الجمعة، 2 ديسمبر 2022

وفاء نادر

 

خاطرة الجمعة /372


الجمعة 2 ديسمبر 2022م

(وفاء نادر)

 

هذه قصةٌ من أحسن قصص الحب والوفاء لشريكة الحياة التي طالما وقفت إلى جانب زوجها في أحلك الظروف وأصعب الأوقات؛ فقد ترك رجلٌ زوجته وأولاده من أجل الدفاع عن وطنه قاصداً أرض معركةٍ تدور رحاها على أطراف البلاد التي غزاها جيشٌ أجنبيٌ يريد احتلالها ونهب خيراتها والسيطرة على مواردها. وبعد انتهاء الحرب، وفي طريق عودة الرجل إلى منزله تم إبلاغه أن زوجته أُصيبت بعد غيابه بمرض الجُدري فتشوه وجهها كثيراً وبقية جسمها جراء ذلك المرض الفتاك. تلقى الرجل الخبر بألمٍ وحُزنٍ عميقين شديدين لكنه لم يقل شيئاً.

في اليوم التالي شاهده رفاقه مُغمض العينين؛ فرثوا لحاله، وأيقنوا حينها أنه فقد بصره نتيجةً لصدمته في اليوم السابق بسماع الخبر الصاعق الذي تلقاه عما أصاب زوجته. وحين وصل الرجل إلى قريته رافقه عددٌ من رفاقه وهم يقودونه من يده حتى أوصلوه إلى منزله، وحينما رأته زوجته وأولاده على هذه الحال ظنوا أنه فقد بصره أثناء المعارك في الحرب التي عاد منها للتو. أكمل الرجل بعد ذلك حياته مع زوجته وأولاده بشكلٍ اعتياديٍ؛ هو تكيّف على وضعه الجديد، وهُم كذلك اعتادوا عليه. بعد ما يُقارب خمسة عشر عاماً توفيت زوجة الرجل، حينها تفاجأ كل من حوله بأنه عاد مُبصراً بشكلٍ طبيعيٍ، ثم علموا فيما بعد أنه أغمض عينيه بإرادته طيلة تلك السنوات كي لا يجرح مشاعر زوجته عند رؤيته لها وقد ترك الجُدري آثاره على وجهها وجسدها.

كانت تلك لفتةً إنسانيةً كريمةً من هذا الزوج من أجل المُحافظة على مشاعر زوجته وإشعارها أنه لا يزال يراها في مُخيلته جميلةً كما كانت قبل ذهابه للحرب، واختار أن يتظاهر بالعمى خمسة عشر عاماً من أجل الوفاء لها، إنه بلا شك (وفاء نادر).

 

أحبتي في الله.. لا أدري من هو الأكثر وفاءً لزوجته؛ هذا الرجل الذي ظل قرابة خمسة عشر عاماً يعيش حياة كفيف البصر كي لا يجرح مشاعر زوجته، أم ذلك الرجل الإيطالي المُسن؟ دعونا نتعرف على قصته يرويها لنا شاهد عَيان، كتب يقول:

