الله سِـتراً عن مَساويكَ

واذكرْ مَحاسـنَ ما فـيهم إذا ذُكِـروا

ولا تَعبْ أحداً مِنهم بمـا فيـكَ

 

أحبتي.. (فضيلة الستر) ما أحسنها من فضيلةٍ؛ فلنبدأ بأنفسنا نسترها فلا نُجاهر بسوءٍ فعلناه، ستره الله علينا، بل نستغفر ونتوب. ثم إن علينا أن نستر غيرنا؛ فيُنعم الله علينا بستره الجميل في الدنيا والآخرة، ومَنْ أنعَمَ الله عليه بالستر في الدنيا سَلِمَ من أذى الناس، وعاش بينهم عزيزاً كريماً، أما في الآخرة فعسى أن يجعل الله سمعنا وأبصارنا وجلودنا شهوداً لنا لا علينا يوم الحساب؛ يقول تعالى: ﴿وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِّمَّا تَعْمَلُونَ﴾.

اللهم استرنا فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض عليك.

 

https://bit.ly/3VKUwKg

الجمعة، 2 ديسمبر 2022

وفاء نادر

 

خاطرة الجمعة /372


الجمعة 2 ديسمبر 2022م

(وفاء نادر)

 

هذه قصةٌ من أحسن قصص الحب والوفاء لشريكة الحياة التي طالما وقفت إلى جانب زوجها في أحلك الظروف وأصعب الأوقات؛ فقد ترك رجلٌ زوجته وأولاده من أجل الدفاع عن وطنه قاصداً أرض معركةٍ تدور رحاها على أطراف البلاد التي غزاها جيشٌ أجنبيٌ يريد احتلالها ونهب خيراتها والسيطرة على مواردها. وبعد انتهاء الحرب، وفي طريق عودة الرجل إلى منزله تم إبلاغه أن زوجته أُصيبت بعد غيابه بمرض الجُدري فتشوه وجهها كثيراً وبقية جسمها جراء ذلك المرض الفتاك. تلقى الرجل الخبر بألمٍ وحُزنٍ عميقين شديدين لكنه لم يقل شيئاً.

في اليوم التالي شاهده رفاقه مُغمض العينين؛ فرثوا لحاله، وأيقنوا حينها أنه فقد بصره نتيجةً لصدمته في اليوم السابق بسماع الخبر الصاعق الذي تلقاه عما أصاب زوجته. وحين وصل الرجل إلى قريته رافقه عددٌ من رفاقه وهم يقودونه من يده حتى أوصلوه إلى منزله، وحينما رأته زوجته وأولاده على هذه الحال ظنوا أنه فقد بصره أثناء المعارك في الحرب التي عاد منها للتو. أكمل الرجل بعد ذلك حياته مع زوجته وأولاده بشكلٍ اعتياديٍ؛ هو تكيّف على وضعه الجديد، وهُم كذلك اعتادوا عليه. بعد ما يُقارب خمسة عشر عاماً توفيت زوجة الرجل، حينها تفاجأ كل من حوله بأنه عاد مُبصراً بشكلٍ طبيعيٍ، ثم علموا فيما بعد أنه أغمض عينيه بإرادته طيلة تلك السنوات كي لا يجرح مشاعر زوجته عند رؤيته لها وقد ترك الجُدري آثاره على وجهها وجسدها.

كانت تلك لفتةً إنسانيةً كريمةً من هذا الزوج من أجل المُحافظة على مشاعر زوجته وإشعارها أنه لا يزال يراها في مُخيلته جميلةً كما كانت قبل ذهابه للحرب، واختار أن يتظاهر بالعمى خمسة عشر عاماً من أجل الوفاء لها، إنه بلا شك (وفاء نادر).

