الجمعة، 24 يوليو 2020

الصبر وقت الشدة/2

الجمعة 24 يوليو 2020م


خاطرة الجمعة /٢٤٩

(الصبر وقت الشدة)

 

قصةٌ حقيقةٌ حدثت في «المملكة العربية السعودية»، يقول كاتب القصة: سافرتُ إلى مدينة «جدة» في مهمةٍ رسميةٍ، وفي الطريق فوجئتُ بحادث سيارةٍ يبدو أنه وقع للتو. كنتُ أول من وصل إليه؛ أوقفتُ سيارتي واندفعتُ مسرعاً إلى السيارة المصطدمة، تحسستها في حذر، نظرتُ إلى داخلها، أحدقتُ النظر، خفقات قلبي تنبض بشدة، ارتعشت يداي، تسمَّرت قدماي، خنقتني العَبرة، ترقرقت عيناي بالدموع ثم أجهشتُ بالبكاء؛ منظرٌ عجيبٌ وصورةٌ تبعث على الشجن، كان قائد السيارة ملقىً على مقودها جثةً هامدةً وقد شخص بصره إلى السماء، رافعاً سبابته، وقد فتر ثغره عن ابتسامةٍ جميلةٍ، وجهه تحيط به لحيةٌ كثيفةٌ، كأنه الشمس في ضحاها والبدر في سناه العجيب. كانت طفلته الصغيرة ملقاةً على ظهره، محيطةً بيديها على عنقه، وقد لفظت أنفاسها وودعت الحياة. لا إله إلا الله، لم أرَ ميتةً كمثل هذه الميتة؛ طهرٌ وسكينةٌ ووقارٌ، صورته وقد أشرقت شمس الاستقامة على محياه، منظر سبابته التي ماتت توحّد الله، جمال ابتسامته التي فارق بها الدنيا، حلّقت بي بعيداً بعيداً، تفكرتُ في هذه الخاتمة الحسنة، ازدحمت الأفكار في رأسي، سؤالٌ يتردد صداه في أعماقي، يطرق بشدة: "كيف سيكون رحيلي؟!! وعلى أي حالٍ ستكون خاتمتي؟!!" يطرق بشدةٍ، يمزّق حجب الغفلة، تنهمر دموع الخشية، ويعلو صوت النحيب، من رآني وقتها ظن أني أعرف الرجل أو أن لي به قرابة؛ فقد كنتُ أبكي بكاء الثكلى، لم أكن أشعر بمن حولي!!

ازداد عجبي حين انساب صوتها يحمل برودة اليقين، لامس سمعي، وردَّني إلى شعوري: "يا أخي لا تبكِ عليه؛ إنه رجلٌ صالحٌ، هيا هيا، أخرجنا من هنا وجزاك الله خيراً"، التفتُ إليها فإذا هي امرأةٌ تجلس في المقعد الخلفي من السيارة، تضم إلى صدرها طفلين صغيرين لم يُمسا بسوءٍ، ولم يصابا بأذى والحمد لله. كانت شامخةً في حجابها شموخ الجبال، هادئةً في مُصابها؛ منذ أن وقع الحادث لا بكاء ولا صياح ولا عويل! أخرجناهم جميعاً من السيارة، من رآني ورآها ظن أني صاحب المصيبة دونها! قالت لنا، وهي تتفقد حجابها وتستكمل حشمتها، في ثباتٍ راضٍ بقضاء الله وقدره: "لو سمحتم أحضروا زوجي وطفلتي إلى أقرب مستشفى، وسارعوا في إجراءات الغُسل والدفن، واحملوني وطفليَّ إلى منزلنا، جزاكم الله خيراً".

