الجمعة، 30 ديسمبر 2022

اليأس من رحمة الله

 

خاطرة الجمعة /376


الجمعة 30 ديسمبر 2022م

(اليأس من رحمة الله)

 

هذه قصةٌ مُختصرةٌ لتوبة شابٍ ملحدٍ، يقول كاتبها: عشتُ في ظلال سورة النمل مع قصة سبأ وملكتهم عابدة الشمس من دون الله هي وقومها. ورغم عُمر ملكتهم الطويل في الكُفر إلا أن آيات قصتها انتهت بقوله تعالى: ﴿قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾، هزتني خاتمة القصة؛ فرغم كُفر المرأة طوال عمرها، وإعانتها قومها على الكُفر إلا أن الله تعالى اكتفى منها بالاعتذار، وإبداء الندم على ما فات: ﴿ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ﴾. اختصارٌ بديعٌ من ربٍ رحيمٍ، ليُسر الهداية، وحُبه سُبحانه للتوبة وأصحابها، بدليل قبوله سُبحانه الاعتذار اليسير رغم الذنب الكبير، كأن الرسالة التي تكمن خلف هذه القصة: "حتى وإن كنتَ بكُفر ملكة سبأ يكفينا منك الاعتراف والاعتذار مع الإسلام!!". أبكتني والله الخاتمة؛ فربٌّ يقبل الاعتذار مع عظيم الجُرم وقبيحه، ما أكرمه!!

قلتُ ذلك لشابٍ ولغ في الإجرام حتى الإلحاد، وكان يعيش في بلاد الكُفر، أغرته الفواحش حتى انسلخ من الدين بُغية التحلل من قيود الحلال والحرام، ولما آنستُ من نفسه لحظة سكون بعد طول اضطرابٍ، قال لي فيها مقولة العاصي السابق للنبي صلى الله عليه وسلم: "وغَدَراتي وفَجَراتي؟!"، قلتُ: "يغفرها الله إن تبتَ"، قال: "لو علمتَ قبيح ما صنعتُ؟!"، قلتُ: "لو لم يُرد بك خيراً ما أبقاك حتى هداك!!". ولا زلتُ من يومها أتذكر هزيز صدره وأزيزه وهو يحتضنني بعد هذه الكلمات.

 

أحبتي في الله.. يقول الكاتب: الشباب الوالغ الآن في المعاصي يحتاج إلى مد حبال الأمل في الله أكثر من ذي قبل، سيما وقد بدأت تخرج من أفواههم مقولةٌ ألقاها الشيطان على قلوبهم وألسنتهم، تُكَرِّس (اليأس من رحمة الله): "ما حصل قد حصل، ولن أنجو أبداً من النار!!" وما درى المساكين أن رحمة الله أوسع من ذنوبهم مهما بلغت؛ انظر إلى رحمته وهي تتدارك أنطوني جيرارد فلو صاحب الثلاثين مؤلفاً في الإلحاد، وفيلسوف بريطانيا الأول في فلسفة الأديان، والذي ألحد بسببه خلقٌ كثيرٌ، ثم إذا برحمة الله تُدركه حين تاب، وقد بلغ التسعين من عمره. وهذا قيسٌ بن عاصم التميمي، أول من وأد البنات في الجاهلية، حتى وصل عدد من وأدهن من بناته ثماني بناتٍ، غير أن الله مدّ في عُمره حتى قدم على النبي مُسلماً مُبايعاً رضوان الله عليه. والمواقف في ذلك أكثر من أن تُحصى. تفكرتُ في سبب هداية أمثال هؤلاء بعد طول المسافة مع الكُفر أو المعصية فوجدتُ أنها بُقعة النور أو الخير المرتكزة في القلب، والتي ربما تُغطيها تلال الحواجز، لكنها فور انكشافها تحدث الهدايات.

 