 

أحبتي في الله.. لا أدري من هو الأكثر وفاءً لزوجته؛ هذا الرجل الذي ظل قرابة خمسة عشر عاماً يعيش حياة كفيف البصر كي لا يجرح مشاعر زوجته، أم ذلك الرجل الإيطالي المُسن؟ دعونا نتعرف على قصته يرويها لنا شاهد عَيان، كتب يقول:

كنتُ ذات صباحٍ في قاعة الانتظار بالمستشفى الجامعي القريب من سكني في روما، أنتظر دوري لأراجع الطبيب لبعض حُروقٍ ظهرت على أطرافي، وكان أمامي في القائمة شيخٌ إيطاليٌ يُناهز الثمانين، باديةٌ عليه علامات القلق، ينتظر الطبيب لتغيير ضمّادةٍ حول معصمه وإعادة تطبيب يده من جديد، وكان قد أخبر المُمرضة أنه في عجلةٍ من أمره. ظل يطرق باب غرفة الطبيب بين الفينة والأخرى، يسأل المُمرضة عن موعد دخوله، وهي تُخبره في كل مرةٍ أن دوره لم يأتِ بعد، وأن هناك أشخاصاً في حالاتٍ حرجةٍ لهم الأولوية. كنتُ مُتعجباً من عجلته رغم أنه في الغالب مُتقاعدٌ ولا مشاغل كبيرةً لديه. لم يهدأ بال ذلك الرجل المُسن، وظل يمشي ذهاباً وإياباً، قلقاً يتذمر من التأخير الذي طرأ على برنامج يومه، ومع طرقةٍ من طرقاته على باب غرفة الطبيب خرجت عليه المُمرضة تُعاتبه، قالت له: "ما كُل هذه العجلة وأنت لا شغل لديك ولا مواعيد مُهمةً أمامك؟"، وطلبت منه الجلوس في أي مقعدٍ من مقاعد قاعة الانتظار وستقوم هي بتطبيبه إذا كان لا يرغب في الانتظار؛ فوافق. ذهبت المُمرضة وأحضرت كل المُستلزمات، ثم وقفت أمامه وهي تتحدث معه، بعد أن أزالت الضمادة واهتمت بجُرحه، سألته: "هل لديك موعدٌ هذا الصباح مع طبيبٍ آخر ولذلك أنت في عجلةٍ من أمرك؟"، أجاب: "لا.. لكني ذاهبٌ إلى دار رعاية المُسنين لتناول إفطار الصباح مع زوجتي كما أفعل كل يوم"، فسألته المُمرضة: "ما سبب دخول زوجتك لدار الرعاية؟"، فأجابها: "إنها هناك منذ فترةٍ لأنها مُصابةٌ بمرض الزهايمر وفقدان الذاكرة"، في تلك اللحظة كانت المُمرضة قد انتهت من تغيير الضمادة بعد أن طبّبته، وسألته: "وهل ستقلق زوجتك لو تأخرتَ عن الميعاد قليلاً؟"،

فأجاب: "أنها لم تعد تعرف من أنا؛ إنها لا تستطيع التعرف عليّ منذ أربع سنواتٍ مضت"، قالت المُمرضة مُندهشةً: "ولا زلتَ تُلازمها وتتناول الإفطار معها كل صباحٍ على الرغم من أنها لا تعرف من أنت؟"، ابتسم الرجل العجوز وهو يربت على يديها وقال: "هي لا تعرف من أنا، ولكنني أعرف من هي"، وانصرف مُسرعاً. مسحت المُمرضة دمعتين فرّتا من عينيها، وقالت وهي تخنقها الشهقة: "هذا هو نوع الحب الذي أريده في حياتي".

 

