الجمعة، 26 نوفمبر 2021

مكانة الأب

 

خاطرة الجمعة /319


الجمعة 26 نوفمبر 2021م

(مكانة الأب)

يقول أحد أساتذة الجامعة في سوريا: في عام 1972م دعا رئيس جامعة اللاذقية "تغير اسمها وصارت الآن جامعة تشرين" جميع أساتذة الجامعة آنذاك إلى العشاء في منزله بمناسبة مرور عام على تأسيس الجامعة، كان من بين المدعوين عميد كلية الشريعة في جامعة دمشق، والذي كان -وبرغم مشاغله وارتباطاته الكثيرة- قد قبل أن يأتينا من دمشق كل يوم أربعاء لتدريس مادة القرآن الكريم في قسم اللغة العربية، فكنّا نستضيفه تلك الليلة ليعود إلى دمشق بعد ظهر الخميس. كنتُ أعمل آنذاك في تأسيس مكتبة الجامعة، إذ لم تكن هذه المكتبة موجودةً قبل ذلك الوقت، وحدث أن زارني رئيس الجامعة في مكتبي وأنا أستضيف عميد كلية الشريعة عندي، فوجّه إلينا معاً الدعوة لحضور العشاء مساء يوم الخميس. أجبتُ من فوري بقبول الدعوة شاكراً، ولكن الدكتور العميد طلب بلطفٍ أن يستأذن والده في دمشق أولاً!

لا أدري أيّنا كان وقع المفاجأة عليه أكبر، أنا أم رئيس الجامعة؟ فأن يعتذر العميد بأي عذرٍ آخر سيبدو أمراً عادياً لا غبار عليه، أما أن يطلب أستاذٌ جامعيٌ كبيرٌ -كان في الأربعين من عمره وقتها، وأبناؤه طلابٌ في الجامعة، وهو عميدٌ لكليةٍ كبيرةٍ ككلية الشريعة، وفي جامعةٍ كبيرةٍ كجامعة دمشق، أن يطلب الإذن من والده لحضور عشاءٍ وتمديد زيارته للاذقية من مساء الخميس إلى صباح الجمعة، فهذا أمرٌ كان وقعه عليّ -وعلى رئيس الجامعة كما تؤكد ملامح الذهول في وجهه- وقع الصاعقة، ومع ذلك فقد استجمع رئيس الجامعة قواه وعدّل ملامح وجهه بسرعة الدبلوماسي الحكيم وتوجّه إليّ قائلاً : "اذهب يا بسّام مع الدكتور العميد إلى مكتبي ليتصل من هاتفي المباشر هناك بوالده في دمشق". المفاجأة لم تنتهِ بعد؛ ففي مكتب رئيس الجامعة أمسك الدكتور العميد بسماعة الهاتف، وسمعتُ منه وهو يحدث والده العبارات التالية التي أحاول أن أنقلها هنا حرفياً: "السلام عليكم أبي"، "السيد رئيس الجامعة دعاني مع بقية الأساتذة مساء غدٍ للعشاء في منزله، فهل أستطيع حضور المأدبة وأعود إلى دمشق صباح الجمعة؟"، "شكراً أبي ... السلام عليكم"، ووضع السماعة؛ فقلتُ له مجاملاً: "الحمد لله، هكذا أصبحت الأمور أسهل وتستطيعون الآن البقاء باطمئنان"، وكانت المفاجأة الثانية تنتظرني على لسان العميد: "لا والله، لا أستطيع؛ أبي ما وافق". لن تتصور أبداً معالم المفاجأة على وجهي، ولا على وجه رئيس الجامعة حين وصفتُ له بدقةٍ ما جرى على الهاتف قال: "هل هذا معقول؟! بغير نقاشٍ ولا حوارٍ ولا إلحاحٍ، ولا حتى كلمة رجاءٍ أو محاولة ثني والده عن رأيه!!".

