الجمعة، 16 ديسمبر 2022

العطاء المُدهش

 

خاطرة الجمعة /374


الجمعة 16 ديسمبر 2022م

(العطاء المُدهش)

كتبت تقول: كنتُ كلما مررتُ بذاك الشارع المجاور للجامعة -أثناء تحضير رسالة الماجستير- وجدتُ نفس الفتاة تجلس وقد وضعتْ أمامها بعض أكياس المناديل، بينما انشغلت هي بالكتابة في أوراقٍ بيدها، لم أهتم في البداية، ومرةً بعد مرةٍ زادني الأمر فضولًا تُرى ماذا تكتب؟! وقفتُ لأشتري منها مناديل وسألتها: "ماذا تفعلين؟"، أجابت دون أن تنظر إليّ: "أحاول إنهاء الواجب المدرسي قبل عودة أمي"، سألتها: "وأين أمك!؟"، قالت: "في أحد البيوت المُجاورة تمسح السلالم"، سألتها: "هل تذهبين الى المدرسة!؟"، أجابت: "نعم؛ فبعد وفاة أبي أصرّت أمي على أن ندرس"، سألتها: "هل لديكِ أخوات!؟"، قالت: "نعم؛ ثلاثٌ من الإناث، واثنان من الذكور"، سألتها: "أين هم!؟"، أجابت: "أُختي الكُبرى تجلس مع الصغار وتُعد أعمال المنزل ريثما نعود في آخر النهار، بينما يعمل أخي سالم في إحدى ورش السيارات، ويعمل إبراهيم في مسح السيارات". استكملتُ الحديث معها، وحاولتُ أن أعطيها المزيد من النقود لكنها لم تقبل أبداً، لكن عرفتُ من حديثها أنها تدرس في مدرسة الحي في الصف الثالث الابتدائي.

في اليوم التالي ذهبتُ إلى المدرسة، وسألتُ عنها، رأيتها تجلس وحدها ليس لديها أي أصدقاء؛ إذ ينفر الجميع منها؛ فملابسها تبدو قديمةً، ولا تملك أي مصروفٍ شخصيٍ كزميلاتها، على الرغم من كونها متميزةً جداً وذكيةً في دراستها. أحزنني ذلك كثيراً؛ فقدمتُ إلى مديرة المدرسة بعض المال وطلبتُ منها أن تُكرِّم هذه الفتاة في اليوم التالي باعتبارها طالبةً مثاليةً، وتُقدم لها هديةً تشمل بعض الدفاتر والأقلام وما ينقصها في دراستها مع ثوبٍ جديدٍ، وذلك لعفة نفسها وعدم تقبلها الصدقة من أي شخص. لم تُمانع المديرة في ذلك، كما أنها أمدتني أيضاً بعنوان الفتاة كما طلبتُ منها.

عدتُ يومها إلى منزلي وبداخلي إحساسٌ كبيرٌ بالراحة لشعوري أن الفتاة ستفرح كثيراً بذلك. وبينما نتناول العشاء، لم يكن زوجي على ما يُرام، حاولتُ أن أعرف ماذا يُحزنه، لكنه لم يتحدث، توقعتُ أن يكون واحداً من أهله حدَّثه بشأن الإنجاب -الذي تأخر أربعة أعوام - ولا يُريد أن يُخبرني كيلا أحزن. في اليوم التالي، وقبل ذهابي إلى الجامعة ذهبتُ إلى منزل الفتاة، وأخبرتُ والدتها بأني سأُقدم لها في كل شهرٍ مبلغاً من المال لأجل دراسة ابنتها، مع تأكيدي لها أن هذه جائزةٌ من المدرسة لكونها طالبةً مثاليةً، فرحتْ الأم كثيراً بهذه المنحة، وظللتُ أنا على وعدي طوال سنواتٍ عديدةٍ.

عشنا -أنا وزوجي- تلك السنوات في سعادةٍ كبيرةٍ نتمتع بكثيرٍ من (العطاء المُدهش) يأتي إلينا الخير من كل بابٍ نقصده؛ أنجبتُ اثنين من الإناث ومثلهما من الذُكور، حصلتُ على الماجستير وتبعته بالدكتوراه، ترقى زوجي في عمله مراتٍ مُتكررةٍ، تبدلت حياتنا كثيراً، ولم يكن زوجي يعلم السبب في ذلك، بينما كنتُ أنا أعلم أن سبب ذلك هو الصدقة التي كنتُ أقدمها إلى هذه الفتاة، وكنتُ كلما تحسنت أوضاعنا قدمتُ إليها المزيد، إنه عطاءٌ من الله سُبحانه وتعالى، إنه (العطاء المُدهش) الذي لم أكن أنا وزوجي نتوقعه.

