الجمعة، 31 مايو 2019

صيام مُوَدِّع


الجمعة 31 مايو 2019م

خاطرة الجمعة /١٨٩
(صيام مُوَدِّع)

لم يتبقَ من أيام شهر رمضان المبارك إلا أيامٌ محدودةٌ وساعاتٌ قليلةٌ معدودةٌ، فماذا يفعل المقصرون؟ ومَنْ منا لم يُقَصِّر؟ ضيعنا أوقاتاً ثمينةً، وأهدرنا ساعاتٍ غاليةً ذهبت ولن تعود، فهل من مجالٍ لتدارك ما فات؟
وجدتُ الإجابة عن هذا التساؤل في منشورٍ يتم تداوله عبر مواقع التواصل الاجتماعي؛ يقول المنشور: "أن تأتي متأخراً خيرٌ من أن لا تأتي أبداً"، إنها حكمةٌ صالحةٌ في كل العصور، وفي كل مواقف الحياة، "أن تأتي متأخراً خيرٌ من ألا تأتي مطلقاً"؛ قال الله تعالى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾؛ فمهما بلغت ذنوبك يتقبل الله توبتك، ومهما تأخرت فبإمكانك أن تصل، وتذكر: "أن تأتي متأخراً خيرٌ من ألا تأتي مطلقاً"، لا تقل: رمضان فات، ومن سبق وصل، وأنا المتأخر لن أصل، تذكر "أن تأتي متأخراً خيرٌ من أن لا تأتي أبداً"، وأزيد عليها: "ولعل المتأخر يصل قبل الذي وصل باكراً"؛ تأمل كيف أن سيدنا/ عمر  ابن الخطاب - رضي الله عنه - أسلم في نهاية السنة الخامسة للبعثة، ورغم أنه أسلم متأخراً مقارنةً بالسابقين من الصحابة، إلا أنه كان ثاني الخلفاء الراشدين، ومن العشرة المبشرين بالجنة، وأن آياتٍ من القرآن الكريم نزلت موافقةً لآرائه، وإذا هو من أقوى الناس في كلمة الحق، ومن أخشع الناس قلباً، ومن أشد الناس إيماناً. "أن تأتي متأخراً خيرٌ من ألا تأتي مطلقاً" لها شاهدٌ آخر؛ أنه أبو هريرة - رضي الله عنه - وهو أكثر الصحابة الكرام روايةً للحديث الشريف، وصل متأخراً عن غيره؛ فلم يُسْلِم وقت البعثة، بل بعد الهجرة بسبع سنين، ولكن عندما وصل لزم الحبيب المصطفى صلوات ربي وسلامه عليه، وروى ما يزيد عن خمسة آلاف حديث.
تأخر إسلام عمر - رضي الله عنه - إلى نهاية السنة الخامسة، لكنه صار ثاني الخلفاء الراشدين! وتأخر إسلام أبي هريرة - رضي الله عنه - لكنه أصبح أكثر من روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم!
"أن تأتي متأخراً خيرٌ من ألا تأتي مطلقاً، ولعل من يأتي متأخراً يصل قبل من حضر باكراً". هناك أمل، نعم هناك أمل؛ فبما أن أنفاسك لم تنقطع، ورمضان لم ينتهِ بعد فهناك أمل. عُد إلى الله، وعودي إلى الله، ولو كان الوقت متأخراً فبإمكانك الوصول، وليكن شعارك "لئن أدركتُه لأُرِيَن اللهَ ما أصنع". وشد همتك وأرِ الله ما ستصنع.

أحبتي في الله .. يقول الشاعر عن قُرب انتهاء الشهر الفضيل:
إن كان شطرٌ قد ذهبْ
يا قوم فالباقي ذهبْ
بل إنه أغلى ففيه
أعزُّ ما ربي وهبْ
القَدْرُ والعشر الأخيرة
والجوائز والرُّتبْ
وقوافل العُتَقاء في
مِسك الختام المحتسَبْ
يا ربِ هبنا منك
أفضل ما يُنال ويُكتسبْ
العتقَ والرضوانَ والتقوى
وتفريجَ الكُربْ

وهذا شاعرٌ يقول:
أيها الناس إن شهركم قد انتصف
فهل فيكم من قهر نفسه وانتصف؟
وهل فيكم من قام فيه بما عرف؟
وهل تشوقت هممكم إلى نيل الشرف؟
أيها المحسن فيما مضى منه استمر ودُم
وأيها المسيء وبخ نفسك على التفريط ولُم

