خاطرة الجمعة /493
الجمعة 4 إبريل 2025م
(رمضان غيَّرني)
يقول أحد الشباب: كنتُ شاباً غارقاً في اللهو والملذات، بعيداً عن طريق الصواب،
لم أكن أهتم بالصلاة أو الصيام، وكانت حياتي تدور حول الأصدقاء والسهرات والأغاني،
حتى جاء رمضان، شهر الرحمة والمغفرة. في البداية، لم يكن رمضان يعني لي شيئاً،
كنتُ أعتبره شهراً ثقيلاً، شهراً للحرمان من الطعام والشراب، ولكن بمرور الأيام،
بدأتُ ألاحظ شيئاً غريباً، بدأتُ أرى الناس من حولي يتغيرون؛ بدأتُ أرى وجوههم
تُشرق بالنور، وقُلوبهم تفيض بالرحمة. بدأتُ أسمع صوت القرآن الكريم يتردد في كل
مكانٍ حولي؛ في الأسواق والمحلات ووسائل المواصلات. بدأتُ أرى الناس يتسابقون إلى
فعل الخيرات. بدأتُ أرى الفُقراء والمُحتاجين يتلقون المُساعدة والدعم من الجميع.
بدأتُ أرى الناس يتسامحون ويتصالحون، ويتصافحون ويتعاونون. في إحدى الليالي، ذهبتُ
إلى المسجد مع صديقٍ لي، كنتُ أشعر بفضولٍ غريبٍ، عندما دخلتُ إلى المسجد، شعرتُ
بشعورٍ لم أشعر به من قبل؛ شعرتُ بسَكينةٍ وهدوءٍ يغمران قلبي. استمعتُ إلى إمام
المسجد وهو يقرأ القرآن، وشعرتُ بكلمات الله تخترق قلبي، وتُحرك شيئاً في صدري. في
تلك الليلة، قررتُ أن أتغير، قررتُ أن أعود إلى طريق الصواب؛ بدأتُ أُصلي وأصوم،
وبدأتُ أقرأ القرآن، وأتعلم الكثير عن ديني. بدأتُ أتخلى عن اللهو والملذات، وأُركز
على فعل الخير ومُساعدة الآخرين. صرتُ من المُصلين مع الجماعة بالمسجد بعد أن كنتُ
هاجراً للصلاة، وأصبحتُ وأمسيتُ مع كتاب ربي الذي طالما هجرته وابتعدتُ عنه أياماً
وأسابيع. كما حدث زلزالٌ عظيمٌ في علاقتي بالناس؛ فقد كانت مُعاملتي لهم غليظةً،
وسلوكي معهم فظاً، حتى حلَّ رمضان بساحتي وأدركتُ أيامه الفاضلة، فكان للطاعات
أثرٌ كبيرٌ عليّ، فها هي نفسي قد هُذبت، وأخلاقي قد استقامت. ووصل التغيير إلى
سلوكي؛ فق دكنتُ أظن أن الحياة مُتَعٌ وشهواتٌ ينهل المرء منها كيفما شاء بدون
حسيبٍ أو رقيبٍ، وأنَّ له أن يتمتع بلذائذها حتى وإن كانت فيما لا يُرضي الله، أو
كان فيها تعدٍ على الآخرين، فإذا بروحانية رمضان تحلبي، وخيرات هذا الشهر تنتشلني
من غفلتي، وتوقظني من سهوتي. صرتُ أيضاً أحفظ جوارحي عن الحرام؛ حين علمتُ أن
كثيراً من تعبي وجوعي وعطشي طوال أيام رمضان سيذهب سُدىً إن لم أُحافظ على جوارحي،
وأُحيطها برعايتي؛ لقول الله تعالى: ﴿إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ
كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾. وكذلك تعرفتُ على شرف الأوقات؛
واكتشفتُ أنني كنتُ مُفرِّطاً في أوقاتٍ شريفةٍ وأزمنةٍ جليلةٍ، عظَّمها ربي عزَّ
وجلَّ وأثنى على أهلها، لم أعرف فضلها إلا بعد بلوغي رمضان مع أنها مُعظمةٌ في كل
شهرٍ، وهي أوقاتٌ مدح الله المُغتنمين لها، وجعل الأُعطيات لأهلها أعظم العطايا،
ومن أجلِّها وأعظمها وقت السحر؛ فعقدتُ العزم على استغلاله بصلاة التهجد والإكثار
من الاستغفار وطرح حاجتي على ربي الذي وعد بالاستجابة، وهو سُبحانه أوفى من صدق.