كنتُ ذات صباحٍ في قاعة الانتظار بالمستشفى الجامعي القريب من سكني في روما، أنتظر دوري لأراجع الطبيب لبعض حُروقٍ ظهرت على أطرافي، وكان أمامي في القائمة شيخٌ إيطاليٌ يُناهز الثمانين، باديةٌ عليه علامات القلق، ينتظر الطبيب لتغيير ضمّادةٍ حول معصمه وإعادة تطبيب يده من جديد، وكان قد أخبر المُمرضة أنه في عجلةٍ من أمره. ظل يطرق باب غرفة الطبيب بين الفينة والأخرى، يسأل المُمرضة عن موعد دخوله، وهي تُخبره في كل مرةٍ أن دوره لم يأتِ بعد، وأن هناك أشخاصاً في حالاتٍ حرجةٍ لهم الأولوية. كنتُ مُتعجباً من عجلته رغم أنه في الغالب مُتقاعدٌ ولا مشاغل كبيرةً لديه. لم يهدأ بال ذلك الرجل المُسن، وظل يمشي ذهاباً وإياباً، قلقاً يتذمر من التأخير الذي طرأ على برنامج يومه، ومع طرقةٍ من طرقاته على باب غرفة الطبيب خرجت عليه المُمرضة تُعاتبه، قالت له: "ما كُل هذه العجلة وأنت لا شغل لديك ولا مواعيد مُهمةً أمامك؟"، وطلبت منه الجلوس في أي مقعدٍ من مقاعد قاعة الانتظار وستقوم هي بتطبيبه إذا كان لا يرغب في الانتظار؛ فوافق. ذهبت المُمرضة وأحضرت كل المُستلزمات، ثم وقفت أمامه وهي تتحدث معه، بعد أن أزالت الضمادة واهتمت بجُرحه، سألته: "هل لديك موعدٌ هذا الصباح مع طبيبٍ آخر ولذلك أنت في عجلةٍ من أمرك؟"، أجاب: "لا.. لكني ذاهبٌ إلى دار رعاية المُسنين لتناول إفطار الصباح مع زوجتي كما أفعل كل يوم"، فسألته المُمرضة: "ما سبب دخول زوجتك لدار الرعاية؟"، فأجابها: "إنها هناك منذ فترةٍ لأنها مُصابةٌ بمرض الزهايمر وفقدان الذاكرة"، في تلك اللحظة كانت المُمرضة قد انتهت من تغيير الضمادة بعد أن طبّبته، وسألته: "وهل ستقلق زوجتك لو تأخرتَ عن الميعاد قليلاً؟"،

فأجاب: "أنها لم تعد تعرف من أنا؛ إنها لا تستطيع التعرف عليّ منذ أربع سنواتٍ مضت"، قالت المُمرضة مُندهشةً: "ولا زلتَ تُلازمها وتتناول الإفطار معها كل صباحٍ على الرغم من أنها لا تعرف من أنت؟"، ابتسم الرجل العجوز وهو يربت على يديها وقال: "هي لا تعرف من أنا، ولكنني أعرف من هي"، وانصرف مُسرعاً. مسحت المُمرضة دمعتين فرّتا من عينيها، وقالت وهي تخنقها الشهقة: "هذا هو نوع الحب الذي أريده في حياتي".

 

هذان مثالان من حالات (وفاء نادر) قلَّ أن نجد لهما مثيلاً، وقلَّ أن نجد قدوةً يُحتذى به في هذا الشأن، لكننا إن أمعنا النظر، وعُدنا إلى مرجعيتنا التي لا نضل أبداً إذا تمسكنا بها، لوجدنا الآية الكريمة التي تُخبرنا بوضوحٍ عن قدوتنا ومثلنا الأعلى نحن المسلمين؛ يقول تعالى: ﴿لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾ إذن فرسولنا محمدٌ صلى الله عليه وسلم هو الأُسوة، وهو القدوة، وهو المثال الذي علينا أن نحتذي به في كل شيءٍ؛ فهل في سيرته عليه الصلاة والسلام ما يُبين لنا وفاءه لزوجته؟ نعم كان عليه الصلاة والسلام ذا (وفاء نادر) تجاه زوجته أم المؤمنين السيدة/ خديجة بنت خويلد، رضي الله عنها، حتى بعد وفاتها؛ فعَنْ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: "مَا غِرْتُ عَلَى أَحَدٍ مِنْ نِسَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَا غِرْتُ عَلَى خَدِيجَةَ، وَمَا رَأَيْتُهَا، وَلَكِنْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ ذِكْرَهَا، وَرُبَّمَا ذَبَحَ الشَّاةَ ثُمَّ يُقَطِّعُهَا أَعْضَاءً، ثُمَّ يَبْعَثُهَا فِي صَدَائِقِ خَدِيجَةَ، فَرُبَّمَا قُلْتُ لَهُ: كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي الدُّنْيَا امْرَأَةٌ إِلَّا خَدِيجَةُ، فَيَقُولُ [إِنَّهَا كَانَتْ، وَكَانَتْ، وَكَانَ لِي مِنْهَا وَلَدٌ]. وعَنْ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا ذَكَرَ خَدِيجَةَ أَثْنَى عَلَيْهَا، فَأَحْسَنَ الثَّنَاءَ، قَالَتْ: فَغِرْتُ يَوْمًا، فَقُلْتُ: مَا أَكْثَرَ مَا تَذْكُرُهَا حَمْرَاءَ الشِّدْقِ، قَدْ أَبْدَلَكَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهَا خَيْرًا مِنْهَا، قَالَ: [مَا أَبْدَلَنِي اللهُ عَزَّ وَجَلَّ خَيْرًا مِنْهَا، قَدْ آمَنَتْ بِي إِذْ كَفَرَ بِي النَّاسُ، وَصَدَّقَتْنِي إِذْ كَذَّبَنِي النَّاسُ، وَوَاسَتْنِي بِمَالِهَا إِذْ حَرَمَنِي النَّاسُ، وَرَزَقَنِي اللهُ عَزَّ وَجَلَّ وَلَدَهَا إِذْ حَرَمَنِي أَوْلَادَ النِّسَاءِ].

