الجمعة، 19 يوليو 2019

مجهولون في الأرض، معروفون في السماء


الجمعة 19 يوليو 2019م

خاطرة الجمعة /١٩٦
(مجهولون في الأرض، معروفون في السماء)

كتب أحدهم يقول: دُعيتُ مرةً لحفل تكريمٍ لي في إحدى الدول، وأراد المكرِّمون أن يكون التكريم في المسجد بعدما أخطب لهم الجمعة، وكان من بين الحضور بعض الوجهاء ونوابٌ من البرلمان وغيرهم من عِلية القوم يجلسون في الصف الأول. بعد انتهاء صلاة الجمعة وقف الإمام وقال: "سيكون التكريم اليوم جديداً من نوعه؛ لن يُسَلِّم الهدية اليوم نائبٌ من البرلمان، ولا وجيهٌ من الوجهاء، سيسلمها رجلٌ آخر لا نعرفه لكن الله يعلمه!"، ثم نادى وقال: "فليقم أول من دخل المسجد!"، تلفت الناس كلهم يُمنةً ويُسرةً، ثم فوجئوا برجلٍ مغمورٍ من بين الناس يقوم خجلاً، ويمشي على استحياءٍ نحو الإمام، الذي طلب منه أن يسلمني هدية التكريم، سلمني الرجل هديتي ثم عاد إلى مكانه تتبعه الأبصار والقلوب على السواء.
يقول الكاتب: هذا المشهد البسيط يختزل مشهد الآخرة بامتياز؛ رجلٌ مغمورٌ لا يعرفه أحدٌ، ومشاهير يجلسون في الصفوف الأولى يعرفهم كل أحدٍ، لكن لما كان الاختيار على حسب مطالب الآخرة لا الدنيا؛ قام المغمورون وقعد المشهورون، ففي ميزان الله يسبق المغمور الصالح، ويتأخر المشهور الأقل منه صلاحاً؛ ففي الحديث الشريف: [إِنَّهُ لَيأتِي الرَّجُلُ السَّمِينُ العظِيمُ يَوْمَ الْقِيامةِ لا يزنُ عِنْد اللَّه جنَاحَ بعُوضَةٍ]. اقرؤوا إن شئتم قوله تعالى: ﴿فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا﴾. إن الشرف الحقيقي هناك لا هنا، وإن الوجاهة وجاهة الآخرة قبل الدنيا، وإن يوم القيامة يوم المفاجآت، وإن الأسماء اللامعة في الدنيا ليس شرطاً أن تلمع في الآخرة، وإن كثيراً من الذين نظنهم منسيين أو خاملي الذكر اليوم ستشنف أسماؤهم سمع أهل المحشر يوم يُعاد ترتيب الأسماء؛ إنهم (مجهولون في الأرض، معروفون في السماء).