بادر بعض المحسنين إلى حمل الرجل وطفلته إلى أقرب مستشفى، ومن ثم إلى أقرب مقبرةٍ بعد إخبار ذويهم، وأما هي فقد عرضنا عليها أن تركب مع أحدنا إلى منزلها، فردّت في حياءٍ وثباتٍ "لا واللهِ، لا أركب إلا في سيارةٍ فيها نساء"، ثم انزوت عنا جانباً وقد أمسكت بطفليها الصغيرين ريثما نجلب بغيتها وتتحقق أمنيتها، استجبنا لرغبتها وأكبرنا موقفها. مرَّ وقتٌ طويلٌ ونحن ننتظر على تلك الحال العصيبة، ونحن في تلك الأرض الخلاء، وهي ثابتةٌ ثبات الجبال. ساعتان كاملتان، حتى مرّت بنا سيارةٌ فيها رجلٌ وأسرته، أوقفناه وأخبرناه خبر هذه المرأة وسألناه أن يحملها إلى منزلها؛ فلم يمانع.

عدتُ إلى سيارتي وأنا أعجبُ من هذا الثبات العظيم؛ ثبات الرجل على دينه واستقامته في آخر لحظات الحياة وأول طريق الآخرة، وثبات المرأة على حجابها وعفافها في أصعب المواقف وأحلك الظروف ثم صبرها صبر الجبال. إنه الإيمان .. ﴿يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذينَ آمَنوا بِالقَولِ الثّابِتِ فِي الحَياةِ الدُّنيا وَفِي الآخِرَةِ﴾.

 

أحبتي في الله .. تأثرتُ كثيراً وأنا أقرأ بدايات هذه القصة، وزاد تأثري عندما حكى لنا القاص عن ثبات تلك المرأة، الذي يدل على (الصبر وقت الشدة)، وتذكرتُ وقتها عندما مرَّ النبيُّ صلى اللهُ عليهِ وسلَّم بامرأةٍ تبكي عند قبرٍ، فقالَ: [اتَّقِي اللهَ، وَاصْبِرِي]، قالت: إِليكَ عنِّي، فإِنكَ لَمْ تُصَب بِمُصيبتِي، -ولمْ تعرفْه-، فقِيلَ لها: إِنَّهُ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّم، فأَتَت بابَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّم، فلَمْ تَجِد عندَهُ بوَّابينَ، فقَالت: لَمْ أَعْرِفْكَ، فَقَالَ: [إِنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الأُولَى].

 

يقول أهل الاختصاص إن الشدائد جزءٌ من طبيعة الحياة البشرية، والتي هي أصلاً اختبارٌ وابتلاءٌ، فكما يكون الابتلاء بالخير والنعم قد يكون بالشر والنقم، يقول تعالى: ﴿وَنَبلوكُم بِالشَّرِّ وَالخَيرِ فِتنَةً﴾، ويقول فيما يصيب الناس من الناس: ﴿وَجَعَلنا بَعضَكُم لِبَعضٍ فِتنَةً أَتَصبِرونَ﴾، ويقول تعالى في شأن الإيمان وما يمكن أن يعرض لأهله من الاختبار: ﴿أَحَسِبَ النّاسُ أَن يُترَكوا أَن يَقولوا آمَنّا وَهُم لا يُفتَنونَ﴾.

فالشدائد ابتلاءٌ زائدٌ إما لتكفير الخطايا ومحو السيئات؛ كما في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: [مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ وَلاَ وَصَبٍ وَلاَ هَمٍّ وَلاَ حَزَن وَلاَ أَذًى وَلاَ غمٍّ، حتَّى الشَّوْكَةُ يُشَاكُها إِلاَّ كفَّر اللَّه بهَا مِنْ خطَايَاه]، أو لرفع الدرجات وزيادة الحسنات؛ كما قال عليه الصلاة والسلام حينما سُئل: أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً؟ قَالَ: [الْأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ، فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ؛ فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَمَا يَبْرَحُ الْبَلَاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ]. وقد تكون عقاباً من الله عزَّ وجلَّ؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إنَّ الرَّجلَ ليُحرم الرِّزقَ بالذنبِ يُصيبُهُ]. أو تكون تربيةً ومنعاً من مزيدٍ من الطغيان كما يقول الحق سبحانه: ﴿وَما نُرسِلُ بِالآياتِ إِلّا تَخويفًا﴾.

