الجمعة، 18 مايو 2018

الحكمة من الصوم


الجمعة 18 مايو 2018م

خاطرة الجمعة /135
(الحكمة من الصوم)

دُهشت من خبرٍ تناقلته وكالات الأنباء العالمية الأسبوع الماضي، لم أصدقه إلا بعد أن شاهدت ما يتحدث عنه الخبر بأم عينيّ في مقطعٍ بالصوت والصورة منشورٍ على الإنترنت. يقول الخبر أن نائباً برلمانياً كندياً غير مسلمٍ سيصوم هذا العام شهر رمضان، وأن هذه هي المرة الثانية التي يقوم فيها بذلك. قال النائب إنه "يريد بذلك أن يفهم كيف يحس الفقراء حول العالم بالجوع". وأضاف موضحاً أنه "يدعم من خلال صيامه منظمةً خيريةً غير ربحية". وأشار إلى أنه "يجمع أموال الطعام التي يقتصدها في شهر رمضان ليمنحها للمحتاجين". ووفقاً لقوله، فإن تجربته مع الصيام في العام الماضي جعلته "يحس الجوع الذي يعيشه الفقراء والمحتاجون يومياً حول العالم". وحول لذة الإفطار، قال: "بالنسبة لأعدادٍ كبيرةٍ من الأطفال، فإن تلك اللذة لا تأتيهم أبداً، حيث يتوجب عليهم العيش مع الجوع، إنهم يحاولون التعلم لضمان مستقبل أفضل ببطونٍ فارغةٍ". وهنأ الجميع بحلول شهر رمضان المبارك، وأعلن أنه سينضم إلى المسلمين في صومهم هذا العام، وأن الطعام الذي سيقتصده سيذهب ثمنه لأغراضٍ خيريةٍ. وقد رحب البرلمان الكندي بهذه المبادرة بحفاوةٍ كبيرةٍ.

ذكرني هذا الخبر بقصةٍ واقعيةٍ حدثت لشخصٍ نصرانيٍ في شهر رمضان المبارك، يحكيها بنفسه فيقول: كنت أتعجَّب من المسلمين في بلدتي، كيف كانت وجوهُهُم تتقلَّب في السماء، عندما يقترب شهر رمضان، كأنهم ينتظرون إشارةً من خالق الكون من فوقهم ليقوموا بشيءٍ ما، فلما يروا الهلال، يفرحوا فرحاً عظيماً، كأنهم بُشـِّروا بأعظم البشرى، ولم أتوقّع أن يكون فرحهم بأنهم سيمتنعون طواعيةً عن كل الشهوات على مدى شهـرٍ كاملٍ طيلة النهار كلِّه، هذه الشهوات التي يتقاتل بنو البشر عليها وتُخاض الحروب التي تفتك بالملايين من أجلها! بل وأنهم سيقومون أيضاً بالسهر طوال الليل للصلاة ومناجاة ربهم!. لقد أخذ هذا الموضوع بلبِّي، واستحوذ على قلبي، فقررت أن أصوم معهم، وأنا لا أعرف من الإسلام سوى اسمه! كنت أمتنع عن الأكل والشرب وإتيان زوجتي إذا ذهب المسلمون لصلاة الصبح، وكنت أفطر إذا سمعت أذان المسجد لصلاة المغرب، بل وكنت أذهب فأصلي معهم في الليل صلاة التراويح؛ وأصنع مثل ما يصنعون قياماً وركوعاً وسجـوداً، غير أنني لا أتكلم بشيءٍ، فأجـد راحةً عجيبةً، وسكينةً لم تعرفها روحي من قبل، حتى إذا انتصف الشهر، لاحظ أحد المصلين أنني غريبٌ عن القوم، فسألني عن أمري، فدُهش من قصتي اندهاشاً حمله على أن يجمع الناس ليسمعوا مني، فلما سمعوا قصتي علموني الإسلام، فنطقت بالشهادتين، فكبَّروا وقالوا أنت أسلمت على يد رمضان، وسموني رمضان!