اليوم أرى هذه الفتاة تجلس بين طلابي في كلية الطب، تُعد أكثرهم تفوقاً وتميزاً، لا تعلم أني معها منذ طفولتها، ولا تعلم أنها سر كل ما أنعم علينا به المولى عزَّ وجلَّ.

 

أحبتي في الله.. عن (العطاء المُدهش) حدث هذا الموقف الغريب؛ ففي برنامجٍ تلفزيونيٍ عرض المُذيع حالة مريضٍ يحتاج إلى جراحةٍ مستعجلةٍ تكلف 150 ألف دولار، وبدأ الناس في التجاوب بالاتصال والتبرع، وكان منهم شخصٌ أعلن تبرعه بدولارين! سأله المُذيع لماذا دولاران؟ أجابه: "هي نصف ما أملك؛ فأنا عاطلٌ عن العمل، وعملاً بما يُمليه عليّ ديني؛ الجود بالقليل أفضل من عدمه، والصدقة تُطفئ غضب الرب". كانت المُفاجأة أن أعلن المُتصل التالي تبرعه ب 8 آلاف دولار؛ منها 4 آلاف للمريض، و4 آلاف للمُتبرع بدولارين. واندفع بعده المتصلون؛ فاتصل آخر وتبرع ب 10 آلاف دولار منها 5 آلاف للمريض، و5 آلاف للشاب المُتبرع بدولارين. وهكذا كل من اتصل تبرع للاثنين معاً، وفي نهاية الحلقة اكتمل المبلغ للمريض، وجُمع مبلغٌ ضخمٌ للشاب. وفي حلقةٍ أخرى استضاف المُذيع هذا الشاب المُتبرع بدولارين، وسلمه المال، وجعله يحكي عن عدم حصوله على عملٍ رغم مؤهلاته، وفي الحلقة ذاتها جاءته عشرات الاتصالات من شركاتٍ تعرض عليه العمل ليختار أفضلها.

 

يقول تعالى: ﴿وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾. يقول المفسرون لهذه الآية إنه في قوله تعالى: ﴿مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾ قد جاء ب "مِنْ" الدالة على التبعيض، ولم يقل "أنفقوا ما رزقناكم"، للدلالة على أن الإنفاق إنما يكون في قسمٍ من المال ولا يشمل المالَ كله، فتستسهلُ النفوسُ التخلي عن قسمٍ من المال، استجابةً لأمر ربها. وأسند الرزق إلى نفسه فقال: ﴿رَزَقْنَاكُمْ﴾ للدلالة على أن هذا المال إنما هو من رزق الله سُبحانه، مَلّكه عبادَهُ، فتطيب النفوس لإخراج بعض ما رزقهم الله، استجابةً لأمرِ الله الرازق، وهذا التعبير اللطيف مَدعاةٌ إلى الخروج عن الشُح والاستجابة لأمر الله. وقال تعالى: ﴿لَوْلَا أَخَّرْتَنِي﴾، ولم يقل: "لو أخرتني" لأن "لولا" أَشَدُّ في الطلب من "لو"، وقائلها أكثر إلحاحاً من قائل "لو"؛ فإن "لو" تكون للطلب برفقٍ، وأما لولا فتكون للطلب بشدةٍ وحَثٍّ. ثم إنه طلب مُهلةً قصيرةً لإصلاح حاله، مع أنه كان يتقلب في الأرض من دون أدنى تفكيرٍ أو اهتمامٍ بمآله في الآخرة، أو بالأوقات التي يُضيعها هدراً من دون اكتراثٍ، فقال: ﴿إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ﴾، ولم يقل: "إلى أجل" فيحتمل القريب والبعيد، فطلبَ مُهلةً قصيرةً وأجلاً قريباً لتداركِ ما فات. ثم قال: ﴿فَأَصَّدَّقَ﴾ وبها تضعيفان: أحدهما في الصاد والآخر في الدال، ويدل هذا على المُبالغة والتكثير، فدلّ بذلك أنه أراد أجلاً قريباً ليُكثر من الصدقة ويُبالغ فيها. أما لماذا يختار الميت "الصدقة" لو رُجع للدنيا؛ فيقول أهل العلم: ما ذكر الميت الصدقة إلا لعظيم ما رأى من أثرها بعد موته.

