خاطرة الجمعة /470
الجمعة 25 أكتوبر 2024م
(العزم والتوكل على الله)
وُلِد ب«المملكة العربية السعودية»، في قريةٍ صغيرةٍ ب«المنطقة الشرقية»
يتردد عليها البدو الرُحَّل طلباً للماء تُسمى «الراكة». في تلك البيئة عاش الطفل
الصغير البدوي مع أُسرته التي كانت تبحث بشرفٍ عن قوت يومها، وارتحل خلال سنواته
الأولى في البادية، وانتقل إلى «الصمّان» شمال شرق «الرياض»، واُضطر لإعالة أسرته
بعد وفاة أخيه ومرض أبيه الذي أقعده عن العمل؛ فرعى الغنم وهو ابن أربع سنين، ولم
يلبس نِعالاً إلا في سن التاسعة. تلقى تعليمه الأساسي في مدرسة «الجبل» التابعة
لشركة «أرامكو» وكان شغوفاً بالدراسة، إلا أنه كان مُضطراً للعمل وهو في سن
الثانية عشرة؛ فعمل في شركة «أرامكو» مقابل تسعين ريالاً، إلا أنه طُرد بعد تسعة
أشهرٍ، نتيجة صدور القوانين التي تحظر العمل على مَن هُم دون الثامنة عشرة؛ فاتجه
للعمل في ثلاثة أعمالٍ أخرى في «الظهران»، قبل أن يعود إلى شركة «أرامكو» بوظيفة
كاتبٍ مُبتدئ. بدأت قصة نجاحه بموقفٍ غريبٍ دفعه للتحدي والعزم على تغيير مسار
حياته؛ فقد شعر بالعطش في يومٍ شديد الحر؛ فذهب إلى غُرفة الإدارة ليشرب رشفة
مياهٍ باردةٍ تروي عطشه، فما كان من المهندس الأمريكي إلا أن نهره بشدةٍ لشُربه من
المياه المخصصة للمهندسين فقط دون سائر العاملين. أثار هذا الموقف في نفسه حالةً
من الغضب جعلته يعزم على مواصلة دراسته للحصول على شهادةٍ جامعية. توكل على الله
وضاعف من جهده في العمل، وأبدى استعداداً خاصاً للتعلم فانتظم في دراسةٍ ليليةٍ،
ثم اُختير للالتحاق بعدة دوراتٍ دراسيةٍ في الخارج، بدأت في «بيروت» حيث درس في
الكلية العالمية «إنترناشونال كوليدج»، ثم في «الجامعة الأمريكية»، وتابع تحصيله
بعد ذلك في «جامعة ليهاي» في «بنسلفانيا» حيث نال درجة البكالوريوس في الجيولوجيا،
ثم حصل على درجة الماجستير في الجيولوجيا من «جامعة ستانفورد». عاد بعدها مهندساً،
عمل بإدارة التنقيب، وأظهر قدراتٍ متميزةٍ، وحين سأله المدير العام للشركة:
"لماذا اخترتَ مجال الجيولوجيا؟"، بادره بالرد: "لأني أُريد أن
أُصبح رئيساً للشركة"، ما أثار إعجاب المدير، الذي قال: "يا بُنيّ، هذا
أفضل جوابٍ سمعته في حياتي".
تزوج خلال فترة دراسته، ثم عاد هو وأُسرته إلى «الظهران»، وعُين جيولوجياً
في قسم التنقيب والإنتاج. كان راغباً في العمل والتعلم، ولذلك اكتسب سريعاً
المهارات التي تجعله ينطلق في مسيرةٍ عمليةٍ ناجحةٍ ومُتميزة؛ فعقب عودته من
«الولايات المتحدة الأمريكية» كان من أكثر المرشحين السعوديين لمستوى مدير عام،
وكان في الأربعين من العمر حين رُقيَّ إلى منصب مدير الإنتاج في «المنطقة
الشمالية»، مسؤولاً عن 11 حقلاً من بين 15 حقلاً في «أرامكو». كما اُختير نائباً
للرئيس لشؤون الإنتاج وحقن المياه. وتنقل بين مهام ومسؤولياتٍ مُختلفةٍ، وأخذ
يترقّى إلى أن تولّى وظيفة النائب الأعلى للرئيس لشؤون الزيت، وكانت هذه أعلى
مرتبةٍ يبلغها سعوديٌ في الشركة. انتُخب عضواً في مجلس إدارة «أرامكو»، ثم اختاره
المجلس ليكون أول رئيسٍ سعوديٍ للشركة؛ فحقق بذلك حُلمه!
