الجمعة، 26 يناير 2018

أجل مسمى

الجمعة 26 يناير 2018م

خاطرة الجمعة /١١٩
(أجل مسمى)

تواصل معي خلال الأسبوع الماضي عددٌ كبيرٌ من الأصدقاء؛ فقد تلقيت عشراتٍ من رسائل الاطمئنان، والكثير من الاتصالات الهاتفية، للسؤال عن عدم تسلم المواد والنشرات الدينية التي أقوم بإعدادها ثم إرسالها وتعميمها في مواعيد يوميةٍ محددةٍ يعلمها الجميع وألتزم بها بدقة؛ حتى أن أحدهم أخبرني يوماً أنه يكاد يضبط ساعته على موعد تلقيه هذه المنشورات لولا أن مواعيد إرسالها مرتبطٌ بمواقيت الصلاة وهي متغيرةٌ بطبيعة الحال!
كان سبب الانقطاع المؤقت وعدم الانتظام هو مشكلةٌ فنيةٌ خاصةٌ بهاتفي أدت إلى توقف برنامج واتس آب وغيره عن العمل مراتٍ، وبطءٍ شديدٍ أوإغلاقٍ مفاجئٍ مراتٍ أخرى.
ومع شكري لكل من تواصل معي وسأل عني، وتقديري لكل من لم تسمح ظروفه بالتواصل والسؤال، فإن ما استوقفني حقيقةً هو سؤال أخٍ عزيزٍ: "هل أعطيت نفسك عطلةً تتوقف فيها عن العمل؛ ترتاح قليلاً وتسترد أنفاسك؟".
السؤال جعلني أفكر في علاقة الإنسان المسلم بالوقت، كيف يديره، وكيف يوظفه ويستثمره، وكيف يتعامل معه، وفي مفهوم العطلة، والتوقف عن العمل خلالها. عن نفسي أحاول استثمار كل دقيقةٍ في عملٍ مفيدٍ، ولم أعود نفسي على التوقف عن العمل أيام العطلات، بل أعتبرها فرصةً أُضاعف فيها من نشاطي وإنتاجي!

أحبتي .. صحيحٌ أن الراحة مطلوبةٌ خاصةً بعد فترة عملٍ مرهقٍ، لكن الراحة تكون لدقائق أو ساعاتٍ، أما أن تمتد ليومٍ كاملٍ أو يومين كل أسبوع وأن تُخصص للنوم أو الكسل، فهذا مفهومٌ خاطئٌ يحتاج إلى تعديل.
فالوقت نعمةٌ من نعم الله سبحانه وتعالى؛ فهو عمر الإنسان على هذه الأرض، والعمر مهما طال محدودٌ بما أسماه المولى عز وجل (أجل مسمى)، وهذا الأجل وإن امتد فإن له نهاية، وإن طال فلن يتجاوز ما هو مقدرٌ ومكتوبٌ لكلٍ منا. الوقت هو الحياة، وحياتنا في هذه الدنيا هي في الواقع مجموع أوقاتنا، وهي إجمالي الزمن الذي يمضي بين لحظتين فاصلتين في حياة كل شخصٍ منا: لحظة ميلاده، ولحظة وفاته.
الحياة كالقطار يسير، يقف في محطاتٍ، كلٌ منا يركب من إحداها ثم ينزل في أخرى، وما بين المحطتين من وقتٍ وزمنٍ يمر داخل القطار هو عمر الإنسان، ينتهي بوصوله إلى محطة النزول، هذه الرحلة هي ما عبر عنها السياق القرآني البليغ بعبارة (أجل مسمى).
يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم، محدداً الأجل المسمى للإنسان وهو ما يزال جنيناً في بطن أمه قبل مولده: ﴿وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى﴾، ثم يُولد وقد تحدد له عمره: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَىٰ أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى﴾، ويقول تعالى: ﴿وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ﴾. ويمتد عمر الإنسان وأجله إلى وقت موته؛ يقول تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا﴾، ويقول سبحانه: ﴿وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا﴾، ويقول: ﴿فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا﴾، ويقول: ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ﴾، ويقول: ﴿وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى﴾.
وطوال رحلة الحياة، يُنعم المولى عزَّ وجَلَّ على الإنسان بالعمر وهو أيامٌ ينتهي كلٌ منها بالنوم؛ ينام الإنسان لا يعلم إن كان سيستيقظ وهو ما زال في الدنيا أم قد وافاه الأجل المحتوم أثناء نومه؛ يقول تعالى: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾. ولأنه سبحانه يعلم أن كل ابن آدم خطاءٌ، فإنه برحمةٍ منه يدعونا إلى المغفرة؛ يقول تعالى: ﴿يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى﴾، وهو سبحانه يدعونا إلى التوبة؛ فيقول: ﴿ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى﴾. وتكون النهاية بانتهاء الأجل المسمى لكل مخلوقٍ؛ يقول تعالى: ﴿مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَٰكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى﴾، ويقول في موضعٍ آخر: ﴿مَا تَرَكَ عَلَىٰ ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَٰكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى﴾، ويقول سبحانه: ﴿ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَىٰ أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ﴾، ويقول: ﴿إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾. وبعد الموت، تكون حسرة من أضاعوا أعمارهم فيما لا يفيد؛ يقول سبحانه: ﴿فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ﴾، ويقول على لسان الظالمين: ﴿رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ﴾.
والحكمة البالغة لمن أن أراد أن يعتبر تكمن في قوله عز وجل: ﴿مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ﴾، ولأن أجل الله آتٍ لا محالة فلماذا نضيع أوقاتنا فيما لا نفع فيه؟ لماذا لا نُحْسن استخدام أوقاتنا فيما ينفعنا في الدار الآخرة دار الخلود؟ ولأننا لا نعرف كم سنعيش في هذه الحياة الدنيا فلنعتبر من هذه الآية الكريمة: ﴿وَأَنْ عَسَىٰ أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ﴾.