كما عرفني رمضان قدْر نفسي؛ فكم كنتُ مُغتراً بحالي، وكنتُ أظن أنني ما دمتُ أعيش
في بلاد الإسلام فإني لستُ بحاجةٍ إلى مزيدٍ من الطاعات والقُربات، وتكفيني بضع
ركعاتٍ أركعها، أو قراءة بعض آياتٍ من القرآن وقت فراغي، وأما الصدقة فلم أكن
أُفكر فيها؛ لأن ما معي من مالٍ كنتُ أُنفقه على شراء كل أمرٍ مُتعلقٍ بدنياي، لكن
بدخول هذا الشهر الكريم، رأيتُ صوراً ناصعةً لأهل الخير؛ فأنَّبتُ نفسي أشدَّ
التأنيب على تفريطها في جنب الله، وكيف مضى هذا العمر وأنا أسيرٌ للغفلات، كيف لو
قَدِمتُ على ربي وأنا خالٍ من الكثير من الحسنات، وغيري من المُتصدقين يتسابقون
إلى الصدقة؛ فهذا يبحث عن فقيرٍ ويصل إلى بيته، وذاك قام على إفطارٍ للصائمين،
وثالثٌ نذر وقته كله لخدمة المسلمين؛ فعدتُ باللوم على نفسي، وأيقنتُ أنني في
حاجةٍ إلى أن يُعينني الله على مثل تلكم الطاعات.
(رمضان غيَّرني)؛ لأنه شهر نزول الرحمات والبركات، ونفحات المغفرة تُحيط
بالعباد، وليقيني أني محرومٌ إن لم تُدركني تلك الرحمات، وأني سأبقى في شقاءٍ إن
لم أتعرض لتلك النفحات؛ لم لا وقد أخبرنا نبينا عليه الصلاة والسلام بذلك فقال:
[رَغِمَ أنفُ رجلٍ دخلَ علَيهِ رمضانُ ثمَّ انسلخَ قبلَ أن يُغفَرَ لَهُ].
كان شهر رمضان المُبارك بمثابة نقطة تحولٍ في حياتي؛ بالفعل (رمضان
غيَّرني) فتحولتُ من شابٍ غافلٍ إلى شابٍ مُلتزمٍ بدينه، حريصٍ على فعل الخير،
يسعى إلى رضا الله. لقد علَّمني رمضان أن الحياة ليست مُجرد لهوٍ وملذاتٍ، بل هي
فرصةٌ للتقرب إلى الله، وفرصةٌ لفعل الخير، وفرصةٌ للتغيير نحو الأفضل. بعد رمضان،
لم أعد كما كنتُ؛ أصبحتُ شخصاً آخر، شخصاً أفضل، أصبحتُ أكثر هُدوءاً وتسامحاً،
وأكثر حرصاً على فعل الخيرات، لقد أصبحتُ أرى الحياة بمنظورٍ مُختلفٍ، وأصبحتُ أُقدِّر
كل لحظةٍ فيها. أدركتُ أن رمضان هو شهر التغيير، شهر الرحمة والمغفرة، شهر العودة
إلى الله، إنه شهرٌ يمنحنا فرصةً لتغيير حياتنا نحو الأفضل، وفرصةً للتقرب إلى
الله والفوز برضاه.
أحبتي في الله.. يقول أهل العلم إن بَركة شهر رمضان المُبارك عظيمةٌ؛ فهي
فرصةٌ للازدياد من الخيرات، ومُنطلقٌ للإكثار من القُربات، وسببٌ للتغير والتحول
من المعصية إلى الطاعة، ومن الفساد إلى الصلاح وإلى الإصلاح. إن رمضان فرصةٌ
للتغيير الإيجابي نحو الأفضل، فرصةٌ للمراقبة والمُحاسبة في العبادات والسلوك
والأخلاق والعادات والمُعاملات. رمضان غيَّرنا؛ علَّمنا التنظيم وإعادة ترتيب
الوقت بين قراءة قرآنٍ وصلاةٍ وعباداتٍ مُختلفةٍ، وبين صلة رحمٍ، وتواصلٍ وتراحمٍ،
وحضور فعالياتٍ دينيةٍ وثقافيةٍ مُتنوعةٍ، وبين إخلاصٍ وتفانٍ في العمل والعطاء.