وهذه قصةٌ أخرى لشخصٍ مسلمٍ استقبل شهر رمضان بكثيرٍ من الذنوب والآثام: نظرٌ للحرام، وأكلٌ للأموال بالباطل، وفعلٌ للفواحش والآثام، وتضييعٌ للصلوات، وتفريطٌ في الطاعات، وغفلةٌ ما بعدها غفلةٌ عن ربه ومولاه. استقبل شهر رمضان وفي قلبه قسوةٌ وفي نفسه وحشةٌ، يعيش في ضيقٍ وهمومٍ لما يغشاه من المعاصي والآثام، لكنه ما إن أدرك رمضان إلا وتذكر قول الله تعالى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾، وسمع أحد الوعاظ يروي حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: [إِنَّ لِلَّهِ عُتَقَاءَ في كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ - يعني في رمضان- لِكُلِّ عَبْدٍ مِنْهُمْ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ]؛ فتحركت في نفسه الرغبة في التوبة، وعلم أن ربه يغفر الذنوب ويستر العيوب ويقيل العثرات ويمحو السيئات.. كيف لا؟! والرسول الكريم يخبرنا: [إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ، حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا]. كيف لا؟! وهو الذي يتنزل إلى سمائه الدنيا كما أخبرنا الحبيب المصطفى بقوله: [إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُمْهِلُ حَتَّى يَذْهَبَ شَطْرُ اللَّيْلِ الأَوَّلُ، ثُمَّ يَنْزِلُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَيَقُولُ: "هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ فَأَغْفِرَ لَهُ، هَلْ مِنْ سَائِلٍ فَأُعْطِيَهُ، هَلْ مِنْ تَائِبٍ فَأَتُوبَ عَلَيْهِ"، حَتَّى يَنْشَقَّ الْفَجْرُ]. أعلنها توبةً لله؛ وبكى بين يدي ربه ومولاه، وأقلع عن ذنوبه واستغفر ربه وناجاه وقال:
يا رب إن عظمت ذنوبي كثرةً
فلقد علمتُ بأن عفوك أعظمُ
إن كان لا يرجوك إلا محسنٌ
فبمن يلوذ ويستجير المجرمُ
أدعوك ربي كما أمرتَ تضرعاً
فإذا رددتَ يدي فمن ذا يرحمُ
يا من يُرجَّى للشدائد كلها
يا من إليه المشتكى والمفزعُ
يا من خزائن ملكه في قول كن
امنن فإن الخير عندك أجمعُ
ما لي سوى فقري إليك وسيلةٌ
فبالافتقار إليك فقري أدفعُ
ما لي سوى قرعي لبابك حيلةٌ
فلئن رُددتُ فأي باب أقرعُ
ومن الذي أدعو وأهتف باسمه
إن كان فضلك عن فقيرك يُمنعُ
فإذا به يجد راحةً وانشراح صدرٍ ولذةً؛ يبكي لقراءة القرآن، يسعد بالصيام سعادةً ما عهدها من قبل، ويتلذذ بالقيام. همومٌ كثيرةٌ زالت عنه، ومازال يرجو رحمة ربه ومولاه!

أحبتي في الله .. إنه شهر رمضان الذي حرك في هؤلاء فطرتهم السليمة النقية فأدركوا (الحكمة من الصوم) فصاموا. إنه شهرٌ وصفه بعض العارفين بأنه آيةٌ من آيات الله؛ ذلك أنه لو بذل فلاسفة البشرية ومفكروها كلهم مجتمعين طلاع الأرض ذهباً على أن يجعلوا أكثر من خُمس سكان الكرة الأرضية يجتنبون الشهوات، ويتنزهون عن متاع الدنيا، ويتركون بطونهم خاويةً، ويلتفتون إلى أرواحهم ليطهروها من التعلق بعالم المادة، إلى السمو الأخلاقي الذي وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: [مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ] ليومٍ واحدٍ فقط، وليس لشهرٍ كاملٍ، لأعلنوا عجزهم، فيما نجح فيه هذا الدين العظيم!
إنه حقاً دينٌ عظيمٌ، وإن شهر رمضان المبارك لهو خير الشهور؛ فقد نزل جبريل بالقرآن فأصبح أفضل الملائكة، ونزل القرآن على محمدٍ صلى الله عليه وسلم فصار سيد الخلق، وجاء القرآن إلى أمة محمدٍ فأصبحت خير أمةٍ، ونزل القرآن في شهر رمضان فأصبح خير الشهور وأفضلها، ونزل القرآن في ليلة القدر فأصبحت خير الليالي.