الأغرب من هذا أنني حين قدّمتُ أستاذنا الدكتور العميد قبل سنواتٍ لجمهور الحاضرين في أكاديمية أوكسفورد، وهو يستعدّ لإلقاء محاضرته، وسمعني وأنا أقصّ عليهم هذه القصة، نظر إليّ نظرةً هادئةً كمن ينظر إليك متوقعاً بقيّة النكتة، وعيناه تقولان لي: "نعم؟ وماذا في هذا؟ أين وجه الغرابة في هذه القصة".

إنها (مكانة الأب) التي ينبغي أن يُحافظ عليها الأبناء.

 

أحبتي في الله .. وعن البر بالأب أسوق لكم هذه القصة المؤثرة التي تُبين (مكانة الأب) في نفوس أبنائه: كان هناك رجلٌ عليه دَيْنٌ, وفي يومٍ من الأيام جاءه صاحب الدَيْن وطرق عليه الباب؛ ففتح له أحد الأبناء فاندفع الرجل بدون سلامٍ ولا احترامٍ وأمسك بتلابيب صاحب الدار وقال له: "اتقِ الله وسدد ما عليك من الديون فقد صبرتُ عليك أكثر من اللازم، ونفد صبري، ماذا تراني فاعلٌ بك يا رجل؟"، هنا تدخل الابن والدموع في عينيه، وهو يرى والده في هذا الموقف، وقال للرجل: "كم على والدي لك من الديون؟"، قال: "أكثر من تسعين ألف ريال"، فقال الابن: "اترك والدي واسترح وأبشر بالخير"، ودخل الشاب إلى غرفته حيث كان قد جمع مبلغاً من المال قدره سبعةٌ وعشرون ألف ريالٍ من راتبه ليوم زواجه الذي ينتظره، ولكنه آثر أن يفك به ضائقة والده ودَيْنه على أن يُبقيه في دولاب ملابسه. عاد إلى المجلس وقال للرجل: "هذه دفعةٌ من دَيْن الوالد قدرها سبعةٌ وعشرون ألف ريالٍ، وسوف يأتي الخير ونسدد لك الباقي في القريب العاجل إن شاء الله". هنا بكى الأب وطلب من الرجل أن يُعيد المبلغ إلى ابنه؛ فهو محتاجٌ له، ولا ذنب له في ذلك، فأصرّ الابن على أن يأخذ الرجل المبلغ، وودعه عند الباب طالباً منه عدم التعرض لوالده، وأن يُطالبه هو شخصياً ببقية المبلغ. ثم تقدم الابن إلى والده وقبّل جبينه وقال: "يا والدي قدرك أكبر من ذلك المبلغ، وكل شيءٍ يُعوض إذا أمد الله عمرنا ومتعنا بالصحة والعافية، فأنا لم أستطع أن أتحمل ذلك الموقف، ولو كنتُ أملك كل ما عليك من دَيْن لدفعته له ولا أرى دمعةً تسقط من عينيك على لحيتك الطاهرة". احتضن الشيخ ابنه وأُجهش بالبكاء وأخذ يُقبله ويقول: "الله يرضى عليك يا ابني، ويوفقك ويُحقق لك كل أمانيك". بعد يومين، وبينما كان الابن منهمكاً في أداء عمله الوظيفي زاره أحد الأصدقاء الذين لم يرهم منذ مدةٍ، وبعد سلامٍ وسؤالٍ عن الحال والأحوال قال له ذلك الصديق: "يا أخي؛ أمس كنتُ مع أحد كبار رجال الأعمال، وطلب مني أن أبحث له عن رجلٍ مخلصٍ وأمينٍ وذي أخلاقٍ عاليةٍ، ولديه طموحٌ وقدرةٌ على إدارة العمل، وأنا لم أجد شخصاً أعرفه تنطبق عليه هذه الصفات إلا أنت، فما رأيك أن نذهب سوياً لتقابله هذا المساء؟"، فتهلل وجه الابن بالبُشرى وقال: "لعلها دعوة والدي وقد أجابها الله"، فحمد الله كثيراً. وفي المساء كان الموعد فما إن شاهده رجل الأعمال حتى شعر بارتياحٍ شديدٍ تجاهه وقال: "هذا هو الرجل الذي أبحث عنه"، وسأله: "كم راتبك؟"، فقال: "ما يقارب الخمسة آلاف ريال"، فقال له: "اذهب غداً وقدم استقالتك، وراتبك خمسة عشر ألف ريالٍ، وعمولةٌ من الأرباح 10%، وراتبان: بدل سكن وسيارة، وراتب ستة أشهرٍ تُصرف لك لتحسين أوضاعك". وما أن سمع الشاب ذلك حتى بكى وهو يقول: "أبشر بالخير يا والدي"، فسأله رجل الأعمال عن سبب بكائه؟ فحدثه بما حصل له قبل يومين، فأمر رجل الأعمال فوراً بتسديد ديون والده، وكانت محصلة أرباح هذا الشاب في العام الأول لا تقل عن نصف مليون ريال.

