الجمعة، 6 سبتمبر 2024

حَمَلة المباخر

 

خاطرة الجمعة /463

الجمعة 6 سبتمبر 2024م

(حَمَلة المباخر)

 

كان «طه حسين» طالباً في الجامعة المصرية القديمة، وتقرر إرساله في بعثةٍ إلى «أوروبا» فأراد حضرة «السلطان حسين» رحمه الله أن يُكرِّمه بعطفه ورعايته، فاستقبله في قصره استقبالاً كريماً، وحباه هديةً قَيّمةَ المغزى والمعنى. وكان من خُطباء المساجد التابعين لوزارة الأوقاف، خطيبٌ فصيحٌ مُتكلمٌ مُقتدرٌ، وكان السلطان رحمه الله مواظباً على صلاة الجمعة؛ فصلى الجمعة مرةً بمسجدٍ قريبٍ من قصره، وندبت وزارة الأوقاف ذلك الخطيب لتلك الجمعة، وأراد الخطيب أن يمدح عظمة السلطان، وأن يُنوه بما أكرم به «طه حسين»، ولكن خانته فصاحته وغلبه حب التعالي في المدح، فزل زلةً لم تقم له قائمةٌ من بعدها؛ إذ قال أثناء خطبته "جاءه الأعمى فما عبس في وجهه وما تولى".

وكان من شهود هذه الصلاة الشيخ «محمد شاكر» وكيل الأزهر سابقاً -رحمه الله- فقام بعد الصلاة وقال للناس في المسجد إن صلاتهم باطلةٌ؛ لأن الخطيب كفر بما شتم به النبي صلى الله عليه وسلم تعريضاً لا تصريحاً؛ لأن الله سُبحانه عتب على رسوله الكريم حين جاءه «ابن أم مكتوم» الأعمى وهو يُحدِّث بعض صناديد قريشٍ يدعوهم إلى الإسلام، فأعرض عن الأعمى قليلاً حتى يفرغ من حديثه؛ فأنزل الله عتاب رسوله في هذه السورة الكريمة، ثم جاء هذا الخطيب الأحمق الجاهل، يُريد أن يتملق عظمة السلطان فمدحه بما يُوهم السامع أنه يُريد إظهار منقبةٍ لعظمة السلطان، بالقياس إلى ما عاتب الله عليه رسوله، فكان صنع الخطيب المسكين تعريضاً بالرسول صلى الله عليه وسلم، لا يرضى به مُسلمٌ، وفي مقدمة من يُنكره السلطان نفسه. وأمرهم الشيخ الغيور على دينه بأن يُعيدوا صلاتهم فأعادوها.

لكن الله لم يَدَع لهذا الإمام المنافق جُرمه في الدنيا قبل أن يجزيه جزاءه في الأخرى؛ فأُقسمُ بالله -يقول كاتب القصة- لقد رأيتُه بعينيّ رأسي بعد بضع سنين -وبعد أن كان مُتعالياً مُتنفخاً مُستعزاً بمن لاذ بهم من العظماء والكبراء- رأيتهُ مهيناً ذليلاً خادماً على باب مسجدٍ من مساجد القاهرة، يتلقى نعال المُصلين يحفظها لهم في ذلةٍ وصغارٍ، حتى لقد خجلتُ أن يراني، وأنا أعرفه وهو يعرفني، لا شفقةً عليه؛ فما كان موضعاً للشفقة، ولا شماتةً فيه؛ فالرجل النبيل يسمو على الشماتة، ولكن لما رأيتُ فيه من عبرةٍ وموعظة.

 

