الجمعة، 10 أغسطس 2018

إلى الله أقرب


الجمعة 10 أغسطس 2018م

خاطرة الجمعة /١٤٧
(إلى الله أقرب)

كتب لي يعاتبني لأنني لم أهنئه بعيد ميلاده، قال متألماً أنه لم يتوقع ذلك من أعز أصدقائه وأقربهم إلى قلبه. سألته: "ماذا يعني لك الاحتفال بعيد ميلادك؟"، قال مندهشاً: "هو مناسبةٌ سعيدةٌ أحتفل فيها كل سنةٍ مع أهلي وأصدقائي بأنني كبرت سنة"، قلت له: "هل فكرت في الأمر بطريقةٍ مختلفةٍ؟"، سألني: "ماذا تقصد؟"، قلت: "الاحتفال بعيد الميلاد يعني الاحتفال بأن عمر الإنسان قد نقص سنة، أليس كذلك؟"، لم أنتظر إجابته وسألته سؤالاً آخر: "هل يحتفل عاقلٌ بقرب انتهاء أجله واقترابه من نهاية عمره؟"، رد باقتضاب: "لا بالتأكيد"، قلت له: " إنها مناسبةٌ للتأمل والتدبر ومحاسبة النفس، مناسبةٌ لأن يقول الإنسان في الدنيا قبل الآخرة: ﴿يَا حَسْرَتَا عَلَىٰ مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ﴾، ويجدد العهد على أن يستثمر كل لحظةٍ في حياته في عملٍ يجعله (إلى الله أقرب)؛ عملٍ ينفع به نفسه وينتفع به غيره".

أحبتي في الله .. عيد الميلاد فرصةٌ للانفراد بالنفس ومحاسبتها ومراجعتها، ووقفةٌ لإجراء حسابٍ ختاميٍ يبين ما حققناه من أرباح، ويحصر خسائرنا، أو الأرباح التي لم نحققها، خلال عامٍ مضى، حين يسأل كلٌ منا نفسه: هل، مع انقضاء سنةٍ من عمري، واقترابي بمقدار عامٍ كاملٍ من انتهاء أجلي المسمى وعمري المقدر، قد اقتربتُ من الله أكثر؟
عيد الميلاد فرصةٌ لا بد من اقتناصها لحساب النفس؛ فإن ترك المسلم محاسبة النفس، كما يقول العلماء، يُمَكِّن الشيطان من أن يدعوه إلى المعصية ويحذّره من الطاعة، ويزين له الباطل ويثبطّه عن العَملِ الصالح. ترك محاسبة النفس يجعل الناس في غفلةٍ؛ فتصبحَ ﴿لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا ۚ أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾، وكيف نترك محاسبة النفس والله سبحانه وتعالى يقول: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُون﴾. وعن محاسبة النفس يقول جَلّ وعَلا: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾، يقولُ المفسرون في معنى الآية: "حاسبوا أنفسَكم قبل أن تُحاسَبوا، وانظروا ماذا ادخرتُم لأنفسِكم من الأعمالِ الصالحةِ ليومِ معادِكم وعرضِكم على ربِكم، واعلموا أنه عالمٌ بجميعِ أعمالِكم وأحوالِكم، ﴿لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ﴾".
كل يومٍ يمر من عمر الإنسان يجعلنا (إلى الله أقرب) حقيقةً لا مجازاً؛ فما تبقى لنا من عمرٍ يصبح أقل وأقصر، فنحن نقترب بالفعل من لقاء الله عز وجل كلما مر الوقت، سواءً حسبناه بالسَنة أو بالثانية؛ يقول تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ۖ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾، فنحن والموت كلانا يمشى في اتجاه الآخر، نسير نحن جبراً وليس اختياراً نحو أجلنا المسمى المقدر لنا من قبل الله سبحانه وتعالى، وكل وقتٍ ينقضي من عمرنا يكون الموت قد اقترب منا بمقدار ذات الوقت الذي مضى وانقضى؛ فالعمر إذن يتناقص حتى إذا وصل إلى نقطة الصفر كانت النهاية، نهاية وجودنا في الدنيا، أما حياتنا فما تزال مستمرةً بشكلٍ آخر في البرزخ ثم تكون حياتنا الخالدة التي لا موت فيها في الدار الآخرة: إما نعيمٌ دائمٌ في جنة الخلد، اللهم اجعلنا من أصحابها، أو جحيمٌ مقيمٌ في نار جهنم، نستعيذ بك اللهم منها.