غيَّرنا رمضان؛ فصرنا أهلاً للجد والاجتهاد بدلاً من النوم والكسل، لقد وجَّه
بوصلة حياتنا للأفضل فأعدنا ترتيبها وتنسيق أولوياتنا.
وتحت عنوان "ماذا تعلمتُ في رمضان؟" كتب أحد الصالحين يقول:
تعلمتُ في رمضان أن الصيام مقدورٌ عليه، ومن قدر على صيام شهرٍ كاملٍ قدر على
الاستمرار في صيام يومي الإثنين والخميس، وثلاثة أيامٍ من كل شهر. تعلمتُ في رمضان
أن القيام مقدورٌ عليه، ومن قدر على قيام شهرٍ كاملٍ قدر على الاستمرار في صلاة
القيام والتهجد والوتر كل ليلة. تعلمتُ في رمضان أن ختم القرآن ليس أمراً صعباً،
وأن من السهل قراءة جزءٍ من القرآن يومياً، وتلاوة ما تيسر منه في ساعات الصباح
والمساء وأوقات الانتظار. تعلمتُ في رمضان أن الصدقة تُزيد المال ولا تُنقصه، وأن
علينا أن نتصدق على المحتاجين بشكلٍ مُستمرٍ. تعلمتُ في رمضان أن الأخلاق لا تقف
عند المظاهر، بل هي سلوكٌ يوميٌ نتحلى به في تعاملاتنا؛ فلنُحسِّن أخلاقنا مع جميع
الناس وفي كل المواقف.
وللتنبيه إلى أمرٍ هامٍ كتب أحدهم: احذر أول أُسبوعٍ بعد رمضان؛ أُسبوع
حربٍ من الشيطان، فهو عائدٌ بقوةٍ ولكن بخطواتٍ ماكرةٍ، يُزين الأعذار لتأجيل
الصلاة، وترك النوافل، وتسويف قراءة القرآن، والنوم عن صلاة الفجر، بحجة أنك خارجٌ
من رمضان ومحتاجٌ للراحة! ومن هنا يبدأ الانحدار خطوةً خطوةً إلى أن يصل الحال إلى
ما كان قبل رمضان. لا تستسلم لخطة الشيطان، لا تنس الدعاء فهو نجاةٌ؛ فاسأل الله
الثبات، رافِق الصالحين المُذكِّرين بالخير. الصلاة والقرآن خطٌ أحمر لا تتنازل
عنهما، ولا تنس صيام الست من شوال؛ أيامٌ قلائل تُدرك بها ثواب صيام العام كله
بفضل الله ورحمته.
وهذا آخر كتب تحت عنوان: "وماذا بعد رمضان؟" يقول: ها هو شهر
رمضان قد رحل، سَعِد فيه المتقون، وذاق حلاوته العابدون؛ في نهاره صيامٌ وتلاوة
قُرآنٍ وبذلٌ وعطاءٌ وإحسانٌ، وفي ليله تهجدٌ وذِكرٌ ودعاءٌ وتوبةٌ واستغفارٌ،
فهنيئاً لمن عَمَّر فيه وقته بالصالحات، واستدرك اللحظات قبل الفوات. والعاقل من
يُحكم البناء بعد أن أقامه، ويصدق في توبته بعد أن عاهد ربه. والعاقل من عرف قيمة
حياته، وثمن أنفاسه؛ فجَدَّ بالتقرب إلى مولاه حتى بعد انقضاء شهر الخيرات:
﴿وَاعْبُدْ رْبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾. ليكن حالك بعد رمضان شبيهاً
بحالك في رمضان؛ فداوِم على فعل الخيرات وإن قلَّت؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم:
[أَحَبَّ الأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ]؛ فقليلٌ دائمٌ خيرٌ
من كثيرٍ مُنقطعٍ؛ لأنّ بدوام القليل تدوم الطاعة والذِكر والمُراقبة وإخلاص
النية. إن مِن علامة قَبول الحسنةِ الحسنةُ بعدها، ومِن علامة قَبول العمل إتباعه
بعملٍ صالحٍ مثلِه؛ فيتضاعف الربح، وتزيد الحسنات؛ لذلك أُوصيك أخي بالإكثار من
الأعمال الصالحة؛ ومنها: خصص لك يومياً وِرداً من قراءة القرآن. صُمْ الست من
شوال. صُم الأيام البيض. تصدق ولو بالقليل. رطِّب لسانك بالذكر والاستغفار. قُم
الليل. الزَم الدُعاء آناء الليل وأطراف النهار. وغير ذلك من الأعمال الصالحة.
أحبتي.. بعد أن انتهى رمضان، ليسأل كل واحدٍ منا نفسه، إلى أي مدى أثَّر
فيه رمضان؟ هل غيَّر من حياته نحو الأفضل؟ هل تعَلَّم منه؟ يقول أحد العارفين: ما
أجمل أن يتغير المرء ويُغيِّر من حياته كلها، فيرجع العاصي إلى ربه، ويقترب
البعيد، ويزداد الصالح صلاحاً، والمؤمن إيماناً، كُلنا يتمنى التغيير ولكن منا من
يطلبه ويسعى إليه، ومنا من يتمناه ولكن دون عملٍ ولا فعلٍ؛ يقول تعالى: ﴿ذَلِكَ
بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى
يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾؛ فالتغيير يحتاج إلى عزيمةٍ وإرادةٍ جادةٍ
وقويةٍ. إن الهدف الأسمى والغاية العُظمى من الصيام هو التقوى؛ يقول تعالى:
﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾، نصوم لنزداد تقرباً من الله سُبحانه وتعالى، ويقيناً
به، وخوفاً وخشيةً منه، لنقترب منه أكثر، بطاعته وعبادته، والبُعد عن معصيته. كم
من إخوانٍ لنا حُرموا بلوغ رمضان هذا العام؟ وكم مُنعوا منه؟ وارهم الموت تحت
الثرى، أو حال المرض دون صيامهم وقيامهم؛ فيا من بلغتَ الشهر الكريم، وصِرتَ من
أهل صيامه وقيامه، وعرفتَ فضل هذا الشهر المُبارك، فحافظتَ على الصلاة في المسجد،
وواظبتَ على تلاوة القُرآن وتدبَّرتَ معانيه وألزمتَ نفسك بأحكامه، وقمتَ بصلة
رحمك، وتفقَّدتَ جيرانك، وأكثرتَ من الأعمال الصالحة، وأخرجتَ الصدقات وزكاة فطرك.
يا من فعلتَ كل ذلك في رمضان، وقلتَ إن (رمضان غيَّرني)، إذا كانت عبادتك لرمضان
فإنّ رمضان قد انقضى ومضى، وإن كانت عبادتك لله فإنّ الله حيٌّ لا يموت، ورب رمضان
هو رب شوال ورب الشهور كلها. لا تنتكس ولا تكسل، ولا تدع عزيمتك تفتر، ولا تسمح
لإرادتك أن تضعف، لا تتخاذل، لا تكن رمضانياً ولكن كُن ربانياً؛ استمر وثابر، ولا
تقطع صلتك بجميل ما فعلتَ في رمضان، حافظ على همتك، وواصل ما تعودتَ على فعله في
رمضان. أخلص النية، تجد الإعانة والتيسير من الله عزَّ وجلَّ.
اللهم اجعل رمضان شاهداً لنا لا علينا، واغفر لنا وارحمنا، وتجاوز عن
تقصيرنا، وساعدنا اللهم على أن نُغيِّر أنفسنا للأفضل، وأعنِّا على الثبات
والاستمرار في الطاعات والقُربات بعد انتهاء الشهر المُبارك، إنك سُبحانك وليّ ذلك
والقادر عليه.
https://bit.ly/43XMIMj