الجمعة، 30 يوليو 2021

يكذبون كما يتنفسون

 

خاطرة الجمعة /302


الجمعة 30 يوليو 2021م

(يكذبون كما يتنفسون)

 

في برنامجٍ إذاعيٍ محليٍ يستقبل اتصاﻻت الطلبة العرب المبتعثين للدراسة في الخارج، اتصل طالبٌ كان يدرس في «بريطانيا» وحكى قصةً واقعيةً حدثت معه حينما كان يُقيم مع أسرةٍ بريطانيةٍ استضافته وقت دراسته. قال إن تلك اﻷسرة مكونةٌ من اﻷم واﻷب وطفلة، وفي أحد الأيام قرر الزوجان الخروج في شأنٍ لهما، وسأﻻني ما إذا كنتُ لن أغادر الشقة فستبقى الطفلة معي، فقلتُ: "ﻻ بأس سأبقى مع الطفلة". خرج الزوجان وبعد قليلٍ ذهبتْ الطفلة إلى المطبخ وأوقعت كأساً زجاجياً فانكسر، وسمعتُ بكاءها، توجهتُ إلى المطبخ مسرعاً خوفاً من أن تكون الطفلة قد تأذت، فوجدتها -والحمد لله- سليمةً لم تُصب بسوءٍ، قالت لي وهي تبكي: "أمي ستعاقبني"، قلتُ لها: "ﻻ تخافي، وإذا سألتكِ أمك قولي أنا الذي كسرتُ الكأس". وفعلاً عندما عادت اﻷم، ﻻحظتْ الكأس المكسور وسألتْ الطفلة فأخبرتها بما قلتُه لها. ذهبتُ أنا إلى السوق واشتريتُ طقم أكوابٍ جديدٍ؛ لأقدمه لربة البيت عوضاً عن الكأس الذي اتفقنا أنا والطفلة على أنني أنا الذي كسرتُه، وقبل أن أقدم طقم الأكواب للأم جاءتني الطفلة تبكي، وقالت: "ﻻ أستطيع النوم ﻷني كذبتُ على أمي وسأخبرها الحقيقة"، ثم جرت نحو أمها وأخبرتها بحقيقة ما حدث، جاءتني والدتها لتتأكد من صدق ما سمعته من ابنتها، فلما علمتْ بما قلتُه للطفلة قالت لي بمنتهى الهدوء: "إنك شابٌ طيبٌ ومحترمٌ، ونحن منذ وﻻدة هذه الطفلة نعلمها الصدق، وهذه هي المرة اﻷولى التي تكذب فيها. عُذراً منك أيها الشاب لن أدمر شخصية ابنتي بسلوك شنيعٍ كالكذب، أمامك 24 ساعةً لتغادر، فابحث لك عن مكانٍ آخر".

يقول الطالب السعودي: "خرجتُ وأنا في منتهى الأسف؛ لقد شوهتُ صورة الإسلام، الكذب مرةً واحدةً تعني الكثير في تربية اﻷطفال، بالله عليكم كم من المرات كذبنا فيها على أبنائنا وتعلموا منا الكذب"؟

 

أحبتي في الله .. لقد ذمَّ الله سبحانه وتعالى الكذب في كتابه الكريم؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَأُوْلـئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ﴾، ويقول سبحانه: ﴿وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ﴾ أي: كذَّابٍ في مقاله، أثيمٍ في فعاله، ويقول عزَّ وجلَّ: ﴿هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ﴾.

وقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: [... وإيَّاكُمْ والْكَذِبَ، فإنَّ الكَذِبَ يَهْدِي إلى الفُجُورِ، وإنَّ الفُجُورَ يَهْدِي إلى النَّارِ، وما يَزالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ ويَتَحَرَّى الكَذِبَ حتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ كَذّابًا]، وقال عليه الصلاة والسلام: [آيَةُ المُنافِقِ ثَلاثٌ: إذا حَدَّثَ كَذَبَ، وإذا وعَدَ أخْلَفَ، وإذا اؤْتُمِنَ خانَ]، وقال صلى الله عليه وسلم: [مَن حَلَفَ علَى يَمِينٍ كَاذِبًا لِيَقْتَطِعَ مَالَ رَجُلٍ لَقِيَ اللَّهَ وهو عليه غَضْبَانُ]، وقال عليه الصلاة والسلام: [أنا زعيمٌ ببَيْتٍ في ربَضِ الجنَّةِ لِمَن ترَك المِراءَ وإنْ كان مُحِقًّا، وببَيْتٍ في وسَطِ الجنَّةِ لِمَن ترَك الكذِبَ وإنْ كان مازحًا، وببَيْتٍ في أعلى الجنَّةِ لِمَن حَسُنَ خُلُقُه]، وقِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَيَكُونُ الْمُؤْمِنُ جَبَانًا"؟ فَقَالَ: ‏[نَعَمْ]، فَقِيلَ لَهُ: "أَيَكُونُ الْمُؤْمِنُ بَخِيلاً"؟ فَقَالَ: ‏[نَعَمْ]، فَقِيلَ لَهُ: "أَيَكُونُ الْمُؤْمِنُ كَذَّابًا"؟ فَقَالَ: ‏[لاَ]‏.