أما أهل العلم فيقولون إن العبرة بكمال النهايات لا بنقص البدايات، من فاته الكثير من رمضان فليحسن فيما بقي من أيامه؛ قال أحد الصالحين: "إن الله جعل شهر رمضان مضماراً لخلقه يستبقون فيه بطاعته إلى مرضاته، فسبق قومٌ ففازوا، وتخلف آخرون فخابوا. فالعجب من اللاعب الضاحك في اليوم الذي يفوز فيه المحسنون ويخسر فيه المبطلون".
وقال آخر: "إن الخيل إذا شارفت نهاية المضمار بذلت قصارى جهدها لتفوز بالسباق؛ فلا تكن الخيل أفطن منك! فإنما الأعمال بالخواتيم؛ فإنك إذا لم تحسن الاستقبال لعلك تحسن الوداع!".
وقال ثالثٌ: "العبرة بكمال النهايات لا بنقص البدايات!".
وقال رابعٌ: "أحسِن فيما بقي يُغفر لك ما مضى، فاغتنم ما بقي فلا تدري متى تُدْرَك رحمةُ الله!".
وقال خامسٌ: "الليالي والأيام الفاضلة لا يصلح أن يُغفل عنهنّ؛ لأنه إذا غفل التاجر عن موسم الربح، فمتى يربح؟".
صدق من قال: ﻻ ﺘﺄﻟﺮﺣ ﺍﻟﺸﻬ ﺍﻟﻤﺒﺎﺭﻙ؛ فهو حتماً ﻴﻌﺩ، ﻭﻟﻜ ﺘﺄﻟ ونندم ﺃﻥ ﺩ ﻭﻠﻨﺎ ولم نحصد شيئاً أو حصدنا القليل؛ فليكن ﺻﻮﻣﻨﺎ (صيام مُوَدِّع) ﻭﻗﻴﺎﻨﺎ ﻗﻴﺎﻡ ﻣﻮﺩِﻉٍ. ما زال في رمضان ﻘﻴﺔٌ ﻟكعةٍ، لصدقةٍ، ﻟةٍ، ﻟﺪﻣﻌﺔٍ، لصلةِ رحم، لتلاوةِ قرآن، ولغير ذلك من أعمالٍ تقربنا إلى الله رب العالمين. إنها واللهِ للحظاتٌ أغلى من كنوز الدنيا ﻗ تُغَيِّر مجرى حياتك كلها، وتنقلك من نار الجحيم إلى جنات النعيم، أو ترفع درجتك في الجنة فاغتنمها، وتذكر أن تصوم فيما بقي من رمضان (صيام مُوَدِّع).

كتب أحدهم يقول: شهر رمضان قد عزم على الرحيل، ولم يبقَ منه إلا القليل، فمن منكم أحسن فيه فعليه التمام، ومنْ فَرَّط فليختمه بالحسنى والعمل بالختام، فاستغنموا منه ما بقيَ من الليالي اليسيرة والأيام، واستودعوه عملاً صالحاً يشهد لكم به عند الملك العلاّم، وودعوه عند فراقه بأزكى تحيةٍ وسلام.
ويذكرنا أحد الصالحين بقوله: السباق قد اشتد، والجنة تزينت لمن جَد؛ فليكن شعارنا في هذه الأيام "لن يسبقني إلى الله تعالى أحد". أحسنوا فيما بقي يُغفر لكم ما قد سلف، والعبرة بالخواتيم.
إن من أعظم الجُرم، ومن أكبر الخسران، أن يعود المرء بعد الفوز بالغنيمة خاسراً، وأن يبدد المكاسب التي يَسَّرَها الله عزَّ وجلَّ في هذا الشهر الكريم، وأن يرتد بعد الإقبال على الطاعات مُدْبراً، وبعد المسارعة إلى الخيرات مُهاجراً، وبعد عمران المساجد بالصلوات والتلاوات مُعرضاً.
قبل رحيل رمضان علينا تذكر زكاة الفطر، نخرجها على هيئتها وفي توقيتها كما ورد في السُنة الشريفة؛ فهي فرضٌ على الصغير والكبير، والذكر والأنثى، وقد فُرضت طهرةً للصائم من اللغو والرفث، وطعمةً للمساكين، وشكراً لله على ما أنعم به من صيام شهر رمضان وقيامه. كما علينا أن نتذكر أنه إذا رحل رمضان بصيام الفريضة فقد ترك لنا صيام التطوع، وأول صيام التطوع بعد رمضان صيام ستة أيامٍ من شوال؛ قال صلى الله عليه وسلم: [مَنْ صَامَ رَمَضَانَ، ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِسِتَّةِ أَيَّامٍ مِنْ شَوَّالٍ، فَكَأَنَّمَا صَامَ الدَّهْرَ كُلَّهُ].