أحبتي في الله.. هكذا هو حال (حَمَلة المباخر) من المتزلفين الذين يُنافقون كل صاحب سلطةٍ، يظنون أنهم بذلك يحظون بمكانةٍ عاليةٍ عندهم، بل ويتسابقون في ذلك، ويتنافسون ويُبدعون، وكأنهم في سباقٍ للفوز بكأس عظيم المنافقين أو زعيم المتزلفين! تجدهم في كل عصرٍ وزمان، يمدحون كل ذي مُلكٍ وسلطانٍ، ويُداهنون كل مسئولٍ؛ ومن ذلك ما حدث عندما قُدِّم لأحد الأمراء طعامٌ به كثيرٌ من الباذنجان، فأكل وأعلن إعجابه به وقال: "تَميلُ نفسي إلى أكل الباذنجان"؛ فسارع أحد الخدم إلى مدح الباذنجان وبيان فضائله؛ فقال: "الباذنجان! بارك الله في الباذنجان، هو سيد المأكولات، شحمٌ بلا لحم، سمكٌ بلا حسك، يؤكل مقلياً ويؤكل مشويّاً، فهو من أشهى المآكل، إن أكلته مقليّاً بقي طعمه على لسانك طول النهار، وإن أكلته محشيّاً كان شيخ المحاشي". وبعد عدة أيامٍ قدموا للأمير الباذنجان فلم يُعجبه وقال: "أكلتُ منه قبل أيامٍ فنالني كَرْبٌ وتوجعتُ منه"؛ فسارع نفس الخادم إلى ذم الباذنجان وهجائه؛ وقال: "الباذنجان! لعنة الله على الباذنجان، فإنه ثقيلٌ غليظٌ، إنه طعامٌ رديءٌ، إن أكلته مقليّاً سبّب لك تضخّماً في المُصران، وإن أكلته محشيّاً سبّب لك أحلاماً مُزعجة، وإن أكلته مكبوساً سبّب لك الغثيان، وإن أكلته مُتبّلاً سبّب لك انتفاخاً في البطن" فقال الأمير: "ويحك! تَمدَحُ الشيءَ وتذمُّه في وقتٍ واحد؟!، أيها الأحمق مدحتَ الباذنجان بالأمس، وقلتَ إنه ألذّ وأفضل المآكل، فما بالك تهجوه اليوم وتجعل فيه كلّ العلل؟!"، فأجاب: "أنا خادم الأمير ولست خادم الباذنجان؛ إذا قال الأمير نعم قلتُ نعم، وإذا قال لا قلتُ لا!".

 

كنتُ مع أحد الأصدقاء العرب نتحدث في هذا الموضوع، فأخبرني أنه في بلدهم، وفي جمعٍ حاشدٍ، قام أحد (حَمَلة المباخر) بوصف مسئولٍ بأنه نبيٌ مرسلٌ من الله! الغريب -يقول صديقي- أنه لم يعترض على هذا الوصف أحدٌ من الحاضرين، بل وربما انتشى المسئول -والذي كان حاضراً ذلك الجمع- مما سمع!

 

ذمَّ الله سبحانه وتعالى المنافقين في العديد من آيات القرآن الكريم؛ ومن ذلك وصفهم بأنهم ﴿يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ﴾. يقول تعالى عنهم: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ . أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ﴾. ويقول سُبحانه: ﴿يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾.

 

ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: [أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فيه كانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، ومَن كَانَتْ فيه خَصْلَةٌ مِنهنَّ كَانَتْ فيه خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حتَّى يَدَعَهَا: إذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، وإذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وإذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وإذَا خَاصَمَ فَجَرَ].

 

يقول أهل العلم إن النفاق هو إظهار المرء خلاف ما يُبطن، وينقسم إلى: نفاق اعتقادٍ، ونفاق عمل؛ أما نفاق الاعتقاد فهو أن يُبطن الإنسان الكفر ويُظهر الإسلام، وهذا صاحبه مخلدٌ في الدرك الأسفل من النار؛ فهو ليس في عداد الموحدين. وأما نفاق العمل -وهو المنتشر بين الناس الآن- فصاحبه مُوحِدٌ غير مُخلدٍ في النار، لكنه مُحاسبٌ على نفاقه الذي فيه خيانة الأمانة، والكذب في الحديث، وعدم الوفاء بالعهد، والفجور في الخصومة، وهذه هي صفات (حَمَلة المباخر) الذين يمدحون كل ذي سلطةٍ طمعاً في رضاه أو خوفاً من بطشه.

 

إن نفاق العمل أو قُل النفاق الاجتماعي صار -للأسف- مُنتشراً بين الناس، وأكثر ما يكون في مدح المُلوك والسلاطين والحُكَّام حتى أن دراسةً منشورةً تقول إنَّ الأُمراء العرب قديماً وظَّفوا شعراءَ كثيرينَ في بلاطهم، مُهمتهم مدحُ الأُمراءِ. وقد وثَّقوا هذا المدح في سجلات الشعرِ بعد أن صاغوا النِّفاق في طرائفَ خالدةٍ في أدبنا العربي؛ من أبرزَها بيت الشعر الذي قاله أحدهم، بعد حدوثِ زلزالٍ في «مصر»، قال:

ما زُلزلت مِصرُ من كَيدٍ ألمَّ بها

بل رقصتُ من عَدلِكم طَرَبا

ولم يتوقف النِّفاقُ على هذه الصورة الغريبة، بل وصل الحالُ ببعضِ الشعراءِ إلى أنَّهم انتهكوا المُقدسات، فهذا شاعرٌ أندلسيٌ يمدح أحد السلاطين بقصيدةٍ كان مطلعها:

شرُفت بك الآفاقُ وانقسمت

بك الأرزاقُ والآجالُ والأعمار!

فكان هذا البيت سبباً في ظهور المثل الشهير "أول القصيدة كُفر"!