وهل من هدايةٍ وتوبةٍ من الله الحليم الرحيم الغفور التواب أكثر من هداية رجلٍ تَمَلَّكَه (اليأس من رحمة الله) بعد أن قتل مائة نفسٍ؟ قال نبي الله صلى الله عليه وسلم: [كانَ فِيمَن كانَ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ قَتَلَ تِسْعَةً وتِسْعِينَ نَفْسًا، فَسَأَلَ عن أعْلَمِ أهْلِ الأرْضِ فَدُلَّ علَى راهِبٍ، فأتاهُ فقالَ: إنَّه قَتَلَ تِسْعَةً وتِسْعِينَ نَفْسًا، فَهلْ له مِن تَوْبَةٍ؟ فقالَ: لا، فَقَتَلَهُ، فَكَمَّلَ به مِئَةً، ثُمَّ سَأَلَ عن أعْلَمِ أهْلِ الأرْضِ فَدُلَّ علَى رَجُلٍ عالِمٍ، فقالَ: إنَّه قَتَلَ مِئَةَ نَفْسٍ، فَهلْ له مِن تَوْبَةٍ؟ فقالَ: نَعَمْ، ومَن يَحُولُ بيْنَهُ وبيْنَ التَّوْبَةِ؟ انْطَلِقْ إلى أرْضِ كَذا وكَذا، فإنَّ بها أُناسًا يَعْبُدُونَ اللَّهَ فاعْبُدِ اللَّهَ معهُمْ، ولا تَرْجِعْ إلى أرْضِكَ، فإنَّها أرْضُ سَوْءٍ، فانْطَلَقَ حتَّى إذا نَصَفَ الطَّرِيقَ أتاهُ المَوْتُ، فاخْتَصَمَتْ فيه مَلائِكَةُ الرَّحْمَةِ ومَلائِكَةُ العَذابِ، فقالَتْ مَلائِكَةُ الرَّحْمَةِ: جاءَ تائِبًا مُقْبِلًا بقَلْبِهِ إلى اللهِ، وقالَتْ مَلائِكَةُ العَذابِ: إنَّه لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ، فأتاهُمْ مَلَكٌ في صُورَةِ آدَمِيٍّ، فَجَعَلُوهُ بيْنَهُمْ، فقالَ: قِيسُوا ما بيْنَ الأرْضَيْنِ، فَإِلَى أيَّتِهِما كانَ أدْنَى فَهو له، فَقاسُوهُ فَوَجَدُوهُ أدْنَى إلى الأرْضِ الَّتي أرادَ، فَقَبَضَتْهُ مَلائِكَةُ الرَّحْمَةِ].

 

وعن النهي عن اليأس والقنوط من رحمة الله يقول تعالى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾. ويقول سُبحانه: ﴿وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ﴾. ويقول على لسان نبيه يعقوب عليه السلام وهو يُخاطب أبناءه: ﴿وَلَا تَيْئَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾.

 

وهذا نبينا صلى الله عليه وسلم يُبين لنا كرم المولى سُبحانه وتعالى مع من يُكرر الذنب ويُكرر التوبة؛ فيَحْكِي عَنْ رَبّهِ عَزّ وَجَلّ، قَالَ: [أَذْنَبَ عَبْدٌ ذَنْباً. فَقَالَ: اللّهُمّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي. فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَىَ: أَذْنَبَ عَبْدِي ذَنْباً، فَعَلِمَ أَنّ لَهُ رَبّا يَغْفِرُ الذّنْبَ، وَيَأْخُذَ بِالذّنْبِ. ثُمّ عَادَ فَأَذْنَبَ. فَقَالَ: أَيْ رَبّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي. فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَىَ: عَبْدِي أَذْنَبَ ذَنْباً. فَعَلِمَ أَنّ لَهُ رَبّا يَغْفِرُ الذّنْبَ، وَيَأْخُذُ بِالذّنْبِ. ثُمّ عَادَ فَأَذْنَبَ فَقَالَ: أَيْ رَبّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي. فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَىَ أَذْنَبَ عَبْدِي ذَنْبَاً، فَعَلِمَ أَنّ لَهُ رَبّا يَغْفِرُ الذّنْبَ، وَيَأْخُذُ بِالذّنْبِ، اعْمَلْ مَا شِئْتَ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكَ]. ويوضح عليه الصلاة والسلام أن الله عزَّ وجلَّ يغفر الذنوب جميعاً إلا الشرك به؛ فيَحْكِي عَنْ رَبّهِ عَزّ وَجَل، قال: [قالَ اللَّهُ تبارَكَ وتعالى يا ابنَ آدمَ إنَّكَ ما دعوتَني ورجوتَني غفَرتُ لَكَ على ما كانَ فيكَ ولا أبالي، يا ابنَ آدمَ لو بلغت ذنوبُكَ عَنانَ السَّماءِ ثمَّ استغفرتَني غفرتُ لَكَ، ولا أبالي، يا ابنَ آدمَ إنَّكَ لو أتيتَني بقرابِ الأرضِ خطايا ثمَّ لقيتَني لا تشرِكُ بي شيئًا لأتيتُكَ بقرابِها مغفرةً]. ويُبين لنا النبي صلى الله عليه وسلم فرحة الله سُبحانه وتعالى بتوبة العاصي: [لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ، مِن أَحَدِكُمْ كانَ علَى رَاحِلَتِهِ بِأَرْضِ فلاةٍ، فَانْفَلَتَتْ منه وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فأيِسَ منها، فأتَى شَجَرَةً، فَاضْطَجَعَ في ظِلِّهَا، قدْ أَيِسَ مِن رَاحِلَتِهِ، فَبيْنَا هو كَذلكَ إِذَا هو بِهَا، قَائِمَةً عِنْدَهُ، فأخَذَ بِخِطَامِهَا، ثُمَّ قالَ مِن شِدَّةِ الفَرَحِ: اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ، أَخْطَأَ مِن شِدَّةِ الفَرَحِ]. وقال عليه الصلاة والسلام موضحاً أهمية الاستغفار: [وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ، وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ، فَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ، فَيَغْفِرُ لهمْ].