أحبتي في الله .. يُذكر أن عجوزاً ماتت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانت تَقُمُّ المسجد - أي تنظفه وتطيّبه - ما كان أكثر المسلمين يعرفونها أو يعرفون اسمها، لكن لعلّها كانت صاحبة شأنٍ بين أهل السّماء؛ ماتت فصلّى عليها النّاس ودفنوها، ولم يُؤْذِنُوا بها النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فلمّا علم بوفاتها بعد أيامٍ عاتب أصحابه وقال لهم: [أَفَلَا كُنْتُمْ آذَنْتُمُونِي]، ثمّ ذهب إلى قبرها فصلى عليها. أيّ مكانةٍ هذه التي حازتها تلك المرأة في السّماء حتّى يُؤمر خاتم الأنبياء بأن ينطلق إلى قبرها ليصلّي عليها ويجزل لها الدّعاء! ما ضرّها أنّ أهل الأرض اختلفوا في اسمها، ما دامت قد كانت معروفةً في السّماء.
وذكر أهل السِيَر أنّ مسلمة بن عبد الملك القائد المسلم المعروف، حاصر في بعض فتوحاته حصناً من الحصون، فاستعصى فتحه على المسلمين، ولقوا جراء ذلك مشقةً كبيرةً، فلما كان اللّيل تقدم جنديٌ ملثمٌ وألقى بنفسه على الحصن، واحتمل ما احتمل من الخطر، وأحدث في الحصن نقباً كان سبباً في تيسّر فتحه بعد ذلك. عقب الفتح نادى مسلمة في جنوده: "أين صاحب النقب؟"، فلم يجبه منهم أحدٌ، كرّرها مراراً فلم يجبه أحدٌ، فقال مسلمة: "عزمت على صاحب النقب أن يأتي للقائي في الوقت الذي يختاره"، فلمّا كان اللّيل أتاه رجلٌ ملثّمٌ فقال له: "أنا أعرف صاحب النّقب، وأدلّكم عليه بشروطٍ ثلاثة؛ ألا تبعثوا باسمه في صحيفةٍ إلى الخليفة، وألا تأمروا له بشيءٍ جزاء ما صنع، وألا تسألوه من هو"، فقال مسلمة: "له ذلك، أين هو؟"، فأجاب الجندي الملثم: "أنا صاحب النقب أيها الأمير"، ثم سارع بالخروج، من دون أن يكشف عن وجهه أو يعرفه أحدٌ. وظلّ مجهولاً لم يُعرف بين أهل الأرض، لكن يكفيه أنه كان معروفاً في السّماء، حتّى أنّ القائد المظفّر مسلمة بن عبد الملك صار بعد ذلك لا يصلي صلاةً إلا قال في دعائها: “اللهمّ اجعلني مع صاحب النّقب يوم القيامة”.
وذكر ابن كثير في تاريخه أنّ السائب بن الأقرع قدم على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، يبشره بنصر المسلمين في معركة نهاوند ضدّ الفرس في السّنة 21 هـ، فسأله عمر عن قتلى المسلمين، فعدَّ فلاناً وفلاناً من أعيان الناس وأشرافهم، ثم قال لعمر: وآخرون من أفناد الناس لا يعرفهم أمير المؤمنين؛ فجعل عمر يبكي ويقول: “وما ضرهم ألا يعرفهم أمير المؤمنين؟! لكن الله يعرفهم، وقد أكرمهم بالشهادة، وما يصنعون بمعرفة عمر؟”.
هؤلاء وأمثالهم هم بحقٍ (مجهولون في الأرض، معروفون في السماء)، وصفهم العارفون بأنهم لا يأبهون إن كان لهم نصيبٌ من الدنيا أم لم يكن، لا يطمعون في مالٍ أو جاهٍ، لا يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله، غناهم في قلوبهم، يكتفون بالرضا، والقليل من الزاد، إلا إن زادهم الحقيقي هو ذكر الله، وموطنهم الأصلي هو السماء، ليست الدنيا هي موطنهم، إنهم الأتقياء الذين يعيشون في الدنيا بأجسادهم بينما أرواحهم معلقةٌ بالآخرة، يرون فيها حياتهم ومماتهم وخلودهم، يرون الحُلم في أسمى معانيه حينما يكونون بعيدين عن أنظار الناس، غلبت قلوبهم شهوات أنفسهم، وتوطنت بداخلهم لذة العبودية، واستبدلت لذة المعصية؛ فكانوا جند الله في الأرض، مصلحين مستغفرين، ليس عليهم سيماء سوى أثر الباقيات الصالحات، مجهولون في الأرض لا يأبه لهم الناس، فلكأنهم في شفافيتهم ونقائهم سكان السماء، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون. إنهم يتقنون فن إشباع القلب بالإيمان، ويُبدعون في أعمالهم إغاظةً للشيطان، بينما هم سائرون خطوةً بخطوةٍ على سبيل قائدهم عليه الصلاة والسلام حين قال: [كُنْ في الدُّنْيا كأَنَّكَ غريبٌ، أَوْ عَابِرُ سبيلٍ]. ربّما لا يعرفهم ولا يتحدّث عنهم ولا يهتمّ بهم أحدٌ، لكنّهم مشهورون في الملأ الأعلى عند الله وبين ملائكته؛ فكم من مشهورٍ في الأرض مجهولٍ في السماء، وكم من مجهولٍ في الأرض معروفٍ في السماء.
الشّهرة في السّماء شهرةٌ يحظى صاحبها بالقُرب والرّضا والذّكر عند الله، فيعيش دنياه مرتاح البال قرير العين هانيها، يجعل الله له من كل ضيقٍ فرجاً، ومن كلّ همٍّ مخرجاً، ويرزقه من حيث لا يحتسب، دعاؤه مُجابٌ، وأمله مُنالٌ، ما أن يرفع يديه إلى السّماء ويدعو ربّه، حتى تقول الملائكة: صوتٌ معروفٌ من عبدٍ معروف.
صدق من قال: "لو رأيتَ مقامات الناس في الآخرة ستفاجأ بأناسٍ درجاتهم سابقةٌ ولا أحد يعرفهم؛ إنهم الأتقياء الأخفياء".
وصدق من كتب: "هنيئاً لخفِي العمل؛ هناك أناسٌ يعيشون معنا في الأرض، وأملاكهم في السماء عظيمةٌ؛ قصورهم تُبنى، وبساتينهم تُزرع، فأكثروا من الخبايا تغنموا".