عاد المهندس الأمريكي، الذي سبق ونهره لشربه من المياه الباردة الخاصة
بالمهندسين، عاد لمقابلته، ولكن هذه المرة كان يعمل تحت إدارته، طلب منه الحصول
على إجازةٍ، ورجاه أن ينسى ما حدث بينهما قديماً، فرد عليه بأخلاق النبلاء
وبتواضعٍ رائعٍ قائلاً: “في البداية أحب أن أُقدم لك الشكر من كل قلبي على منعي في
ذلك اليوم من شُرب الماء البارد، صحيحٌ أنني حزنتُ وقتها كثيراً، ولكن كنتَ أنت
أيها المهندس السبب -بعد الله عزَّ وجلَّ- في أن أُصبح على ما أنا عليه الآن،
رئيساً للشركة"!
ثم أراد أن يتقاعد عند بلوغه الستين إلا أنه تم تعيينه وزيراً للبترول
والثروة المعدنية، وتم التجديد له أكثر من مرة. وفي عهده شهدت «منظمة أوبك» تطوراً
في أدائها، وأصبحت منظمةً اقتصاديةً دوليةً مُؤثرة. كان مُلخص قصته مع شركة
«أرامكو» مُثيراً: "طُرد منها، ثم عاد إليها وترأسها"!
بجانب ذلك تم تكليفه بالإشراف على تأسيس «جامعة الملك عبد الله للعلوم
والتقنية»، ثم أصبح رئيساً لمجلس أُمنائها، ومُنح «وشاح الملك عبد العزيز من
الدرجة الثانية» بمناسبة افتتاحها.
خلال مسيرته حصد الكثير من الجوائز وشهادات التكريم الوطنية والدولية؛ كما
حصل على عددٍ من شهادات الدكتوراه الفخرية: من «جامعة هاريوت وات» في «إدنبره»،
و«جامعة سول الوطنية» في «كوريا»، و«جامعة بكين» في «جمهورية الصين الشعبية»،
و«جامعة العلوم والتقنية AGH» في مدينة «كراكوف البولندية»، و«جامعة
ليهاي» في ولاية «بنسلفانيا» الأمريكية.
وتوثيقاً لمسيرته في الحياة والعمل، أصدر كتاب السيرة الذاتية «من البادية
إلى عالم النفط» بنسختيه الإنجليزية والعربية، وعرض فيه نموذجه في تطوير الذات،
وقصة ارتقائه من صبيٍ بدويٍ يرعى الغنم إلى رئيس شركة «أرامكو» وكبير إدارييها
التنفيذيين، إلى أن أصبح وزيراً للبترول والثروة المعدنية بعد ذلك لمدةٍ تزيد عن
عشرين عاماً. قال في مجلس شباب الأعمال إن السر وراء نجاحه يرجع أولاً إلى توفيق
الله، ثم إلى (العزم والتوكل على الله) والتفاني في العمل. إنه: علي بن إبراهيم
النعيمي.
أحبتي في الله.. يُقال إن للنجاح طُرقاً مُختلفةً، ربما أطولها وأكثرها
مشقةً أن يكون المرء عصامياً، يبني نفسه بنفسه، ويصنع مستقبله ب(العزم والتوكل على
الله).
يمدح الله سُبحانه وتعالى صفتي العزم والتوكل عليه؛ فوصف بعض رُسله بأنهم
﴿أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ﴾، ويقول تعالى بعد وصف فضائل الأعمال: ﴿إِنَّ
ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾، ثم بعد العزم يكون التوكل على الله؛ يقول
سُبحانه: ﴿فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ
الْمُتَوَكِّلِينَ﴾، وخاطب رسوله نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم بقوله: ﴿فَإِذَا
عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾، وعن
التوكل عليه سُبحانه يقول تعالى: ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ
وَكِيلًا﴾.
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: [واسْتَعِنْ بِاللَّهِ، ولَا تَعْجَزْ].