بلغ اهتمام الإسلام بالوقت حد أن الله سبحانه وتعالى أقسم به في آياتٍ كثيرةٍ؛ منها: ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَىٰ . وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّىٰ﴾، و﴿وَالْفَجْرِ . وَلَيَالٍ عَشْرٍ﴾، و﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ﴾، و﴿وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ﴾، حيث تبين هذه الآيات وغيرها أهمية الوقت وضرورة اغتنامه في طاعة الله. كما أقسمَ بقوله: ﴿وَالْعَصْرِ . إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴾، بمعنى أنَّ مُضِيَّ الزمنِ وحدَه يستهلكُ عُمُرَ الإنسان الذي هو رأسُ ماله، ووعاءُ عملِه الصالحِ، الذي هو ثمنُ الجنة التي وَعَدَه الله بها.
كما أن تكليف الإنسان في الإسلام مرتبطٌ بالوقت وهو وقت البلوغ، والعبادات كلها مرتبطةٌ بالوقت: فالنطق بالشهادة وقتٌ للدخول فى الإسلام ووقتٌ للخروج من الدنيا واستقبال الآخرة، والصلاة فريضةٌ تتكرر خمس مراتٍ فى اليوم والليلة ﴿إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا﴾ وهي موزعةٌ على ساعات اليوم من مَطلَعِ الفجر إلى مَغيبِ الشَّفَق ﴿فَسُبْحَانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ . وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَعَشِيَّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ﴾، وأما الليل فلَهُ عبادته الخاصة المميزة ﴿يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ . قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلا . نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلا . أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا﴾، والزكاة فريضةٌ على من امتلك نصاباً حال عليه الحول مرةً كل عام، والصيام فريضةٌ في وقتٍ محددٍ هو شهر رمضان من كل عام ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ والإفطار والإمساك فيه مؤقتان بوقت ﴿وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ﴾ ومن اعتراه عذرٌ من مرضٍ أو سفرٍ فأفطر أياماً قضى مثلها: ﴿أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾، والحج فريضةٌ تُؤدىَ في وقتٍ معلومٍ ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ﴾.
والليل والنهار هما المجالُ الذي يذكُرُ العبدُ فيه ربَّهُ ويشكر نِعَمُهُ؛ قال تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا﴾، وإنّه لَمِن فضل الله سبحانه وتعالى وتوفيقه على العبد أن يُلهِمَهُ استغلال كلّ ساعةٍ من عمره في العمل أو الراحة من جُهدٍ استعداداً لجُهدٍ آخرَ؛ قال تعالى: ﴿وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾.