هذان مثالان من حالات (وفاء نادر) قلَّ أن نجد لهما مثيلاً، وقلَّ أن نجد قدوةً يُحتذى به في هذا الشأن، لكننا إن أمعنا النظر، وعُدنا إلى مرجعيتنا التي لا نضل أبداً إذا تمسكنا بها، لوجدنا الآية الكريمة التي تُخبرنا بوضوحٍ عن قدوتنا ومثلنا الأعلى نحن المسلمين؛ يقول تعالى: ﴿لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾ إذن فرسولنا محمدٌ صلى الله عليه وسلم هو الأُسوة، وهو القدوة، وهو المثال الذي علينا أن نحتذي به في كل شيءٍ؛ فهل في سيرته عليه الصلاة والسلام ما يُبين لنا وفاءه لزوجته؟ نعم كان عليه الصلاة والسلام ذا (وفاء نادر) تجاه زوجته أم المؤمنين السيدة/ خديجة بنت خويلد، رضي الله عنها، حتى بعد وفاتها؛ فعَنْ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: "مَا غِرْتُ عَلَى أَحَدٍ مِنْ نِسَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَا غِرْتُ عَلَى خَدِيجَةَ، وَمَا رَأَيْتُهَا، وَلَكِنْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ ذِكْرَهَا، وَرُبَّمَا ذَبَحَ الشَّاةَ ثُمَّ يُقَطِّعُهَا أَعْضَاءً، ثُمَّ يَبْعَثُهَا فِي صَدَائِقِ خَدِيجَةَ، فَرُبَّمَا قُلْتُ لَهُ: كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي الدُّنْيَا امْرَأَةٌ إِلَّا خَدِيجَةُ، فَيَقُولُ [إِنَّهَا كَانَتْ، وَكَانَتْ، وَكَانَ لِي مِنْهَا وَلَدٌ]. وعَنْ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا ذَكَرَ خَدِيجَةَ أَثْنَى عَلَيْهَا، فَأَحْسَنَ الثَّنَاءَ، قَالَتْ: فَغِرْتُ يَوْمًا، فَقُلْتُ: مَا أَكْثَرَ مَا تَذْكُرُهَا حَمْرَاءَ الشِّدْقِ، قَدْ أَبْدَلَكَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهَا خَيْرًا مِنْهَا، قَالَ: [مَا أَبْدَلَنِي اللهُ عَزَّ وَجَلَّ خَيْرًا مِنْهَا، قَدْ آمَنَتْ بِي إِذْ كَفَرَ بِي النَّاسُ، وَصَدَّقَتْنِي إِذْ كَذَّبَنِي النَّاسُ، وَوَاسَتْنِي بِمَالِهَا إِذْ حَرَمَنِي النَّاسُ، وَرَزَقَنِي اللهُ عَزَّ وَجَلَّ وَلَدَهَا إِذْ حَرَمَنِي أَوْلَادَ النِّسَاءِ].

 

إنه الوفاء في أبهى صوره، يقول العلماء عنه إنه من مكارم الأخلاق، وإنه صِفةٌ من صفات الأنبياء والصديقين والصالحين، به تُنال الدرجات، وتُرفع المقامات. وهو خُلقٌ إنسانيٌ رفيعٌ، وسُلوكٌ حضاريٌ راقٍ، ينبغي أن تُبنى عليه العلاقات الأسرية، فهو من أهم دعائم استقرار البيوت وسعادتها. وهو خُلقٌ لا يتصف به إِلا عزيز النفس طيِّب الأصل كريم الخصال. وهو ثمرة عِشرةٍ طيبةٍ بين الزوج والزوجة أساسها الحب والاحترام والتفاهم والمودة والرحمة والثقة. فمن مروءة الرجل أن يكون وفياً لزوجته التي صبرت معه وساندته ودعمته بكل ما تستطيع في تجاوز المحن.

 

وعن الوفاء قال الشاعر:

فإذا ظفرتَ بذي الوفاء

فحط رحلَك في رحابهِ

فأخوك مَن إن غابَ عنك

رعى ودادكَ في غيابهِ

وإذا أصابك ما يسوءُ

رأى مصابَك مِن مصابهِ

وتراه يتوجعُ إن شكوتَ

كأن ما بكَ بعضَ ما بهِ

 

وقال آخر:

الناسُ للناسِ ما دامَ الوفاءُ بِهُِم

والعُسرُ واليُسرُ أوقاتٌ وساعاتُ

فماتَ قومٌ وما ماتت فَضائلُهم

وعاشَ قومٌ وهُم في الناسِ أمواتُ

 

أحبتي.. وفاء الزوج لزوجته دليلٌ على أصالته ونُبله وطيب معدنه؛ فليبادر كل من له زوجةٌ إلى الوفاء بحقها، إن كانت حيةً؛ بالود وحُسن المعاملة وطيب الحديث وإسعادها وإعطائها حقها وتقدير جهودها والحفاظ على مشاعرها، وإن كانت ميتةً؛ فبذِكر محاسنها والدُعاء لها وإكرام أهلها والحديث عنها بحُبٍ واحترام.