ومِنَ الناس مَنْ لا يعلمون أننا جميعاً نكون في حالة وفاةٍ كل ليلةٍ عند نومنا؛ يقول المولى عز وجل في كتابه الكريم: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا ۖ فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَىٰ عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَىٰ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾، يقول المفسرون: التوفِّي: الإماتة، وسميت توفّياً لأن الله إذا أَمات أحداً فقد توفّاه أجلَه؛ فالله المتوفِّي، ومَلك الموت متوفًّ أيضاً لأنه مباشر التوفّي، والميت: متوفَىٰ بصيغة المفعول؛ قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ﴾، وقال سبحانه: ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ﴾. والمعنى: يتوفّى الناس الذين يموتون، ويتوفى أنفساً لم تمت؛ يَتوفاها في منامها كل يومٍ، فإن حالة النوم حالة انقطاع أَهم فوائد الحياة عن الجسد وهي الإِدراك، سوى أن أعضاءه الرئيسيّة لم تفقد صلاحيتها للعودة إلى أعمالها حينَ تستيقظ من النوم كل يومٍ، ولذلك قال تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَىٰ أَجَلٌ مُّسَمًّى﴾.
فبدلاً من الاحتفال بعيد الميلاد مرةً واحدةً في العام، يكون من الأولى احتفال الإنسان بعودته إلى الحياة كل يومٍ؛ فيحمد الله فور استيقاظه من النوم ويقول، كما علمنا الرسول صلى الله عليه وسلم: [الحَمْدُ للهِ الَّذِي عَافَانِي في جَسَدِي، وَرَدَّ عَليَّ رُوحِي، وَأَذِنَ لِي بذِكْرِهِ]، ويقول: [الحَمْدُ لله الذِي أحْيَانا بَعْدَ مَا أمَاتَنَا وإلَيْهِ النَشُور]، ثم يبادر للاستفادة من هذا اليوم الجديد بأن يزيد فيه من حسناته بالعبادات والنوافل وأعمال الخير، ويقلل من سيئاته بالتوبة النصوح والاستغفار. هذا هو الاحتفال اليومي بالميلاد الجديد، احتفالٌ بمنحة الحياة المتجددة، وبفرصة استمرار العمر وامتداد الأجل؛ كل يومٍ وليس كل سنةٍ، نكون في كل وقتٍ (إلى الله أقرب) فنحن لا ندري متى يحين الأجل؛ يقول الإمام الشافعي:
تزولُ عن الدنيا فإنّكَ لا تدري
إذا جُنَ عليك الليلُ هل تعيشُ إلى الفجرِ
فكم من صحيحٍ ماتَ من غيرِ علّةٍ
وكم من سقيمٍ عاشَ حيناً من الدهرِ
وكم من فتىً أمسى وأصبحَ ضاحكاً
وأكفانُهُ في الغيبِ تُنسجُ وهو لا يدري

ومن الأقوال الحكيمة ما يُنسب للحسن البصري إذ يقول: "ليس من يومٍ يأتي على ابن آدم إلا يُنادىَ فيه: يا ابن آدم أنا خلقٌ جديد، وأنا فيما تعمل عليك غداً شهيد، فاعمل فيّ خيراً أشهد لك به غداً؛ فإني لو قد مضيتُ لم ترني أبداً"، ما يدل على أن اليوم الحالي ينبغي التزود منه وأن نكون فيه (إلى الله أقرب) فإنه إنْ ذهب لن يعود. أما آن لنا إذن أن نُحَوِّل احتفالنا بعيد الميلاد من مرةٍ واحدةٍ في السنة إلى مرةٍ كل يوم فتتضاعف سعادتنا حين نكسب، بأعمالنا الصالحة، كل يومٍ شاهداً جديداً يشهد لنا يوم أن نقف للحساب بين يدي رب العالمين؟ وأيهما أحسن وأفضل: فرحةٌ واحدةٌ في العام أم فرحةٌ متكررةٌ يوماً بعد يوم؟
يقول الشاعر:
إنا لنفرحُ بالأيامِ نقطعُها
وكلّ يومٍ يُدني من الأجلِ
فاعمل لنفسِكَ قبلَ الموتِ مجتهداً
فإنما الربحُ والخسرانُ في العملِ

أحبتي .. إذا سألتَ نفسك: هل ردَّ الله عليّ اليوم روحي؟ هل أمدَّ لي في عمرك؟ فلن تستطيع الإجابة إلا بنعم! فإذا كان الأمر كذلك، فقد تفضل الله عليك ومنحك نعمةً غاليةً لا تُقدر بثمنٍ هي نعمة استمرار الحياة، فماذا أنت فاعلٌ بهذه النعمة؟ أَتُضَيِّعُها حتى إذا انتهت هذه المنحة تصل إلى يومٍ كلنا واصلٌ إليه: ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوء تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَا بَعِيدًا﴾، تقول يومئذٍ: ﴿يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا﴾، أو تقول: ﴿فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ﴾؟ أم تكون من الأذكياء الذين وصفهم الله سبحانه وتعالى بأولي النهى ووصفهم بأولي الألباب، فلا يضيعون هذه المنحة بنومٍ طويلٍ أو كسلٍ أو تهاونٍ أو تأجيلٍ أو تسويفٍ أو فيما لا فائدة ولا خير يُرجى منه؟ المؤمن الحق من علم أن حياته مزرعةٌ للآخرة فاجتهد ما وسعه الاجتهاد في الزرع ليحصد في الآخرة ما كان قد قدم من عمل. والمؤمن الحق من يحاسب نفسه قبل أن يُحاسَب. المؤمن الحق يحتفل كل يومٍ وليس كل سنةٍ بكونه (إلى الله أقرب). المؤمن الحق يقول لنفسه كما قال الشاعر:
أنا العبد الذي كسب الذنوبا
وصدته المنايا أن يتوبا
أنا العبد الذي أضحى حزيناً
على زلاته قلقا كئيبا
أنا المضطر أرجو منك عفواً
ومن يرجو رضاك لن يخيبا
فيا من مد في كسب الخطايا
خطاه أما آن الأوان أن تتوبا؟

فلنشمر عن سواعد الجد ولا نتقاعس ولا نُضَيِّع ثانيةً واحدةً من أعمارنا، التي لا ندري متى تنتهي، إلا وأضفنا إلى رصيدنا في الآخرة ما ينفعنا ويوجب لنا، الأجر الذي وعدنا الله سبحانه به؛ حين نقول بإذنه تعالى: ﴿وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ ۖ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ﴾.

اللهم اهدنا، واهدِ بنا واجعلنا سبباً لمن اهتدى، وتقبل الله منا صالح أعمالنا وتجاوز عن تقصيرنا وسيئاتنا، ويَسِّر لنا أن نكون في كل وقتٍ إليك سبحانك أقرب.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.
هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.

https://goo.gl/EJBJTb