 

بعد كل ذلك، ألا يعلم الكاذبون أن الكذب حرامٌ؟ وأنهم محاسبون عليه؟

وحتى بعيداً عن الدين، ألا يعلم هؤلاء أن الكذب خصلةٌ ذميمةٌ غير مقبولةٍ في كثيرٍ من المجتمعات؛ كما حدث في دولةٍ كبيرةٍ من عدة سنواتٍ حين أجبر ممثلو الشعب رئيسهم المنتخب على الاستقالة، ليس لممارسته الجنس في مكتبه الرسمي مع إحدى المتدربات، ولكن لكذبه عندما سُئل عن ذلك!

 

حينما قرأتُ قصة الطفلة الإنجليزية الصغيرة، تذكرتُ على الفور الجملة المشهورة "قل له أبي غير موجود"، والتي تقول الأسطورة إن الأب قالها لابنه عندما رد على مكالمةٍ هاتفيةٍ لا يريدها الأب، فما كان من الابن إلا أن قال للمتحدث: "أبي يقول لك إنه غير موجود"! إنها الجملة التي يُستشهد بها دائماً عندما يصل الحديث إلى كيف يتعلم أبناؤنا الكذب. فالصغار يتعلمون الكذب من الكبار؛ حينما تقول الأم لابنها وهو صغير: "إذا أكملتَ طعامك سوف آخذك في نزهة"، فيكمل طعامه ويقول لها: "أمي هيا نذهب"، ترد عليه: "تأخر الوقت، وفي الخارج شبحٌ يأكل الصغار، لا نستطيع الخروج الآن"؛ فيجلس الصغير حزيناً وهو يسمع أصوات الأطفال وهم يلهون في الشارع ولم يلتهمهم شيء! وتستمر الحكاية؛ يكبر الصغير قليلاً ويدخل المدرسة، يخبرهم المعلم أنّ مَن يُحسن السلوك سوف يأخذه في رحلةٍ نهاية الأسبوع، يبذل الصغير جهده ليكون أول المختارين للرحلة، وينتهي الأسبوع فيسأل معلمه: "متى نذهب إلى الرحلة"؟ يجيبه معلمه: "عن أية رحلةٍ تتحدث"؟! وتستمر الحكاية؛ في البيت وجده أبوه يذاكر دروسه فقال له: "إذا نجحتَ سوف أشتري لك دراجةً رائعةً"، انتهى العام الدراسي وكان الأول على صفه، سأل والده: "أين دراجتي"؟ قال له الأب: "الدراجة ستعرضك للحوادث دعك منها"! وتستمر الحكاية؛ يكبر الولد ويصبح بارعاً في الكذب والخداع، والكل يسأل: "من أين أتى بهذا الخُلُق الذميم"؟!

وأكثر ما يكون الكذب في الأسواق؛ حين يُزين الشيطان للتاجر الكذب على أنه شطارةٌ ومهارةٌ تُزيد الرزق، فهذا تاجرٌ كان يبيع الدجاج أوصله الكذب إلى مأزقٍ كبيرٍ؛ حين دخلت سيدةٌ محله قبل الإغلاق مباشرةً وسألته: "هل ما زال لديك دجاج؟"، فتح البائع ثلاجته وأخرج الدجاجة الوحيدة المتبقية لديه ووضعها على الميزان الإلكتروني، وقال: "الدجاجة تزن 1.5 كجم"، نظرت المرأة إلى الدجاجة وتحققت من الميزان، ثم سألت: "هل لديك واحدةٌ أكبر بقليلٍ من هذه؟"، قام البائع بوضع الدجاجة مرةً أخرى في الثلاجة ثم أخرج نفس الدجاجة، ووضعها على الميزان، لكن هذه المرة زين له الشيطان أن يضع إبهامه الضخم على حافة الميزان؛ فعرض مؤشر الميزان الوزن 2 كجم، قالت السيدة: "إنه لأمرٌ رائع، سآخذ كلتا الدجاجتين من فضلك"!

يُقال -تهكماً- إن البائع لا تزال رأسه محشورةً في الثلاجة حتى الآن، يبحث عن الدجاجة الأولى!

 

الكذب رذيلةٌ إنسانيةٌ منتشرةٌ للأسف بين الكثير من الناس، البعض يكذبون ويعلمون أنهم يكذبون لكنهم يبررون كذبهم، والبعض يكذبون ولا يشعرون أنهم يكذبون، تحول الكذب لديهم إلى عادةٍ، تجدهم يكذبون في معظم ما يُحدثون به، حتى أن بعضهم يكذب على نفسه ثم يصدق كذبته! وبعض الناس يخلطون ما بين الكذب والمزاح، وبعضهم لا يُفرق ما بين الكذب والخيال. وترى بعض الناس يُلونون الكذب باللون الأبيض؛ الغريب أنهم اختاروا اللون الأبيض لأسوأ كذباتهم وأكثرها سواداً!