 

إنه الوفاء في أبهى صوره، يقول العلماء عنه إنه من مكارم الأخلاق، وإنه صِفةٌ من صفات الأنبياء والصديقين والصالحين، به تُنال الدرجات، وتُرفع المقامات. وهو خُلقٌ إنسانيٌ رفيعٌ، وسُلوكٌ حضاريٌ راقٍ، ينبغي أن تُبنى عليه العلاقات الأسرية، فهو من أهم دعائم استقرار البيوت وسعادتها. وهو خُلقٌ لا يتصف به إِلا عزيز النفس طيِّب الأصل كريم الخصال. وهو ثمرة عِشرةٍ طيبةٍ بين الزوج والزوجة أساسها الحب والاحترام والتفاهم والمودة والرحمة والثقة. فمن مروءة الرجل أن يكون وفياً لزوجته التي صبرت معه وساندته ودعمته بكل ما تستطيع في تجاوز المحن.

 

وعن الوفاء قال الشاعر:

فإذا ظفرتَ بذي الوفاء

فحط رحلَك في رحابهِ

فأخوك مَن إن غابَ عنك

رعى ودادكَ في غيابهِ

وإذا أصابك ما يسوءُ

رأى مصابَك مِن مصابهِ

وتراه يتوجعُ إن شكوتَ

كأن ما بكَ بعضَ ما بهِ

 

وقال آخر:

الناسُ للناسِ ما دامَ الوفاءُ بِهُِم

والعُسرُ واليُسرُ أوقاتٌ وساعاتُ

فماتَ قومٌ وما ماتت فَضائلُهم

وعاشَ قومٌ وهُم في الناسِ أمواتُ

 

أحبتي.. وفاء الزوج لزوجته دليلٌ على أصالته ونُبله وطيب معدنه؛ فليبادر كل من له زوجةٌ إلى الوفاء بحقها، إن كانت حيةً؛ بالود وحُسن المعاملة وطيب الحديث وإسعادها وإعطائها حقها وتقدير جهودها والحفاظ على مشاعرها، وإن كانت ميتةً؛ فبذِكر محاسنها والدُعاء لها وإكرام أهلها والحديث عنها بحُبٍ واحترام.

ولننتبه إلى أن أبناءنا يتعلمون منا ومن أقوالنا وأفعالنا، ويتخذون منا قدوةً لهم، فلنكن لهم نموذجاً في تعاملنا مع زوجاتنا عسى أن يسيروا على نهجنا، فنسعد ويسعدوا في الدنيا، ونُثاب ويثابوا في الآخرة. وليكن وفاؤنا لزوجاتنا بنية التأسي بنبينا الكريم، صلى الله عليه وسلم، فننال ثواباً آخر هو ثواب اتباع السُنة. أخيراً، هذه همسةٌ في أذن كل زوجة "ارتقِ بأخلاقك وأقوالك وأفعالك إلى المستوى الذي يجعلك أهلاً لمحبة زوجك ووفائه لكِ".

جعلنا الله من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.

https://bit.ly/3FnSdHq