ولننتبه إلى أن أبناءنا يتعلمون منا ومن أقوالنا وأفعالنا، ويتخذون منا قدوةً لهم، فلنكن لهم نموذجاً في تعاملنا مع زوجاتنا عسى أن يسيروا على نهجنا، فنسعد ويسعدوا في الدنيا، ونُثاب ويثابوا في الآخرة. وليكن وفاؤنا لزوجاتنا بنية التأسي بنبينا الكريم، صلى الله عليه وسلم، فننال ثواباً آخر هو ثواب اتباع السُنة. أخيراً، هذه همسةٌ في أذن كل زوجة "ارتقِ بأخلاقك وأقوالك وأفعالك إلى المستوى الذي يجعلك أهلاً لمحبة زوجك ووفائه لكِ".

جعلنا الله من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.

https://bit.ly/3FnSdHq

الجمعة، 25 نوفمبر 2022

خير متاع الدنيا

 

خاطرة الجمعة /371


الجمعة 25 نوفمبر 2022م

(خير متاع الدنيا)

 

كتب أحدهم -وهو من أهل مكة المكرمة- يقول:

انفصلت أُمي عن أبي وسافرت إلى أهلها مسافة ١٢٠٠ كم، وكان عمري آنذاك أربع سنوات، عشتُ الضياع مُتنقلاً بين بيوت أعمامي، إلى أن وصلتُ سن ١٦ سنة، وفُصلتُ من المدرسة بسبب سلوكي الإجرامي، وبعدها حصلتُ على لقب "الداشر" {"داشر" وصفٌ للشخص الهائم على وجهه ليس له مُستقرٌ أو منزل، أو الابن الضال الذي يروغ ويزوغ ويترك مسؤوليات البيت والأسرة وما يُطلب منه من عمل، الشخص المُستهتر، غير المبالي. ويُقال عنه أيضاً: صايع أو هامل}.

أتعبتُ والدتي كثيراً بالمشاكل. تقدّمتُ لدورة عسكريةٍ وتخرّجتُ برتبة جندي فقط. بدأ وضعي يتحسّن قليلاً. خطب لي والدي بنت عمي، دون أن يستشيرني، وهي مُعلمة تربيةٍ إسلاميةٍ، طبعاً وافقتُ لأني لا زلتُ أحمل لقب "الداشر"؛ ومن يُزوّج ابنته لصاحب هذا اللقب؟ لم أكن أصدق أن أحداً يرضى أن يزوجني ابنته، ولا أُخفيكم سراً كنتُ طامعاً في راتبها. المهم تم الزواج وكان هذا عام ١٤٢٨هـ، ودخّلوني علي زوجتي قبل الفجر بساعتين تقريباً، سلّمت عليّ وسألتني عن حالي، وهذه أول مرةٍ يسألني أحدٌ عن حالي! بدّلت هي ملابس الزفة وتوضَّأت وطلبت مني أن أتوضأ، توضّأتُ وذهبنا إلى المجلس، طلبت مني أن أُصلي بها إماماً تلعثمتُ؛ فآخر صلاةٍ صليتها كانت قبل سبعة أشهرٍ في رمضان، أعانني الله وصلّيتُ بها ركعتين، قالت لي: "باقي ساعةٌ ونصف على الفجر؛ ما رأيك نُصلي الفجر في الحرم وبعدها نأخذ فطوراً ونُفطر ثم ننام؟"، طبعاً وافقتُ، ولو تطلب أي شيءٍ سأوافق؛ فمن تتزوج "داشراً" وعندها راتب؟

يسّرها الله وصلّينا الفجر، وهذه الصلاة كانت هي التي قلبت حياتي ١٨٠ درجةً، صلّى بنا الشيخ الشريم -أنا لا أعرفه، هي قالت لي اسمه- قرأ في الركعة الأولى ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾؛ رحتُ في عالَمٍ آخر وقلتُ في نفسي: "والله إنني أنا المقصود". انتهينا من الصلاة، وعُدنا إلى المنزل، تناولنا الفطور ثم نمنا.