وهذا آخر مَدَحَ أحد السلاطين؛ فقال:

ما شئتَ، لا ما شاءتْ الأقدارُ

فاحكم فأنتَ الواحدُ القهَّارُ

وكأنما أنتَ النبيُ محمدٌ

وكأنما أنصارُك الأنصارُ

أنت الذي كانت تُبشِّرنا به

في كتْبها الأخبارُ والأحبارُ

هذا الذي تُرجىَ النجاةُ به

وبه يُحَطُّ الإصرُ والأوزارُ

أما هذا الشاعر فقد صاغ الأبيات التالية يصف بها السلطان وهو ذاهبٌ إلى صلاة العيد:

يَجِدُونَ رُؤْيتكَ التي فازوا بها

مِنْ أَنْعُم الله التي لا تُكْفَرُ

ذكَروا بطلعتِكَ النَّبيَّ، فهلُّلوا

لمَّا طلعتَ عن الصُّفوفِ وكبَّروا

حتى انتهيتَ إلى المُصَلَّى، لابسًا

نُورَ الهُدى يبدو عليك ويَظهرُ

ومَشَيْتَ مِشْيَةَ خاشِعٍ متواضِعٍ

لله لا يُزْهَى ولَا يَتَكَبرُ

فلوَ أنَّ مُشتاقًا تكلَّفَ فوقَ ما في

وُسْعِهِ لمشَى إليكَ المِنْبَرُ!

كما نرى أحدهم يمدح سلطاناً قائلاً: "كأنك بعد الرسولِ رسولُ"، بينما وصف غيره بأنه "ظِلُ الله الممدودُ بينه وبين خَلْقِه"، ويرفع شاعرٌ مَلِكاً إلى أعلى ما نتخيل واصفاً إياه قائلاً:

ألم ترَ أن الله أعطاكَ سُورةً

ترى كلَ مُلْكٍ دُونها مُتذبذبُ

فإنك شمسٌ والنجومُ كواكبُ

إذا طلعتَ لَمْ يَبدُ مِنهن كوكبُ

وانتهت الدراسة إلى القول: إنَّ النفاق، والمدح الزائف من أبرز تُراث العرب الشِعري، وما مادحو الأمراء والسلاطين من الإعلاميين المعاصرين سوى نُسخةٍ مُشوَّهةٍ من أدب المدح العربي، إنها نُسخةٌ تخلو من الإبداع والطرافة، هُم مُقلدون، غير مُبدعين!

 

يقول أحد العُلماء إن أزمتنا المُعاصرة تكمن في تفشي تلك الظاهرة لدرجة اعتبارها أسلوب حياةٍ ولغة عصرٍ وشعار زمانٍ، وتتطور في بعض الأمم لتصبح حالةً كارثيةً من الكذب الصريح، وطمس الوقائع، وتزييف الحقائق، وتحريف الكلم عن مواضعه. وكثيرٌ من (حَمَلة المباخر) هُم من المنافقين الذين يأكلون على كل الموائد؛ فهُم أشخاصٌ تطأ هاماتهم وجباههم الأرض، ويلعقون الثرى تقرباً وتودداً لمن يبغون مصلحتهم عنده، ثم لا يمنعهم ذلك من أن يهيلوا التراب عليه إذا انقضت غاياتهم منه، أو ذَوَىَ مَن تملقوه عن منصبه فأصبح لا حول له ولا قوة. وإنْ تعجب فعجبٌ أن تعرف أن هناك درجاتٍ في إتقان النفاق، وأعظم المنافقين وأعلاهم درجةً هو الذي لا يُدرِك أنه يُنافق لأنه يكذب بصدق!

 

يقول الشاعر:

لا يخدعنك هتافُ القومِ بالوطنِ

فالقومُ في السرِ غيرُ القومِ في العلنِ

 

أحبتي.. يُقال إن خيطاً رفيعاً يفصل بين المُجاملة والنفاق، لذا لا يجب أن نُبالغ في المُجاملة حتى لا نسقط في بئر النفاق، ولا نُبالغ في الصراحة حتى لا نسقط في وحل الوقاحة. ولا يجب علينا أن نخلط بين محادثة الناس بلين الكلام، ومناداتهم بأفضل ما يُحبون، وبين النفاق الذي يبغي الشخص من ورائه تحقيق نفعٍ أو تجنب ضرر. ولنَحذر المنافقين من حولنا؛ حيث تقول الحكمة: "إذا سمعتَ إنساناً يقول فيك من الخير ما ليس فيك، فلا تأمن أن يقول فيك من الشر ما ليس فيك".

اللهم لا تجعلنا من المنافقين، وطهِّر قلوبنا حتى لا نُنافق غيرنا ولا نُفتن بما يُنافقنا به الغير، واهدنا واكتبنا اللهم من المتقين الصادقين.

https://bit.ly/3AX207y