 

ومن أقوال النبي صلى الله عليه وسلم عن الصدقة؛ فيما يروي عن ربه، تبارك وتعالى: [أنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ]، كما قالَ: [يَدُ اللَّهِ مَلْأَى، لا تَغِيضُها نَفَقَةٌ]. وقال عليه الصلاة والسلام: [إِذَا مَاتَ الإنْسَانُ انْقَطَعَ عنْه عَمَلُهُ إِلَّا مِن ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِن صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو له]. والحديث دليلٌ على أنه ينقطع أجر كل عملٍ بعد الموت، إلا هذه الثلاثة فإنه يجري ثوابها بعد الموت لدوام نفعها؛ الأولى: الصدقة الجارية، كالوقف ونحوه. الثانية: علمٌ يُنتفع به كالتعليم والتصنيف {أي ما صُنِّف وأُلِّف من الكُتب}. الثالثة: دعاء الولد الصالح. وقال صلى الله عليه وسلم قال: [الصدقةُ على المسكينِ صدقةٌ، وعلى ذي الرَّحِمِ ثِنْتَانِ: صدقةٌ وصِلَةٌ]. وقال أيضاً: [صَدَقةُ السِّرِّ تُطفِئُ غضبَ الرَّبِّ]. وقال كذلك: [اتَّقُوا النَّارَ ولو بشِقَّةِ تَمْرَةٍ، فمَن لَمْ يَجِدْ شِقَّةَ تَمْرَةٍ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ]. وعن منزلة المُتصدقين؛ قال عليه الصلاة والسلام: [إنَّما الدُّنيا لأربعةِ نفرٍ عبدٍ رزقَهُ اللَّهُ مالًا وعلمًا فَهوَ يتَّقي ربَّهُ فيهِ ويصلُ فيهِ رحمَهُ ويعلمُ للَّهِ فيهِ حقًّا، فَهذا بأفضلِ المنازلِ].

أحبتي.. الصدقة تأتي من القلب قبل أن تخرج من اليد، وهي سببٌ في (العطاء المُدهش) من الله عزَّ وجلَّ؛ نِعمٌ كثيرةٌ في الدنيا، وثوابٌ عظيمٌ في الآخرة، لمجرد أننا ننفق من أموالٍ ليست أموالنا، بل هي أموالٌ رزقنا الله بها، ومع ذلك إذا أنفقناها في زكواتٍ وصدقاتٍ أثابنا وأعلى منزلتنا، إنه حقاً ربٌ كريمٌ، بل هو أكرم الأكرمين؛ فلنُكثر من الصدقة التي نستظل بها يوم القيامة؛ كما قال الحبيب المصطفى: [كلُّ امرئٍ في ظِلِّ صَدَقَتِه حتى يُقْضَى بين الناسِ]. وليجعَلْ كلُّ واحدٍ منا بينه وبين النَّار حاجزاً، ولو أن يتصدَّقَ بأقل القليل، وهل أقل من نصف تمرة؟!

لن ينسى الله خيراً قدمته، وهماً فرّجته، ومساكين أسعدتهم. أرخِ يدك بالصدقة تُرخَ حبال الغم والهُموم من على عاتقك، وتكُن من أحب الناس إلى الله سُبحانه وتعالى؛ قال صلى الله عليه وسلم: [أَحَبُّ الناسِ إلى اللهِ أنفعُهم للناسِ، وأَحَبُّ الأعمالِ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ سرورٌ تُدخِلُه على مسلمٍ، تَكشِفُ عنه كُربةً، أو تقضِي عنه دَيْنًا، أو تَطرُدُ عنه جوعًا]، واعلم أن حاجتك إلى الصدقة أشد من حاجة من تتصدق عليه. واعلم أنّ للصدقة في أيام الحاجة شأناً كبيراً؛ فإنها كلما كانت أنفع للخلق وأخلص للرب كانت أفضل وأعظم أجراً.

اللهم اجعلنا من المُتصدقين.

https://bit.ly/3PvmSG6