وعن الوقت في السُنة المشرفة يقول رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: [إنَّ أحدَكُم يُجْمَعُ خَلْقُه في بطن أمِّه أربعين يوماً، ثم يكُون علقةً مِثلَ ذلك، ثم يكُون مضغةً مثل ذلك، ثم يُرسَل الملَكُ، فينفخ فيه الرُّوح، ويُؤْمَر بأربع كلماتٍ: بِكَتْبِ رزقه، وأجلِه، وعملِه، وشقيٌّ أو سعيد]. ويقول صلى الله عليه وسلم: [كَتب الله مقاديرَ الخلائق قبل أن يَخلق السماواتِ والأرضَ بخمسين ألف سَنة].
ويقول عليه الصلاة والسلام: [إنَّ رُوح القدس نفَثَ في رُوعي أن نفساً لن تموت حتى تستكمل أجلَها، وتستوعب رِزقَها، فاتَّقوا الله، وأجمِلوا في الطلب، ولا يحملَنَّ أحدَكم استبطاءُ الرِّزق أن يطلبه بمعصية؛ فإن الله تعالى لا يُنال ما عنده إلا بطاعته]، كما يقول: [لَوْ أَنَّ ابْنَ آدَمَ فَرَّ مِنْ رِزْقِهِ كَمَا يَفِرُّ مِنَ المَوْتِ، لأَدْرَكَهُ رِزْقُهُ كما يُدْرِكُهُ المَوْتُ]. وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: خَطَّ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَّاً مُرَبَّعاً، وَخَطَّ خَطَّاً فِي الْوَسَطِ خَارِجاً مِنْهُ، وَخَطَّ خُطَطاً صِغَاراً إِلَى هَذَا الَّذِي فِي الْوَسَطِ مِنْ جَانِبِهِ الَّذِي فِي الْوَسَطِ، وَقَالَ: [هَذَا الْإِنْسَانُ، وَهَذَا أَجَلُهُ مُحِيطٌ بِهِ، أَوْ قَدْ أَحَاطَ بِهِ، وَهَذَا الَّذِي هُوَ خَارِجٌ أَمَلُهُ، وَهَذِهِ الْخُطَطُ الصِّغَارُ الْأَعْرَاضُ، فَإِنْ أَخْطَأَهُ هَذَا نَهَشَهُ هَذَا، وَإِنْ أَخْطَأَهُ هَذَا نَهَشَهُ هَذَا].
يقول أهل العلم أن كلَّ مفقودٍ يُمكن استرجاعه إلا الوقت؛ فإنه إن ضاع فلا أمل بعودته؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لا تزولُ قَدَما عبدٍ يوم القيامة حتى يُسأل عن: عُمِرهِ فيما أفناهُ، وعن جسده فيما أبلاهُ، وعن مالِهِ من أين اكتَسَبَهُ وفيما وضَعَهُ، وعن عِلمِه ماذا عمل فيه؟]. فالوقت أنفسُ ما يملكه إنسانٌ، وعلى العاقل أن يستفيد من وقته كما يستفيد من ثروته، لا يفرِّطُ في قليله وكثيره؛ بل يحرص على أن يستفيد من كلِّ لحظةٍ تمرُّ في حياته. عندما يحسُّ أحدُنا أنه موجودٌ، ويُلقي نظرةً وراءهُ يتبيّن بها اللحظةَ التي بدأَ فيها المسيرَ في هذه الحياة ليُحصي ما مرَّ به من أيامٍ وأعوامٍ؛ لن يطولَ به الفكرُ لأنه ينظرُ إلى تجمّع السنين الطّوال فإذا هي وكأنها يومٌ واحدٌ. وهذا ما يستشعرُهُ الإنسانُ يومَ القيامة عندما يقفُ للحساب؛ قال تعالى: ﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ﴾، وقال سبحانه: ﴿يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا عَشْرًا . نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا يَوْمًا﴾، وقال عز وجل: ﴿كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا﴾.
والإسلام دينٌ يعرف قيمة الوقت ويُقدِّر خطورة الزمن؛ فهو يؤكِّد الحكمة القائلة: "الوقتُ كالسيفِ إن لم تقطَعْهُ قَطَعَكَ"، ويجعل من دلائل الإيمان أن يعي المسلم قيمة الوقت باختلاف الليل والنهار؛ قال تعالى: ﴿إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ﴾، وقال سبحانه: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأولِي الألْبَابِ﴾؛ فالمعرضون عن التفكر في نعمة الوقت وتتابع الزمن، الذين تأخذهم الحياة الدنيا وتشغلهم عن الاستعداد للآخرة هم الغافلون؛ قال سبحانه: ﴿إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ . أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾.