 

وهذه قصةٌ واقعيةٌ تُبين (مكانة الأب) وحرص الابن على البر بأبيه، وتُبين في ذات الوقت ذكاء المؤمن وفطنته في التعامل مع المواقف الحياتية اليومية؛ ألم يَرِد في الأثر أنّ "الْمُؤْمِنُ كَيِّسٌ فَطِنٌ"؟

تدور أحداث القصة حول رجلٍ عجوزٍ مُسنٍ يُقيم في فلسطين، تم اعتقال ابنه الوحيد من قِبل الإسرائيليين؛ ليعيش هذا الرجل العجوز وحيداً في منزله. وفي ذات يومٍ قرر هذا الرجل العجوز أن يقوم بزراعة أرضه الزراعية، ولكن هذا المسكين كان بمفرده، فتذكر ابنه وحزن لأنه كان يُساعده ويقوم بكل شيءٍ، فقام الأب بكتابة خطابٍ لولده قال له فيه أنه مشتاقٌ إليه كثيراً، وأنه يحبه كثيراً جداً، ويتمنى لو كان بجانبه ليعاونه على حرث الأرض تمهيداً لزراعتها. وصل الخطاب للابن في سجنه؛ فرد بخطابٍ مضمونه ألا يقوم الأب بحرث الأرض لأنه قد وضع بها أسلحة. لم يمر يومٌ واحدٌ إلا ووجد الأب العجوز القوات الإسرائيلية جاءت لتقوم بتقليب الأرض بحثاً عن تلك الأسلحة، لكنهم لم يجدوا شيئاً، ثم تلقى الأب خطاباً آخر من ابنه يقول له: "ها قد تم تقليب الأرض وحرثها وأصبحت جاهزةً للزراعة! لا تقلق أبي؛ سوف أساعدك في العام القادم أيضاً، حظاً موفقاً يا أبي".

 

وقد وردت في القرآن الكريم آياتٌ كثيرةٌ تؤكد على أهمية البر بالوالدين، وللأب منها نصيب. أما ما ورد لبيان (مكانة الأب) والبر به بصفةٍ خاصةٍ فقد كانت قصة سيدنا إبراهيم عليه السلام مع أبيه آزر، ثم قصة سيدنا إبراهيم مع ابنه إسماعيل خير مثالٍ على ذلك؛ فها هو سيدنا إبراهيم يُخاطب أباه المشرك بأرق وألطف الألفاظ فيقول له في أكثر من موضع ﴿يَآبَتِ﴾، ثم تدور الأيام، فيكون سيدنا إبراهيم هو الأب، ويكون ابنه إسماعيل عليه السلام هو الابن البار الذي يعرف (مكانة الأب) فيطيعه في أغرب أمر؛ ألا وهو أمر ذبحه؛ يقول تعالى على لسان إبراهيم الخليل: ﴿يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى﴾، فيكون رد الابن البار دون تردد: ﴿يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ﴾.