ويبدو أن التطور الذي طال كل شيءٍ لم يستثنِ الكذب؛ فبعد أن كان الكذب وجهاً لوجهٍ، أصبح الآن كذباً إلكترونياً يمارسه كثيرٌ من الناس، خاصةً الشباب على شبكة الإنترنت، لدرجة أنهم صاروا (يكذبون كما يتنفسون) وهم يستخدمون برامج ومواقع التواصل الاجتماعي على حواسيبهم أو هواتفهم النقالة؛ فيدخلون بأسماء وهميةٍ وصورٍ مزورةٍ وبياناتٍ غير صحيحةٍ، للنصب والاحتيال أو التغرير بالآخرين واصطياد الضحايا أو لمجرد اللهو السخيف السمج! وعن الهواتف النقالة فحدِّث ولا حرج؛ فكم من مرةٍ تسمع أحدهم يجلس بجوارك في وسيلةٍ من وسائل المواصلات العامة يتحدث في هاتفه ويقول: "أنا الآن في الإسكندرية"، وأنت وهو وجميع الركاب موجودون في القاهرة!

وصدق من قال:

الصِّـدْقُ فِي أَقْوَالِنَا أَقْوَى لَنَا

وَالكِذْبُ فِي أَفْعَالِنَا أَفْعَى لَنَا

 

من أسوأ الكاذبين الذين يتخذون من الكذب وسيلةً يتكسبون منها مالاً أو جاهاً أو سلطاناً؛ يقول تعالى عنهم: ﴿وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ﴾، فهم يعلمون أنهم يكذبون، يمتهنون الكذب ويجعلونه مصدر رزقٍ لهم، يبيعون كذبهم لمن يدفع لهم! بل ويحلفون على ذلك ليصدقهم الناس؛ يقول عنهم سبحانه: ﴿وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾.

لكن أسوأهم على الإطلاق الذين يكذبون ويتمادون في كذبهم، لصالح غيرهم، دون أن يستفيدوا هم شيئاً! إنهم أحمق الناس؛ سأل حكيمٌ جُلَسَاءه: "أَخْبِرُونِي بِأَحْمَقِ النَّاسِ"؟ قَالُوا: "رَجُلٌ بَاعَ آخِرَتَهُ بِدُنْيَاهُ"!! فَقَالَ: "أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَحْمَقَ مِنْهُ"؟ قَالُوا: "بَلَى"، قَالَ: "رَجُلٌ بَاعَ آخِرَتَهُ بِدُنْيَا غَيْرِهِ"!! يقول العلماء في معنى "باع آخرته بدنياه": أي ارتكب معصية الله تعالى لينتفع في الدنيا، وعَرَّض نفسه لخسارة نعيم الآخرة، كمن حلف كاذباً أو غش ليربح في البيع، أو تعامل بالربا ليجمع الأموال، أو ظلم الناس وأكل أموالهم بغير حق، كالسارق والغاصب والخائن. أما معنى "باع آخرته بدنيا غيره" فذلك يُطلق على من يعصي الله تعالى ويُعرِّض نفسه لخسارة نعيم الآخرة، لا من أجل أن يتنعم هو بالدنيا، ولكن ليتنعم غيره بها؛ فهو يُصلح دنيا غيره بفساد آخرته، كمن أعان ظالماً ليتمكن من ظلمه، كعلماء السوء أو جنود الحكام الظلمة الذين يُعينونهم على ظلم رعيتهم، فهؤلاء أعانوا ذلك الظالم ليستمتع بدنياه ويتمكن فيها، وأذهبوا آخرتهم، فباعوا آخرتهم ولم يستفيدوا هم شيئاً من الدنيا وإنما استفاد غيرهم!

 

أحبتي .. اعذروني على الإطالة؛ فالموضوع ذو شجون، حركها أحدهم عندما سمعته وهو يُقسم بالله، ويغلظ في القسم، وأنا وغيري يعلمون علم اليقين أنه ﴿كَذَّابٌ أَشِرٌ﴾، جمع بين رذيلتين: الكذب واليمين الغموس "يتعمد صاحبها الحلف على الكذب، فتغمسه في الإثم وقيل تغمسه في النار".

اللهم اجعلنا من الصادقين، الذين يقولون الصدق شهداء لله ولو على أنفسنا أو الوالدين والأقربين، واحشرنا مع الصادقين يوم ينفعهم صدقهم ﴿لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾، ومع الذين أنعمتَ عليهم ﴿مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رفيقا،﴾، ولا تجعلنا ربنا من الذين (يكذبون كما يتنفسون) ﴿الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ فنكون من الخاسرين.

 

https://bit.ly/2UX7aMd