ويقول عليه الصلاة والسلام: [لو أنَّكُم تتوَكَّلونَ على اللَّهِ حقَّ توَكُّلِه
لرزقَكم كما يرزقُ الطَّيرَ تغدو خِماصًا وتروحُ بطانًا]. وكان من دعائه عليه
الصلاة والسلام: [اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الثَّبَاتَ فِي الْأَمْرِ،
وَالْعَزِيمَةَ عَلَى الرُّشْدِ].
ويقول العلماء إن (العزم والتوكل على الله) لهما فوائد منها: أنهما من
وسائل تهذيب النفس، وتحصيل الأخلاق الفاضلة، وهما من صفات المؤمن القوي، تُعيناه
على تحقيق التقوى؛ وذلك بحمل النفس على فعل المأمورات وترك المنهيات، كما أنهما من
وسائل التخلص من التردد.
ومن موانع اكتساب صفتي (العزم والتوكل على الله): العجز والكسل؛ فهُما
العائقان اللذان أكثر الرسول صلى الله عليه وسلم من التعوذ بالله منهما. ومن
الموانع أيضاً التسويف والتمني وترك الأخذ بالأسباب، والفتور والغفلة، وتضييع
الوقت وعدم الإفادة منه، وشغله بما لا يعود بالنفع، وتقديم غير المُهم على المُهم،
والتهرب من كل عملٍ جديٍ، وتبرير العجز والكسل، واختلاق المعاذير، واصطناع
الأسباب؛ للتخلص من أي التزامٍ، والانشغال بجزئياتٍ وتفاصيل لا قيمة لها، وترك كل
عملٍ مفيدٍ ومُخططٍ له.
أما الوسائل المُعينة على تقوية (العزم والتوكل على الله) فأهمها: حُسن
الظن بالله سُبحانه وتعالى في الوصول للهدف، وكثرة الدعاء، والاقتداء بأصحاب
العزائم من أهل الصلاح والدِين، ومصاحبة أهل العزائم القوية والهمم العالية،
والمُسارعة في العمل وعدم التردد بعد عقد العزم على الأداء، ففي ذلك يكون الخير؛
يقول تعالى: ﴿فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا
لَهُمْ﴾.
يقول الشاعر:
عَلى قَدرِ أَهلِ العَزمِ تَأتي العَزائِمُ
وَتَأتي عَلى قَدرِ الكِرامِ المَكارِمُ
ويقول آخر:
إذا غامرتَ في شَرفٍ مَرومْ
فلا تقنعْ بما دونَ النجومْ
ويقول ثالثٌ:
وَمَنْ لا يُحِبّ صُعُودَ الجِبَالِ
يَعِشْ أَبَدَ الدَّهْرِ بَيْنَ الحُفَر
ويقول رابع:
ومَن تكنِ العلياءُ هِمَّةَ نفْسِه
فكلُّ الَّذي يلقاهُ فيها مُحَبَّبُ
أحبتي.. لنستلهم العِبَر من قصص الناجحين، ونتعلم منهم كيف واجهوا الحياة،
بإيمانٍ بالله سُبحانه وتعالى، وحُسنِ ظنٍ به، ثم بإصرارٍ لا يلين، وعزيمةٍ لا
تفتر، وتوكلٍ على الله، وتفانٍ في العمل، وأخذٍ بالأسباب. ونتعلم منهم أهمية الصبر
والكفاح، والتغلب على الصعاب وعدم الاستسلام لها، وتحويل المواقف المُحبطة إلى
مُحركاتٍ للهمة، شاحذاتٍ للإرادة والنيةٍ، شاحناتٍ لثقتنا في أنفسنا وقدراتنا،
دافعاتٍ لنا للتفوق والنجاح والإنجاز. وليعلم كلٌ منا أن الاهتمام بأعمال الدنيا
-فيما هو مشروعٌ- أمرٌ نحن مطالبون به؛ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: [إنْ
قامَتِ السَّاعةُ وفي يدِ أحدِكُم فَسيلةٌ فإنِ استَطاعَ أن لا تَقومَ حتَّى
يغرِسَها فلْيغرِسْها]، فلنغرس فسائلنا ونتعهدها حتى تُثمر؛ لنكون من الفائزين
بإذن الله في الدنيا والآخرة.
اللهم إنا نعوذ بك من الهَم والحَزَن، ومن العجز والكسل. ونسألك ربنا أن
تُنعم علينا بقوة الإرادة وصدق العزيمة. وتُعيننا على التوكل عليك والإخلاص لك.
https://bit.ly/3YBun4g