ومع كل ما سبق فإنّ شأن الناس في الدنيا غريبٌ؛ يلهون وينسون، وكلُّ أعمالهم محسوبةٌ: ﴿يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللهُ وَنَسُوهُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾. إنّ المسلم الحقّ يُحافِظُ على الوقت محافظةً شديدةً لأنّ الوقت هو عُمُرهُ. فإذا سمح بضياعه فهو يضيع حياته؛ وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: [نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ، الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ]. ويقول الحسن البصري: "يا ابن آدم، إنَّما أنت أيَّامٌ، كلَّما ذهبَ يومٌ ذهبَ بعضُك"، ويقول الشاعر:
إِنَّـا لَـنَـفْـرَحُ بِالأَيَّــامِ نَقْـطَـعُـهَـا
وَكُلُّ يَوْمٍ مَضَى جُزْءٌ مِنَ العُمُــرِ
ويقول آخر:
وَالوَقْتُ أَنْفَسُ مَا عُنِيتَ بِحِفْظِهِ
وَأَرَاهُ أَسْــهَـلَ مَا عَـلَيْـكَ يَـضِيـعُ
حَثَّ الإسلامُ المسلم على مداومة العمل وإن كان قليلاً؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [يا أيّها الناس، خذوا من الأعمال ما تطيقون، فإنّ الله لا يملُّ حتى تملّوا. وإن أحبّ الأعمال إلى الله ما دام وإن قَلَّ].
ومن محافظة الإسلام على الوقت حَثّ المسلم على التبكير، ورغَّبَهُ أن يبدأ أعمال يومه باكراً مكتمل النشاط؛ قال صلى الله عليه وسلم: [اللّهمّ بارِكْ لأُمّتي في بكورها].
يقول الشاعر مؤكداً أن الوقت هو العمر وأن العمر هو (أجل مسمى) قد أنعم الله به علينا وسوف يحاسبنا سبحانه وتعالى عليه:
الوقـتُ أغلى مـن اليـاقـوتِ والذهبِ
ونـحن نَـخسـرهُ فـي اللـهـوِ واللعـبِ
وســوف نُسأل عـنـه عـنــد خـالـقِـنـا
يوم الحسابِ بذاك المـوقفِ النّشـِبِ
فاعْـملْ لنفسـك وأْمَلْ في السلامة لا
تركنْ إلى النـومِ أو تشـكو من التـعبِ
فإنـمـا أنــت مَـجــْزِيٌّ بـمــا عـَمـَلَـتْ
يـداك فاعـمـلْ لهـا في رفـعـةِ الـرتبِ
وإنما الفـــوز فيـمـــا كـُنـتَ تـعمــلـهُ
مـخـافةَ الله لا فـي الجـاهِ والنـسـبِ
لـوْ أنـها تنـفــعُ الأنســابُ صــاحـبَها
شـيـئـاً لَـمـَا كـان مـذمـومـاً أبـو لهبِ

أحبتي .. الوقت قصيرٌ مهما طال، والعمر محدودٌ وإن امتد، ولكلٍ منا (أجل مسمى) لن يتجاوزه؛ فلنشمر سواعد العمل، ونشحذ الهمم، ولا نضيع أوقاتنا، بل نشغلها بكل ما هو مفيدٌ لنا لآخرتنا، أما دنيانا فهي كما يقال مزرعة للآخرة؛ فليكن اهتمامنا بها بقدر ما تعيننا به على الاستعداد للحياة الأبدية الخالدة؛ وما نعيشه في الدنيا لا يزيد عن كونه رحلةً قصيرةً نعود بعدها إلى موطننا الأصلي وهو جنة الخُلد بإذن الله. وكل يومٍ جديدٍ هو فرصةٌ جديدةٌ لزيادة رصيدنا من الثواب، كما أنه شاهدٌ علينا؛ ففي الحديث القدسي: {وما مِن يومٍ ينشقُّ فجرُه إلا وينادي: يا ابن آدم، أنا خلقٌ جديدٌ، وعلى عملِك شهيدٌ، فتزوَّدْ منِّي، فإني لا أعود إلى يوم القيامة}. وكما قيل على قدر الهدف تكون سرعة الانطلاق؛ ففي طلب الرزق قال: ﴿فَامْشُوا﴾، وللصلاة قال: ﴿فَاسْعَوا﴾، وللجنة قال: ﴿وسَارِعُوا﴾، وأما إليه فقال: ﴿فَفِرُوا إِلَىٰ اللهِ﴾، وهي جميعاً ألفاظٌ وتعبيراتٌ ذات اتصالٍ وثيق بالوقت والزمن. فلنفر أحبتي إلى الله بكل عملٍ صالحٍ نستطيعه من غير أن نضيع أوقاتاً لا يُمكن لنا تعويضها أبداً.
قال ابن مسعود: "ما ندمتُ على شيءٍ ندمي على يومٍ غرَبَت فيه شمسُهُ، نقص فيه أجلي، ولم يزدَدْ فيه عملي".
ولله در أمير الشعراء أحمد شوقي حين قال:
دَقَّــاتُ قلــبِ المـرءِ قـائـلـةٌ لـه:
إنَّ الحـيـــــاةَ دقـائِـقٌ وثــوانـي
فارفع لنفسك بعدَ موتكَ ذكرها
فالذكــرُ للإنســــان عُـمـرٌ ثــاني
نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.

هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.


http://goo.gl/xV1xGK