 

ويرى العلماء أن (اليأس من رحمة الله) كبيرةٌ من الكبائر، وأنه صفةٌ من صفات الكُفار، ولا يلزم من الاتصاف بصفةٍ من صفات الكفار أن يكون المرء كافراً بما في الكلمة من معنى، بل هو فاسقٌ، وإن أدى به الحال إلى إنكار سعة رحمة الله كان كافراً والعياذ بالله. ومع عِظم الذنب إلا أن الله تعالى قد فتح باب التوبة لمن رغب بالرجوع عن ذنبه، وأراد أن يتوب ويستغفر، ولا ينبغي له أن يستبعد عفو الله تعالى ومغفرته، وودَّ الشيطان لو ظفر بهذا من العاصي. يجب على العاصي -مهما بلغت ذنوبه- أن يندم وأن يؤرقه ذنبه، لكن لا ينبغي أن يجعل بينه وبين الله تعالى حائلاً يمنعه من التوبة والاستغفار؛ فإن الله تعالى لا يتعاظمه ذنبٌ أن يغفره، فرحمته وسعت كل شيءٍ؛ ومن أجل ذلك فالإنابة إلى الله تعالى مطلوبةٌ، وباب التوبة إليه من الذنوب جميعاً مفتوحٌ للعبد ما لم يُغرغِر {أي: ما لم تبلُغْ رُوحُه حُلْقومَه، وهو يُشرف على الموت}. فلا ينبغي للمُسلم مهما بلغت ذنوبه أن ييأس ويقنط ويسيء الظن بالله ويتخيل أن الله لن يغفر له؛ فالله -سُبحانه وتعالى- ﴿يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾، وما خلقنا ليعذبنا، بل إنه ﴿رَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ غفارٌ للذنوب، والمُسلم الواعي هو من يتخذ السقوط في المعصية بدايةَ علاقةٍ جديدةٍ، وقُرباً من الله قبل أن يتحكم فيه اليأس والقنوط من رحمة الله، فلا ييأس من رحمته ولا يقنط من روحه فإنه سُبحانه ﴿غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾، وهو سُبحانه بَرٌ بعباده لطيفٌ بهم. أما القنوط فهو من وسوسة الشيطان يُزين هذا المُنكر العظيم ويوهم العاصي أنه من أهل النار ولا بد، وليس الأمر كذلك إن شاء الله، بل الواجب على المؤمن فعله إن هو عصى الله أن يُجدد التوبة، ويُتبع ذلك بحسناتٍ كثيرةٍ حتى تُذهب أثر هذه المعاصي؛ فإن الله تعالى يقول: ﴿إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ﴾. ويقول صلى الله عليه وسلم: [وأتبِعِ السَّيِّئةَ الحسَنةَ تَمْحُهَا].

 

أحبتي.. يظن البعض أن لا توبة لمن يُكرر الذنب، وهذا من تزيين الشيطان؛ ليزيد من يأس وقنوط الإنسان، فيبدأ -كما يقول أحد العارفين- بالانسحاب من تأدية الفرائض، وبالتالي يتخاذل عن أعمال الخير، ظناً منه أنه لا توبة له، وأنَّه مطرودٌ من رحمة الله. والصحيح أن كل عاصٍ عليه المُسارعة إلى التوبة، والندم على ما فعل، والإكثار من الأعمال الصالحة، والحرص على أن يكون حاله بعد التوبة خيراً من حاله قبل ارتكاب المعاصي، والله تعالى يتوب على من تاب؛ فباب التوبة مفتوحٌ ما دامت الروح في الجسد، فإن عاد العاصي وفعل المعصية فليكرر التوبة، فلا يزال الله يغفر له ما دام يُذنب ويتوب، مهما تكرر ذلك منه.

أما الدُعاة والوعاظ والمربون فمُطالَبون بتوسم الخير، ومظنة وجود النية الصادقة المُخلصة لتوبةٍ نصوحٍ في نفوس العاصين، فيدعونهم برفقٍ ولينٍ وسعة صدرٍ، وهذا من الحكمة والموعظة الحسنة؛ امتثالاً لقوله تعالى: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾، وتأسياً بسُنة النبي صلى الله عليه وسلم إذ قال: [إِنَّما بُعِثْتُم مُيَسِّرينَ ولَمْ تُبْعَثوا مُعَسِّريْنَ].

اللهم اجعلنا من المهتدين، ومن الهادين المبشرين غير المنفرين، نستغفرك اللهم ونتوب إليك.

 

https://bit.ly/3GtjRD4