بعد أسبوعين قالت لي: "ما رأيك أُراجع معك القرآن؟"، قلتُ لها: "أي قرآنٍ يا بنت الحلال؟ كل ما أحفظه أربع سور؛ الفاتحة والإخلاص والمعوذتين". حفّظتني -جزاها الله خيراً- عدداً من قصار السور. ثم علمت بعد ذلك أنه توجد حلقة تحفيظٍ في الحرم بين المغرب والعشاء؛ فطلبت مني أن أسجل فيها، وافقتُ على الفور، ولو تطلب مني أي شيءٍ سأوافق دون تردد؛ فهي نعم الزوجة، إنها زوجةٌ مثاليةٌ في كل شيء. كنتُ أقول في نفسي: "هذه حرامٌ أن يتزوجها واحدٌ "داشر" مثلي؛ فكل ما يبحث الرجل عنه موجودٌ فيها؛ عقلٌ، دينٌ، جمالٌ، أصلٌ، وراتب".

صرنا نذهب كل يومٍ إلى الحرم، نُصلي المغرب، ثم أتوجه أنا إلى حلقة التحفيظ، وتتوجه هي إلى قسم النساء. استمرّينا على هذه الحال حتى حفظتُ ١٣ جزءاً، كنتُ سريع الحفظ وصوتي جميل. تمت ترقيتي ونُقلت للعمل في مدينةٍ أخرى بعيدةٍ عن مكة، كنتُ أتحيّن فرصة غياب إمام مسجدنا وأُصلي بدلاً عنه إماماً للمصلين.

ثم ألحّت عليّ زوجتي أن أُكمل دراستي؛ فحصلتُ على الثانوية العامة بنظام الدراسة المسائية، ثم ألحّت عليّ لألتحق بالجامعة فانتسبتُ في كلية الشريعة وحصلتُ على الشهادة الجامعية. قرأتُ في أحد الأيام إعلاناً عن وظيفة إمام وخطيب جامع؛ فقدمتُ للوظيفة، وتم بحمد الله تعييني إماماً وخطيباً في مسجدٍ صغيرٍ، كان هذا عام ١٤٣٣هـ. أصبحت زوجتي هي كل الدنيا بالنسبة لي، لو تطلب عيوني أُعطيها لها؛ فقد حولتني من "داشرٍ" مُشرّدٍ في الشوارع إلى خريج كلية شريعة، وإمام وخطيب! من يُصدق هذا؟!

الصدمة التي لا أنساها حدثت عام ١٤٣٨هـ حين بدأت تشكو من صداعٍ شديدٍ، تبيّن بعد ذلك أنه ورمٌ خبيثٌ في الدماغ، لم تُكمِل سنةً وانتقلت إلى رحمة الله. تُوفيت ولي منها ثلاث بناتٍ هن نسخةٌ مصغرةٌ عن أمهم.

بعد ذلك بسنةٍ طلب أخواتي مني أن أُوافق على أن يبحثوا لي عن زوجةٍ، رفضتُ رفضاً قاطعاً، وقفلتُ هذا الباب وإلى الأبد، وقلتُ لهن: "رحلت زوجتي وعوّضني الله بثلاث". باختصار؛ زوجتي أحيتني ثم ماتت؛ حوّلتني من "داشر" إلى رب أسرةٍ جامعيٍ ومحل تقدير كل من حولي في عملي.

 

أحبتي في الله.. صدق رسولنا الكريم، صلى الله عليه وسلم، حيث قال: [الدُّنْيَا مَتَاعٌ، وَخَيْرُ مَتَاعِ الدُّنْيَا المَرْأَةُ الصَّالِحَةُ]، وفي روايةٍ: [إنَّما الدُّنيا متاعٌ ولَيسَ مِن متاعِ الدُّنيا شَيءٌ أفضلَ منَ المرأةِ الصَّالِحةِ].