يقول أهل العلم ‏أن الشهرةَ الحقيقية هي التي تكون في السماء، ومن أعظم أسبابها كثرة ذكر الله، قال الله في الحديث القدسي: {أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعهُ إِذَا ذَكَرَني، فَإن ذَكرَني في نَفْسهِ، ذَكَرْتُهُ في نَفسي، وإنْ ذَكَرَني في ملإٍ، ذكَرتُهُ في ملإٍ خَيْرٍ منْهُمْ}.
فإن لم تكن ذاكراً الله في نفسك أو في ملأٍ، فكُن ممن يغشون مجالس تلاوة وتدارس كتاب الله في بيتٍ من بيوته تحظى بالشهرة التي لا تضارعها شهرةٌ؛ قال رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم: [مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ وَحَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ].
هل تعي معنى أن يذكرك الله سبحانه وتعالى في نفسه؟
هل تدرك معنى أن يذكرك الله سبحانه وتعالى في ملأ السماء؟
هل تستوعب معنى أن تنزل عليك السكينة؟
هل تتصور معنى أن تغشاك الرحمة؟
هل تفهم معنى أن تحفك الملائكة؟
هل تعقل حجم الشرف الذي تحظى به عندما تكونُ مشهوراً في السماء؟
إنه ذلك الفضلُ الذي لا يصفه لفظٌ، ولا يُعَبِّر عن شكره بحقٍ إلا سجود القلب.

أحبتي .. أختم بعباراتٍ طيبةٍ كتبها أحد الصالحين، قال فيها: أخي المؤمن؛ لا تهتمّ بالشّهرة بين النّاس وفي هذه الدّنيا الفانية وعلى ظهر هذه الأرض، اهتمّ بما يقوله عنك ربّ العزّة جلّ وعلا، اهتمّ بمقامك في الملأ الأعلى، اهتمّ بما يقوله عنك الملائكة المقرّبون، جاهد نفسك على إخلاص أقوالك وأعمالك وأحوالك لله، واحرص على إخفاء ما يمكنك إخفاءه منها. اجعل بينك وبين الله أسراراً من الأعمال والأقوال والأحوال الصّالحة لا يطّلع عليها إلا الله. لا تهتمّ بما يقوله عنك النّاس. احرص على الإخلاص، وتأكّد من أنّ الله لن يضيّع عملك. الدّنيا شأنها حقيرٌ والعمر قصيرٌ، لكنّه يطول بالنية الصّالحة الصّادقة. ازرع الخير مهما رأيته هيّناً وقليلاً، ولا تنتظر شكراً من أحد. انتظر جزاءك من الله. ازرع الخير في زوجتك وأبنائك وفي أصدقائك وجيرانك بكلماتك ومواقفك، وكن على يقينٍ بأنّه سيثمر يوماً ما بإذن الله؛ يقول الحقّ جلّ وعلا: ﴿فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنَّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى﴾.
اللهم اجعلنا من عبادك الذين هم (مجهولون في الأرض، معروفون في السماء). تجاوز عن تقصيرنا، وأعنَّا على الإكثار من ذِكرك في أنفسنا، وفي مجالس الذِكر وتلاوة وتدارس القرآن في المساجد، وتقبل منا أعمالنا خالصةً لوجهك الكريم.

http://bit.ly/30HmTvM

ليست هناك تعليقات: