الجمعة، 28 يوليو 2017

خُلُقُه القرآن

الجمعة 28 يوليو 2017م

خاطرة الجمعة /٩٤
(خُلُقُه القرآن)

"بكم تبيع دينك؟"، كان هذا سؤالي وجهته إلى صديقٍ عزيز، تعجب مما قلت فرَّد علي: "أأنت الذي يسأل هذا السؤال يا رجل؟!"، قلت له: "إنه أمرٌ يؤرقني هذه الأيام؛ لا يكاد يمر يومٌ إلا وأطالع في الأخبار من يبيعون دينهم بأبخس الأثمان، ما بين من يقتل أمه لرفضها إعطاءه بعض المال، إلى من يزني بزوجة صديقه لشهوةٍ عابرة، إلى من يغش الناس ويبيع لهم أغذيةً فاسدةً أو أدويةً مغشوشة أو قطع غيارٍ مقلدة، إلى قاضٍ مناطٍ به إقامة العدل بين الناس فإذا به ذراع بطشٍ وظلمٍ يحكم بين الناس بغير الحق، إلى طبيبٍ لم يحترم شرف مهنته فتحول إلى تاجرٍ يبحث عن المال من الفقير قبل الغني، إلى رجل دينٍ يقدم الفتاوى على هوى من يطلبها من أصحاب النفوذ والسلطان ثم تراه أخرس أبكم لا يسمع ولا يرى ولا يتكلم عندما يرى بأم عينيه المظالم والمفاسد ومخالفة شرع الله والخروج السافر عن الدين، إلى مُعلمٍ مات ضميره فلم يعد يُعَلِّم بالمدرسة ومع ذلك تراه مبدعاً في الدروس الخصوصية والمجموعات وفيما اُشتهر بالسناتر، إلى تاجرٍ تملكه الجشع دون وازعٍ من دينٍ أو أخلاق فاحتكر السلع ورفع الأسعار وشق على الناس، إلى إعلاميٍ ابتعد عن المهنية وبدلاً من توعية الناس بالحقائق أصبح وسيلةً لنشر الأكاذيب وبيع الأوهام وبدلاً من تقديم نقدٍ موضوعيٍ مهذبٍ صار يتبارى مع أمثاله أيهم أكثر دناءةً وبذاءةً وافتراءً وتشويهاً لأصحاب الرأي الآخر، إلى فنانٍ ابتعد بالفن عن رسالته السامية وجعل منه أداةً لنشر الفسق والفجور والرذيلة وتحول إلى قدوةٍ سيئةٍ للشباب. والأمثلة كثيرةٌ عصيةٌ من كثرتها على الحصر. ألا يبيع هؤلاء دينهم بثمنٍ بخسٍ: مالٍ أو شهوةٍ أو شهرةٍ أو منصبٍ أو عرضٍ دنيويٍ زائل؟". سكت صديقي لحظةً ثم قال: "معك حق؛ البعض يصلي ويصوم ويزكي ويحج، ويطيل لحيته ويقصر جلبابه، وتتوقع أن يكون (خُلُقُه القرآن) لكنه لا يتورع عن أن يبيع دينه في تعاملاته مع غيره فيحلف كذباً أو يشهد زوراً أو يغش أو يدلس أو ينافق أو ينصب على غيره مقابل دراهم معدودة، والبعض يعتبر ذلك ذكاءً وشطارة!"، قلت: "قد يعتبر نفسه ذكياً من يبيع آخرته بدنيا يصيبها هو، لكن ماذا تقول فيمن يبيع آخرته بدنيا يصيبها غيره؟! ولله در الشاعر حين قال:
عَجِبْتُ لِمُبْتَاعِ الضَّلالَةِ بالْهُدَى
ولِلْمُشْتَرِي دُنْيَاهُ بِالدِّينِ أَعْجَبُ
وَأَعْجَبُ مِنْ هَذَيْنِ مَنْ بَاعَ دِينَهُ
بِدُنْيَا سِواهُ فَهْوَ مِن ذَيْنِ أَخْيَبُ".

أحبتي إن كل بعدٍ عن تطبيق الدين في حياتنا وتحويل قيمه النبيلة الرائعة إلى سلوكٍ يوميٍ بحيث يكون كلٌ منا (خُلُقُه القرآن) هو بيعٌ للدين من حيث لا ندري ومن حيث لا نقصد؛ خاصةً عندما يكون ذلك وسط أجانب يحكمون على الإسلام من خلال معاملاتنا وسلوكنا؛ انظروا ما حدث قبل عدة سنواتٍ عندما انتقل إمام إحدى المساجد إلى مدينة لندن ببريطانيا وكان يركب الحافلة دائماً من منزله إلى مدينةٍ أخرى، وكان أحياناً كثيرةً يستقل نفس الحافلة بنفس السائق. بعد انتقاله بأسابيع، استقل الحافلة ودفع الأجرة للسائق ثم جلس، فاكتشف أن السائق أعاد له عشرين بنساً زيادةً عن المفترض من الأجرة، فكر الإمام وقال لنفسه أن عليه إرجاع المبلغ الزائد لأنه ليس من حقه، ثم فكر مرةً أخرى وقال في نفسه انس الأمر فالمبلغ زهيدٌ وقليلٌ ولن يهتم به أحد، كما أن شركة الحافلات تحصل على الكثير من المال ولن ينقص عليهم شيءٌ بسبب هذا المبلغ الزهيد، إذن سأحتفظ بالمال وأعتبره هديةً من الله. توقفت الحافلة عند المحطة التي يريدها الإمام ولكنه قبل أن يخرج من الباب توقف لحظةً ومد يده وأعطى السائق العشرين بنساً وقال له: "تفضل، أعطيتني أكثر مما أستحق من المال"، فأخذها السائق وابتسم وسأله: "ألست الإمام الجديد في هذه المنطقة؟ إنني أفكر منذ مدة في الذهاب إلى مسجدكم للتعرف على الإسلام ولقد أعطيتك المبلغ الزائد عمداً لأرى كيف سيكون تصرفك". وعندما نزل الإمام من الحافلة شعر بضعفٍ في ساقيه وكاد أن يقع أرضاً من رهبة الموقف فأمسك بأقرب عامود نور ليستند عليه، ونظر إلى السماء ودعا باكياً: "يا الله! كنت سأبيع الإسلام بعشرين بنساً".
وهذه واقعةٌ أخرى حدثت في فرنسا لها علاقةٌ هذه المرة ليس ببيع الدين فقط بل وشرائه كذلك! امرأةٌ مسلمةٌ تضع النقاب تقوم بالتسوق في سوبر ماركت وبعد الانتهاء من التبضع ذهبت إلى الصندوق لدفع ما عليها من مستحقات، موظفة الصندوق امرأةٌ متبرِّجةٌ كاسيةٌ عاريةٌ واضح أنها من أصولٍ عربية، نظرت إلى المنقبة نظرة استهزاءٍ ثم بدأت تحصي السلع وتقوم بضرب السلع على الطاولة، لكن الأخت المنقبة لم تحرك ساكناً وكانت هادئة جداً مما زاد تلك العربية غضباً فلم تصبر وقالت لها وهي تستفزها: "لدينا في فرنسا عدة مشاكل وأزمات، ونقابك هذا مشكلةٌ من المشاكل؛ فنحن هنا للتجارة وليس لعرض الدين أو التاريخ. إذا كنت تريدين ممارسة الدين أو وضع النقاب فاذهبي إلى وطنك ومارسي الدين كما تشائين". توقفت الأخت المسلمة المنتقبة عن وضع السلع في الأكياس، ونظرت حولها فلم تجد رجلاً في المحل، فتقدَّمت إلى العربيَّة ثم قامت بنَزع النقاب عن وجهِها فإذا هي شقراء زرقاء العينَين، وقالت: "أنا فرنسيّةٌ مسلمةٌ، أبي وأجدادي فرنسيُّون، هذا إسلامي، وهذا وطني، أنتم بعتم دينكم، ونحن اشتريناه!".

قد لا نرى أبداً ردود فعل البشر تجاه تصرفاتنا، فأحياناً ما نكون نحن بتصرفاتنا وسلوكنا القرآن الذي سيقرأه الناس أو الإسلام الذي سيراه غير المسلمين؛ لذا يجب أن يكون كلٌ منا مثلاً وقدوةً للآخرين، ولنكن دائماً صادقين أمناء لأننا قد لا ندرك أبداً من يراقب تصرفاتنا، ويحكم علينا كمسلمين وبالتالي يحكم على الإسلام.

وأخطر الناس في بيعه للدين رجل دينٍ باع دينه خوفاً من قول كلمة حقٍ أو طمعاً في رضا صاحب سلطةٍ أو سلطان، ومثل هذا قال الشاعر فيه:
لحاكمٍ أشبهت خوصاً جشيشا
تــغـص بـهـا دواب الـمـسلمينا
وسـحـنـاتٌ لـكـم مـنـها مـلـلنا
وأقــــوالٌ سـئـمـنـاها سـنـيـنا
وعـند الـجد أُخـرستم فـسحقاً
غـــدوتــم لــعـبـةً لـلـحـاكـمينا
فـبـعـتم ديـنـكـم لـهـمُ بـعـرَضٍ
زهـيـدِ ولـــن تـكـونوا خـالـدينا
بـــذي الـدنـيا ولـبـستم عـلـينا
شريعـتنا العـظـيمة قـاصدينا
فـصبـراً إن مـوعـدنـا قـريـبٌ
أمــام الــحـق ربِ الـعـالـمينا

وهناك مِن الكتاب والصحفيين وممن يعتبرون أنفسهم الصفوة من المثقفين مَن باع دينه فكتب عنه الشاعر يقول:
لن أقول بعد اليوم عذراً
فكلماتكم حقدٌ
وشهدُكم مرٌّ بليد
وأنتم اكتسيتم
عاراً وذلاّ
أقلامكم بيعت
بأسواق النخاسة والعبيد
تكتبون حقداً
يشيب له الوليد
وأنتم بعتم دينكم بدنياكم
خسئتم
يا أحقر خلق الله يا عبيد

أحبتي .. نصيحتي لنفسي أولاً ثم لكم .. حتى لا نكون، والعياذ بالله، ممن يبيعون دينهم، أن نتأسى برسول الله صلى الله عليه وسلم، في كل أقوالنا وأفعالنا، وفي أخلاقنا ومعاملاتنا، وسلوكنا وتصرفاتنا، فهو إمامنا وقدوتنا، وهو الذي قال فيه سبحانه وتعالى: ﴿لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾. قالت السيدة عائشة رضي الله عنها لما سُئلت عن خُلُقه عليه الصلاة والسلام، قالت: "كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ"، ومعنى ذلك أنه ما من خُلُقٍ حث عليه القرآن كالصدق والإخلاص والأمانة والوفاء والتواضع والكرم والشجاعة والإيثار ... إلخ إلا كان النبي صلى الله عليه وسلم أكمل الناس تخلقاً به، وما من خُلُقٍ نهى عنه القرآن كالكذب والكبر والعجب والحسد والغدر والخيانة والجبن والبخل والنفاق والرياء .... إلخ إلا كان النبي صلى الله عليه وسلم أشد الناس اجتناباً له، ولهذا وصفه ربه سبحانه فقال: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾، وهذا يرشدنا إلى أن أخلاقه عليه الصلاة والسلام كانت الاستقامة على ما في القرآن من أوامر ونواهٍ؛ بالتخلق بالأخلاق التي مدحها القرآن العظيم وأثنى على أهلها، والبعد عن كل خُلقٍ ذمه القرآن.
وهذا ما يجب أن نكون نحن وكل مسلمٍ عليه، أن نكون جميعاً ممن يُوصف بأن (خُلُقُه القرآن).
قال حكيم: "لا تخبر الناس كم تحفظ من القرآن الكريم، بل دعهم يرون فيك قرآناً يمشي على رجلين: اطعم جائعاً، اكس عارياً، ساعد محتاجاً، عَلِّم جاهلاً، ارحم يتيماً، سامح مسيئاً، بِرّ والديك، ابتسم للجميع. فليس العبرة أين وصلت في حفظ القرآن؟ إنما أين وصل القرآن فيك!

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدة، إنْ أَذِنَ الله وأمَّد في أعمارنا.

تقبل الله منا ومنكم.

http://goo.gl/mPF833