ومما يجعل شهر رمضان خير الشهور وأفضلها أن من صامه إيماناً بالله وامتثالاً لأوامره وتصديقاً لما ورد في فضله محتسباً الأجر عند الله غُفر له ما تقدم من ذنبه؛ قال صلى الله عليه وسلم: [مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، وَمَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ]. وكذلك فإن الصوم يشفع للمسلم يوم القيامة، وكذلك القرآن، يوم يكون في أمس الحاجة إلى الشفاعة؛ يقول رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [الصِّيَامُ وَالْقُرْآنُ يَشْفَعَانِ لِلْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَقُولُ الصِّيَامُ: أَيْ رَبِّ مَنَعْتُهُ الطَّعَامَ وَالشَّهَوَاتِ بِالنَّهَارِ فَشَفِّعْنِي فِيهِ. وَيَقُولُ الْقُرْآنُ: مَنَعْتُهُ النَّوْمَ بِاللَّيْلِ فَشَفِّعْنِي فِيهِ. قَالَ: فَيُشَفَّعَانِ]. كما أن الصائم يفرح بما يلاقي من الأجر والنعيم عند ملاقاة الله بسبب صيامه؛ قال صلى الله عليه وسلم: [لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا؛ إِذَا أَفْطَرَ فَرِحَ، وَإِذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ]. وأن في الجنة باباً يقال له الريان لا يدخل منه إلا الصائمون؛ قال صلى الله عليه وسلم: [إِنَّ فِي الْجَنَّةِ بَابًا يُقَالُ لَهُ الرَّيَّانُ يَدْخُلُ مِنْهُ الصَّائِمُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يَدْخُلُ مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ يُقَالُ أَيْنَ الصَّائِمُونَ فَيَقُومُونَ لَا يَدْخُلُ مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ فَإِذَا دَخَلُوا أُغْلِقَ فَلَمْ يَدْخُلْ مِنْهُ أَحَدٌ]. ويكفي أن الله سبحانه وتعالى نسب جزاء الصيام والمثوبة عليه إلى نفسه، ومن كانت مثوبته وجزاؤه من كريمٍ عظيمٍ جوادٍ رحيمٍ فليستبشر بما أُعد له؛ قال صلى الله عليه وسلم: [قَالَ اللَّهُ: كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلا الصَّيَامَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ].

أحبتي .. فلنغتنم هذا الشهر الفضيل بالاستكثارِ من الطاعاتِ والقرباتِ، والبعد عن مواقعة السيئاتِ، فإن السيئة في رمضان أعظمُ عند الله من السيئة في غيرِه. ولنبادر بالأعمالِ الصالحاتِ، ونحذر التسويف والتأجيل، ونحذر الفتور والملل؛ فهم أصلُ كل عجزٍ وبلاءٍ.

إن إدراك (الحكمة من الصوم) واضحٌ لكل ذي بصيرةٍ؛ فقد فرض الله تعالى علينا الصيام لغايةٍ كبرى، ولمقصدٍ سامٍ، ألا وهو تحقيقُ التقوى في قلوبِنا وأقوالِنا وأعمالِنا، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾. فليس مقصود الشرعِ من الصومِ الجوعُ والعطشُ، ولا ترك اللذةِ والشهوةِ فحسب، بل مقصودُه الأعظمُ استقامة القلب والجوارح على الطاعة، فطوبى لمن أدرك أن تقوى الله عز وجل هي الحكمة البالغة من الصوم فظَّل بحبلِ الله معتصماً.
أعيذ نفسي وأعيذكم أحبتي أن نكون ممن منع نفسه الطعام والشراب وما أحل اللَّهُ، ثم أسرف على نفسِه بارتكاب المعاصي ومقارفة السيئاتِ؛ فيصدق فينا قول النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [رُبَّ صَائِمٍ لَيْسَ لَهُ حَظٌّ مِنْ صَوْمِهِ إِلَّا الْجُوعُ وَالْعَطَشُ، وَرُبَّ قَائِمٍ لَيْسَ لَهُ حَظٌّ مِنْ قِيَامِهِ إِلَّا السَّهَرُ وَالنَّصَبُ].

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.

هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.

https://goo.gl/TizWdf