إنها المرأة الصالحة (خير متاع الدنيا) يقول العُلماء عنها: هي قُرة عينٍ لزوجها، يغض بها بصره؛ فيجد نوراً في قلبه يُبصر به ما لا تراه عيناه، ويجد لذةً في إيمانه لا تُعادلها لذةٌ، وتُحصِّن له فرجه، فيقفل أبواب الشر ويفتح أبواب الخير، يقفل أبواب الحرام ويفتح أبواب الحلال، ويترك الوزر ويكسب الأجر، يقول تعالى عن عباد الرحمن: ﴿وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا﴾.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: [أربعٌ من السعادةِ: المرأةُ الصالحةُ، والمسكنُ الواسعُ، والجارُ الصالحُ، والمركبُ الهنيءُ. وأربعٌ من الشَّقاءِ: الجارُ السوءُ، والمرأةُ السوءُ، والمركبُ السوءُ، والمسكنُ الضَّيِّقُ].

والمرأة الصالحة حسنة الدنيا، يقول تعالى: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾. وحسنة الدنيا هي المرأة الصالحة؛ أحسن الله بها لزوجها؛ فهي سبب حسنات النهار له؛ إذ تُذكره بالله تعالى؛ ليكون ذاكراً، وتحثه على الصلاة في المسجد جماعةً؛ ليكون مُصلياً، وتحثه على الصدقة؛ ليكون مُتصدقاً، وتحثه على الصيام وتوقظه في الليل؛ ليكون مُتهجداً فإن أبى نضحت في وجهه الماء.

والمرأة الصالحة خير مالٍ يُتخذ؛ فعندما نزل قول الله سبحانه وتعالى في الذهب والفضة: ﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾، سأل الصحابة: فأيُّ مالٍ نتخذ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لِيَتَّخِذْ أحدُكم قلبًا شاكرًا، ولسانًا ذاكِرًا، وزوجةً مؤمنةً تُعِينُهُ علَى أمرِ الآخرَةِ].

والمرأة الصالحة سكَنٌ لزوجها ومودةٌ ورحمةٌ؛ يقول تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾.

والمرأة الصالحة هي التي لا تخرج من بيت زوجها إلا بإذنه؛ لأنها تعلم أن وظيفتها ومسئوليتها في بيتها؛ قال النبي عليه الصلاة والسلام: [...والمرأةُ راعيةٌ على بيتِ بَعْلِها وولدِه وهي مسؤولةٌ عنهم].

والمرأة الصالحة هي الودود التي تتودد لزوجها، وتلين له في الكلام، وتخفض له الجناح، وتتجنب ما يُبغضه، وتسعى لما يُرضيه؛ فهي -كما وصفها بعضهم- ألين من الزُبد وأحلى من العسل.

والمرأة الصالحة هي الولود التي تُكثر الإنجاب؛ لتكثير الأُمَّة طلباً للأجر وسعياً للإصلاح، ورغبةً في دوام الثواب؛ إذ لا ينقطع العمل بوجود الولد الصالح الذي يدعو لوالديه. وقد قال عليه الصلاة والسلام: [تزوَّجوا الوَدودَ الولودَ فإنِّي مُكاثرٌ بِكُمُ الأُممَ].

والمرأة الصالحة التي هي (خير متاع الدنيا) هي التي إذا غضب زوجها كانت حريصةً على رضاه؛ قال النبي عليه الصلاة والسلام: [...نِساؤُكُمْ من أهلِ الجنةِ الوَدُودُ الوَلودُ العؤودُ على زوجِها، التي إذا غَضِبَ جاءتْ حتى تَضَعَ يَدَها في يَدِ زَوْجِها، وتقولُ: لا أَذُوقُ غَمْضًا حتى تَرْضَى]. {"العَؤُودُ على زَوْجِها" أي: التي تَعُودُ على زَوْجِها بِالنَّفْعِ. "لا أَذُوقُ غَمْضًا حتى تَرْضَى" أي: لا أَذوقُ نَوْمًا حَزَنًا وقَلَقًا على غَضَبِكَ علَيَّ حتى تَرْضى عنِّي}.

