الجمعة، 20 مايو 2022

حُسن الخاتمة

 

خاطرة الجمعة /344


الجمعة 20 مايو 2022م

(حُسن الخاتمة)

 

تم تعيين أحد أبنائها -قبل أسبوعٍ من وفاتها- في وظيفةٍ جديدةٍ فأبت عليه إلا أن يبدأ بعُمرةٍ قبل أن يُباشر وظيفته، وطلبت أن تصحبه وكان لها ذلك. رأت قبل رحلتها للعُمرة بأيامٍ رؤيا فأخبرت ابنتها أنها رأت رؤيا خيرٍ، وأن رؤياها إنْ صدقت فستعرفونها بعد أيامٍ قليلة، ولم تُخبرها شيئاً. ألقت قبل وفاتها بخمسة أيامٍ درساً عن الموت، وتحدثت فيه عن العزاء وأحكامه والبدع التي أحدثها الناس في العزاء، بحضور قريباتها، وكأنما شعرت باقتراب أجلها. وتذكر ابنتها أنّ لأمها مصلىً خاصاً فيه سجادةٌ لا تكاد تُطوى، وقبل سفرها مع ابنها للعُمرة طوت سجادتها -على خلاف العادة- ولما استغربت ابنتها من ذلك، ألحت الأم بأن ترفع سجادتها.

ولما همت بالخروج إلى المطار ودّعت أبناءها وزوجها ورفعت يديها إلى السماء ودعت لزوجها وأكثرت وهي تقول: "جزاكَ الله عني خير الجزاء؛ فقد يسّرتَ لي أن أدعو لربي، ولا حرمكَ الله أجري حيث لم تحرمني من الدعوة في سبيل الله"، وألحت بالدعاء ربع ساعةٍ وهو يسمعها. وصلت مع ابنها وابنتها إلى المسجد الحرام في الثُلث الأخير من الليل، وطافوا، وكانت تُلح بالدعاء أن تأتيها منيتها في هذا المكان الطاهر. وشرعوا بعد ذلك في السعي، وفي مُنتصف السعي نادى مؤذن المسجد الحرام لصلاة الفجر فقالت لابنها وابنتها: "سنُصبح صائمين؛ فاليوم خميس" فأصبح الثلاثة صائمين. ولما صعدت للصفا في بداية الشوط الخامس، وبين الأذان والإقامة في أشرف زمانٍ وأطهر مكانٍ، وهي صائمةٌ، وقد استقبلت القبلة، رفعت يديها داعيةً في بداية الشوط، وابنتها تقف بجانبها، تقول ابنتها: "لم أنتبه إلا ووالدتي قد خرّت ساجدةً لله تعالى، انتظرتها لتقوم من سجدتها؛ فقد ظننتُ أنها وافقت آية سجدةٍ في دُعائها فسجدت، فلما طالت سجدتها نبهتها فلم تنتبه، حاولتُ أن أقيمها فكأنما سعلت مرتين بلطفٍ ثم سقطت على الأرض، جاء الطبيب فكشف عليها سريعاً، وقال لقد فارقت الحياة".. فيا الله ما أحسنها من خاتمة.. في خير أرض الله، وهي صائمةٌ تؤدي مناسك العمرة.

هذه قصة «أم وليد» الداعية المعروفة في «الرياض»، رحمها الله في الحرم، وكانت تدعو الله كثيراً في محاضراتها أن يتوفاها الله تعالى وهي تُلقي درساً أو في بيته الحرام؛ فأجاب الله دعاءها.

 

أحبتي في الله.. عن (حُسن الخاتمة) قال النبي صلى الله عليه وسلم: [إذا أراد اللهُ عزَّ وجلَّ بعبدٍ خيرًا عسَّلهُ، وهل تَدْرونَ ما عسَّلهُ؟]، قالوا: اللهُ عزَّ وجلَّ ورسولُهُ أعلمُ، قال: [يفتَحُ اللهُ عزَّ وجلَّ له عملًا صالحًا بيْنَ يَدَيْ موْتِهِ حتَّى يَرضى عنه جيرانُهُ، أو مَن حوْلَهُ]. وقال عليه الصلاة والسلام في ذات المعنى: [إذا أرادَ اللَّهُ بعبدٍ خيرًا استعملَهُ] فقيلَ: كيفَ يستعملُهُ يا رسولَ اللَّهِ؟ قالَ: [يوفِّقُهُ لعملٍ صالحٍ قبلَ الموتِ].

 

يقول العلماء أن (حُسن الخاتمة) هو أن يوفق العبد قبل موته للبُعد عما يُغضب الله سبحانه وتعالى، وأن يُسارع إلى التوبة من الذنوب والمعاصي، وأن يُقبل على الطاعات وأعمال الخير، ثم يكون موته بعد ذلك على هذه الحال الحسنة.