 

وفي السُنة المشرفة وردت في (مكانة الأب) وعظيم حقه العديد من الأحاديث النبوية منها؛ قال صلى الله عليه وسلم: [لا يَجْزي وَلَدٌ والِدًا إلَّا أنْ يجِدْهُ مَمْلوكًا فَيَشْتَريَهُ فَيُعْتِقَهُ]، أي لا يكافئه بإحسانه وقضاء حقه إلا أن يعتقه. وقال عليه الصلاة والسلام: [الْوالِدُ أَوْسَطُ أَبْوابِ الجَنَّةِ، فَإنَّ شِئْتَ فَأضِعْ ذَلِكَ البَابَ أَوْ احْفَظْه].

وقال صلى الله عليه وسلم: [أَنْتَ وَمالُكَ لِأَبيكَ]، واللام هنا للإباحة وليست للتمليك، أي أنه لا يأخذ من مال ابنه إلا بقدر الحاجة، والحديث كناية عن شدة البر بالآباء، ولا تعني أن مال الابن ملكٌ للأب يتصرف فيه كما يشاء، ولكن أن يبر الابن أباه ويُكرمه ولا يبخل عليه بشيء مع الحفاظ على الذمم المالية مستقلة.

كما ورد عنه صلى الله عليه وسلم ما يُفيد الحج عن الأب في حالة عدم الاستطاعة؛ إذ قال رجلٌ: يا رسول الله، إن أبي شيخٌ كبيرٌ، لا يستطيعُ الحجَّ ولا العُمرةَ ولا الظَّعنَ قال: [فحُجَّ عَنْ أَبيكَ وَاعْتَمِرْ].

وقال صلى الله عليه وسلم: [إنّ أبَرَّ البرِّ صِلَةُ الرَجُلِ أهْلَ وُدِّ أَبِيه]، بمعنى أن من أفضل أعمال البر أن يصل الابن من كان الأب حريصاً على صلتهم في حياته سواءً من رحمه أو أصدقائه.

 

وقد وصف بعض الفضلاء (مكانة الأب) وفضله فقالوا: إنه الصديق الصادق والأخ القريب، وهو الحاني؛ لا يمكنه تذوق طعم الراحة إلا براحة أبنائه. هو الرجل الشجاع يلتجئ إليه الأبناء في ضعفهم، ويستندون عليه في مصائبهم، هو المكافح الذي لا يعرف الكسل ولا التواكل في جني الرزق، وهو المقدام المناضل لا يعرف التعب من أجل تلبية رغبات أبنائه، وهو الصاحب الذي لا يكل من مرافقتهم في كل محلٍ ومرتحل. هو كالشجرةِ في العطاء؛ فهو يمنح بلا مقابل، وكالنهر في الحب والحنان؛ فهو دائم الحب متدفق المشاعر. هو عمود البيت، وسرّ استقراره، وهو صمام الأمان للأسرة؛ فهو يحمي أفراد أسرته من المخاطر التي تُحيط بهم، ويُحافظ على أسرته متماسكةً لا يفرقها شيءٌ. وهو المربي الصبور يُربي أبناءه ويصبر على أخطائهم، وهو المعلم الذي لا يمل من تعليمهم وإعطائهم النصائح المفيدة، كلامه يُريح القلوب ويُثلج الصدور، لا يتعب من الاستماع إلى أبنائه وإرشادهم، ولا يمل من دعمهم وتشجيعهم وإرشادهم؛ فهو طبيبهم الذي يقف على مشاكلهم ومعضلات أمورهم ويُعالجها بحكمةٍ وصبر.

 

أحبتي .. أعجبني من قال إننا مهما تحدثنا عن فضل الأب فلن نوفيه حقه ولن ننزله منزلته، فحب الأب أروع الهدايا من الله. فمن كان له أبٌ على قيد الحياة فليُقّبِل يديه، وليلزم قدميه، يُحسن صحبته، ويطلب منه الرضا، ويضعه تاجاً على رأسه. ومن كان أبوه ميتاً فليُحسن إليه بكل صنوف البِر بعد الموت، ولا يتذكره في المناسبات فقط بل في كل وقتٍ ويدعو له؛ فلا يجب ألا ينساه.

اللهم اجعلنا ممن يُحافظون على (مكانة الأب) حياً وميتاً، وألهمنا الدعاء له، ويسِّر لنا البر به.

 

https://bit.ly/30YxsAG