والمرأة الصالحة سعادةٌ لزوجها في الآخرة؛ يقول تعالى: ﴿رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾.

 

وعن المرأة الصالحة التي هي (خير متاع الدنيا) قال النبي عليه الصلاة والسلام: [خيرُ النِّساءِ امرأةٌ إذا نظرتَ إليها سرَّتكَ، وإذا أمرتَها أطاعتْكَ، وإذا غِبتَ عنها حفِظتْكَ في نفسِها ومالِكَ]. يقول شارحو هذا الحديث إن المرأة الصالحة هي التي إذا نظر إليها زوجها سرته؛ فلا ينظر إلى سواها، وهي سُروره الذي يُخفف آلامه وهُمومه وغُمومه ويُزيل أحزانه؛ إذ تُدخل السرور عليه، وتُذهب الهموم.

والمرأة الصالحة هي التي إذا أمرها زوجها أطاعته؛ لأن القوامة له عليها؛ يقول تعالى: ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ﴾، ولأن له عليها درجة؛ يقول تعالى: ﴿وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ﴾. وطاعة المرأة لزوجها من مُوجبات الجنة؛ قال النبي عليه الصلاة والسلام: [إذا صلَّتِ المرأةُ خَمْسَها، وصامَت شهرَها، وحصَّنَتْ فرجَها، وأطاعَت زوجَها، قيلَ لها: ادخُلي الجنَّةَ مِن أيِّ أبوابِ الجنَّةِ شِئتِ].

والمرأة الصالحة هي التي إذا غاب عنها زوجها حفظته في نفسها، فلا تنظر إلى الرجال الأجانب؛ لأن الله أمرها بغضِّ بصرها؛ فقال تعالى: ﴿وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ﴾.

والمرأة الصالحة هي التي تحفظ زوجها في ماله؛ فلا تُبذر بماله؛ لأنها تعلم ﴿إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا﴾، ولا تُسرف فيه، لأنها تعلم أن ربها نهى عن الإسراف، وأنه لا يحب المسرفين؛ إذ يقول: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾.

 

قال الشاعر:

أفضل ما نال الفتى    بعد الهُدى والعافية

قرينةٌ مُسلمةٌ                عفيفةٌ مواتية

 

أحبتي.. إن كانت هذه هي أهم صفات المرأة الصالحة، التي هي (خير متاع الدنيا) فأول درسٍ نتعلمه هو أن على كل امرأةٍ من نساء المسلمين أن تسعى إلى إكمال هذه الصفات في نفسها، فلا يوجد إنسانٌ كامل. ولتهتم نساؤنا بتربية بناتهن تربيةً إسلاميةً صحيحةً لتنشأن مُتمسكاتٍ بهذه الصفات، التي هي صفات الكمال. ولينظر كل رجلٍ: أباً أو أخاً أو ابناً أو زوجاً في صفات الرجل الصالح، ويتمثلها في سلوكه وعلاقاته ليكون مُستحقاً للفوز بالمرأة الصالحة ابنةً أو أختاً أو أُماً أو زوجةً؛ فالجزاء من جنس العمل.

درسٌ آخر علينا أن نتعلمه؛ هو أن كل إنسانٍ قابلٍ للتغيير إذا ما وجد من يُساعده بإخلاص، فلنُخلص نوايانا نحو كل "داشرٍ"، وندعو له بالهداية ونأخذ بيديه بمحبةٍ وودٍ ورغبةٍ صادقةٍ في الإصلاح فيكون التوفيق من الله؛ يقول تعالى: ﴿إِن يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا﴾. ودرسٌ ثالثٌ مهمٌ هو أن العبرة بالخواتيم، فلا نتسرع ونتعجل ونُصدر أحكاماً قاسيةً على الآخرين؛ فربما اهتدوا وتغيروا بعد حينٍ وصاروا مثالاً ونموذجاً يُحتذى به.

اللهم اهدنا واهدِ بنا، واجعلنا سبباً لمن اهتدى.

 

https://bit.ly/3VnESDW