وقالوا إنّ لحُسن الخاتمة علاماتٍ؛ منها ما يعرفه العبد عند احتضاره، ومنها ما يظهر للناس. أما العلامة التي يظهر بها للعبد حُسن خاتمته فهي ما يُبشَر به عند موته من رضا الله؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ﴾، وهذه البشارة تكون للمؤمنين عند احتضارهم، وفي قبورهم، وعند بعثهم من قبورهم. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [مَن أحَبَّ لِقاءَ اللَّهِ أحَبَّ اللَّهُ لِقاءَهُ، ومَن كَرِهَ لِقاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقاءَهُ] وأوضح ذلك بقوله: [المُؤْمِنُ إذا حَضَرَهُ المَوْتُ بُشِّرَ برِضْوانِ اللَّهِ وكَرامَتِهِ، فليسَ شَيءٌ أحَبَّ إلَيْهِ ممَّا أمامَهُ؛ فأحَبَّ لِقاءَ اللَّهِ، وأَحَبَّ اللَّهُ لِقاءَهُ، وإنَّ الكافِرَ إذا حُضِرَ بُشِّرَ بعَذابِ اللَّهِ وعُقُوبَتِهِ، فليسَ شَيءٌ أكْرَهَ إلَيْهِ ممَّا أمامَهُ؛ كَرِهَ لِقاءَ اللَّهِ، وكَرِهَ اللَّهُ لِقاءَهُ]؛ فالمذموم من ذلك إيثار الدنيا والركون إليها، وكراهية المصير إلى الله والدار الآخرة؛ يقول تعالى عن هؤلاء: ﴿إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ﴾، أما محبة العبد للقاء الله فهي في إيثاره الآخرة على الدنيا؛ فلا يُحب استمرار الإقامة فيها، بل يستعد للارتحال عنها.

ومن علامات (حُسن الخاتمة) النُطق بالشهادتين عند الموت، والموت ليلة الجمعة أو نهارها، والشهادة في سبيل الله، والموت بمرض الطاعون أو بداءٍ قد أصيب بالبطن، أو بالغرق، أو بالهدم، أو بالحرق، وموت المرأة أثناء فترة النفاس، والموت أثناء الدفاع عن النفس أو المال أو الدين، وموت المُرابط في سبيل الله تعالى، والموت أثناء القيام بعملٍ من الأعمال الصالحة التي تُرضي الله.

ويُجمل أهل العلم أسباب (حُسن الخاتمة) في:

الاستقامة؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلاّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ﴾. وحُسن الظن بالله؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [يَقولُ اللَّهُ تَعالَى: أنا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بي]. والتقوى؛ يقول تعالى: ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا﴾. والصدق؛ يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ﴾. والتوبة؛ يقول تعالى: ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾. والمداومة على الطاعات.

 

يقول أحدهم عن (حُسن الخاتمة) ليس المقصود أن تكون داعيةً لله، أو أن تموت وأنت في المسجد أو على سجادة الصلاة، أو تموت والمُصحف بين يديك؛ فقد مات خير البرية جمعاء صلى الله عليه وسلم وهو مُسندٌ على صدر زوجته، ومات الصديق أبو بكر رضي الله عنه -وهو خير الصحابة- على فراشه، وكذلك مات خالد بن الوليد على فراشه وهو المُلقب بسيف الله المسلول والذي خاض مائة معركةٍ لم يخسر أياً منها. أهم ما في (حُسن الخاتمة) أن تموتَ وأنت على الكتاب والسُنة، وأنت بريءٌ من الشرك والنفاق ومن كل بدعةٍ. (حُسن الخاتمة) أن تموتَ وأنت خفيف الحِمل من دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم، مؤدياً حق الله عليك وحق عباده عليك. وأن تموتَ سليم القلب طاهر النوايا حَسِن الأخلاق؛ لا تحمل غلاً ولا حقداً ولا ضغينةً لمسلم. (حُسن الخاتمة) أن تُصلي خمسك في وقتها مع الجماعة -لمن لهم حق الجماعة- وتؤدي ما افترضه الله عليك من زكاةٍ وصومٍ وحجٍ إن استطعتَ إليه سبيلاً، واصلاً رحمك، غير ظالمٍ لأحدٍ، وغير مُعينٍ لظالمٍ، مُحسناً ظنك بالله.

 

ولله دَّرُّ الشاعر حين قال:

يا عالمَ الغيبِ! ذَنْبي أنتَ تَعْرِفُه

وأنتَ تَعْلَمُ إعْلاني وإسْراري

وأنتَ أدْرَى بإيمانٍ مَنَنْتَ بِهِ

عَلَيّ ما خَدَشَتْهُ كُلُ أوْزاري

أحْبَبْتُ لُقْياكَ حُسْنُ الظنَِ يَشْفَعُ لي

أيُرْتَجَى العَفْوُ إلاّ عِندَ غَفَّارِ؟

 

أحبتي.. ليسأل كلٌ منا نفسه: "ماذا فعلتُ حتى أحظى بحُسن الخاتمة؟"، ولتكن إجابتنا عمليةً وفوريةً بغير تأجيلٍ ولا تسويفٍ ولا إبطاءٍ؛ فنُلزم أنفسنا بطاعة الله وتقواه ما استطعنا، ونبتعد عن ارتكاب المُحرمات، ونُبادر إلى التوبة من كل ما يُغضب الله عزَّ وجلَّ، ولنجعل لأنفسنا خبيئةً بيننا وبينه سبحانه وتعالى، كما أنّ علينا أنْ نُلّح في الدعاء أنْ يستعملنا عزَّ وجلَّ ويُعسِّلنا ويتوفانا على الإيمان والتقوى والعمل الصالح.

اللهم أحسِن عاقبتنا في الأمور كلها، واكتب لنا (حُسن الخاتمة) واجمعنا بنبينا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وأجِرْنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.

 

https://bit.ly/3sMJHe4