يقول الشاعر في وداع رمضان:
ترحَّلت يا شهرَ الصيامِ بصومِنا
وقدْ كنتَ أنواراً بكلِّ مكانِ
لئنْ فَنِيَتْ أيامُك الزُّهرُ بَغتةً
فما الحزنُ مِنْ قلبي عليك بِفَانِ
عليكَ سلامُ الله كن شاهداً لنا
بخيرٍ رعاكَ الله مِنْ رمضانِ
ويقول غيره:
رمضان كأنه بالأمس حل .. واليوم أكثر من نصفه قد رحل .. وستمضي أيامه على عجل .. فطوبى لمن قدم فيه لنفسه، وأحسن العمل .. شهر التُقى إذا رحل .. ترقرقت منا المُقل ..
ومن أجمل ما قيل في رحيل رمضان:
ها هو ذا رمضان يمضي، وقد شهدت لياليه أنين المذنبين، وقصص التائبين، وعبرات الخاشعين، وأخبار المنقطعين. وشهدت أسحاره استغفار المستغفرين، وشهد نهاره صوم الصائمين وتلاوة القارئين، وكرم المنفقين. إنهم يرجون عفو الله، علموا أنه عفوٌ كريمٌ يحب العفو فسألوه أن يعفو عنهم. يا شهر رمضان ترفق، دموع المحبين تدفق، قلوبهم من ألم الفراق تشقق، عسى وقفةً للوداع أن تطفئ من نار الشوق ما أحرق، عسى ساعة توبةٍ وإقلاعٍ أن ترفو من الصيام ما تخرق، عسى منقطعٍ عن ركب المقبولين أن يلحق، عسى أسير الأوزار أن يُطلَق، عسى من استوجب النار أن يُعتَق، عسى رحمة المولى لها العاصي يُوفَق.

وأختم بهذه الأبيات المعبرة المؤثرة:
بكتِ القلوبُ على وداعك حرقةً
كيف العيونُ إذا رحلتَ ستفعلُ
ها قد رحلت أيا حبيبُ، وعمرنا
يمضي ومن يدري أَأَنتَ ستقبلُ
فعساكَ ربي قد قبلت صيامنا
وعساكَ كُلَّ قيامنا تتقبَّلُ
بكت المساجدُ تشتكي عُمَّارها
كم قَلَّ فيها قارئٌ ومُرتِّلُ
إن كانَ هذا العامَ أعطى مهلةً
هل يا تُرى في كُلِّ عامٍ يُمهِلُ؟
لا يستوي من كان يعملُ مخلصاً
هوَ والذي في شهره لا يعملُ
رمضانُ لا تمضي وفينا غافلٌ
ما كان يرجو الله أو يتذلَّلُ
رمضانُ لا أدري أعمري ينقضي
في قادم الأيامِ أم نتقابلُ!!
فالقلبُ غايةَ سعدِهِ سيعيشُها
والعين في لقياكَ سوف أُكحِّلُ

أحبتي .. شارف رمضان على الرحيل، فلنتقِ الله فيما بقي من ساعاته ودقائقه المعدودة ونصوم (صيام مُوَدِّع) كما لو كان رمضان هذا آخر رمضان نشهده؛ فمن لم تصم جوارحه، ومن قَصَّر في صلواته فيما مضى من الشهر فليتدارك أمره ويحسن ويلتزم فيما بقي، من لم يقرأ القرآن في شهر القرآن فليقرأ ما تيسر منه، من لم يُطعم فقيراً أو يتصدق على محتاجٍ فالفرصة ما تزال سانحةً لاكتساب الأجر والثواب.
أمامنا عدة أيامٍ متبقيةٍ في شهر رمضان، وقد يكون في إحدى لياليها ليلة القدر؛ وهي كما وصفها المولى ﴿خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾؛ فاقتصد في راحتك، قلّل نومك، اجتهد في الطاعة، تزوّد لآخرتك؛ فالدنيا بكل ما فيها ملحوقةٌ، وأمّا رمضان فأيامه ﴿أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ﴾.
أما بعد رمضان فلنتقِ جميعاً الله سبحانه وتعالى كما لو كنا مازلنا في رمضان، ولنخشع له في صلواتنا خشوعنا في رمضان، ولا نترك أبداً تلاوة القرآن، ولا نُقَّصِر في أعمال الخير والبر كصلة الأرحام ورعاية حقوق الجيران والعطف على الفقراء والمساكين. لا نتكاسل عن أداء العبادات من صلاةٍ وزكاةٍ، ولا نهمل النوافل ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً.
رحل الكثير وبقي القليل منك يا رمضان، وسيمضي يومك الأخير وتودعنا، سبحان من وصفك بأيامٍ معدوداتٍ، اللهم اجعلنا من عتقاء هذا الشهر الكريم. اللهم تقبل منا ما مضى، وبارك لنا فيما بقي، واغفر لنا تقصيرنا وارحمنا، وبلغنا اللهم ليلة القدر. اللهُمّ إنك عَفوٌ تُحِبُ العَفو فاعفُ عنا.
لا نقول رمضان رحل، وإنما نقول اللهم لا تدعنا نودعه ومازال فينا ذنبٌ لم يُغفر، وخطيئةٌ لم تمحَ، ودعوةٌ لم تُرفع. اللهم أعده علينا وأنت راضٍ عنا. اللهم اجعل خير أعمالنا خواتيمها وخير أيامنا يوم نلقاك.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.
هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.

http://bit.ly/2HMQxJo