 

وقالوا إن المقصود بالثبات عند الشدائد التصرف الحسن بما يناسب المقام، من غير كفرٍ أو جحودٍ أو نكوصٍ عن المبادئ الصحيحة السليمة، وحبس النفس عما لا يجوز فعله كشق الجيوب وخمش الوجوه، وعما لا يجوز قوله كالتسخط من قدر الله.

وقالوا إن (الصبر وقت الشدة) فيه الخير كله، فإذا كان الخير هو شأن المؤمن مع الصبر العادي؛ كما يقول صلى الله عليه وسلم: [عَجَباً لأمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ لَهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لأِحَدٍ إِلاَّ للْمُؤْمِن: إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْراً لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خيْراً لَهُ] فلا شك أن صبره عند الشدائد سيكون أكثر خيراً وأعظم أجراً.

و(الصبر وقت الشدة) طريق الجنة وسبيل الأنبياء وأحد المبشرات بقرب النصر؛ يقول تعالى: ﴿أَم حَسِبتُم أَن تَدخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمّا يَأتِكُم مَثَلُ الَّذينَ خَلَوا مِن قَبلِكُم مَسَّتهُمُ البَأساءُ وَالضَّرّاءُ وَزُلزِلوا حَتّى يَقولَ الرَّسولُ وَالَّذينَ آمَنوا مَعَهُ مَتى نَصرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصرَ اللَّهِ قَريبٌ﴾.

 

أما عن سبب اشتراط الصبر في المصيبة عند الصدمة الأولى؛ فقال أحدهم لأن كل شيءٍ يبدأ صغيراً ثم يكبر إلا المصيبة؛ فإنها تبدأ كبيرةً ثم تصغر، فاشتُرط لعظم الثواب أن يكون الصبر عند أول كِبَرِها.

وقال غيره: الصبر الشَّاق على النفس الذي يعظم الثواب عليه إنما هو عند هجوم المصيبة وحرارتها، فإنه يدل على قوَّةِ القلب وتثبته في مقام الصبر، وأما إذا بردت حرارة المصيبة فكل أحدٍ يصبر إذ ذاك.

 

أحبتي .. عقَّب ناشر القصة عليها في نهايتها بقوله إن موقف تلك المرأة يعجز عنه كثيرٌ من الرجال، لكنه نور الإيمان واليقين؛ فأي ثباتٍ وأي صبرٍ وأي يقين أعظم من هذا؟! وكأني بها يتحقق فيها قوله تعالى: ﴿الَّذينَ إِذا أَصابَتهُم مُصيبَةٌ قالوا إِنّا لِلَّهِ وَإِنّا إِلَيهِ راجِعونَ . أُولئِكَ عَلَيهِم صَلَواتٌ مِن رَبِّهِم وَرَحمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ المُهتَدونَ﴾.

أحبتي .. إذا أتت الشدائد، فلنصبر ونثبت، ونتذكر أين نحن من صبر نبينا عليه الصلاة والسلام على كفار قريشٍ والمشركين والمنافقين واليهود؟ ومن صبر إبراهيم عليه السلام على ما فعله به قومه من إلقائه في النار؟ ومن صبر أصحاب الأخدود يُلقى بهم في النار ذات الوقود؟ ومن صبر ماشطة ابنة فرعون وهي ترى فلذات أكبادها يُلقوْن في الزيت يغلي على النار؟ ومن صبر أيوب عليه السلام على ما مسه من ضُر؟

اللهم اجعلنا من الصابرين الثابتين وقت الشدة، خاصةً عند الصدمة الأولى. واجعلنا اللهم من المهتدين.

 

https://tinyurl.com/y5vy983n