الجمعة، 15 يونيو 2018

شاهدٌ لنا أم شاهدٌ علينا؟


الجمعة 15 يونيو 2018م

خاطرة الجمعة /١٣٩
(شاهدٌ لنا أم شاهدٌ علينا؟)

"كم مرةً ختمتَ القرآن في رمضان؟"، "ختمتُه ثلاث مرات"، "أنا عن نفسي ختمتُه ست مرات". "هل واظبتَ على صلاة التراويح والتهجد؟" "واظبت على التراويح عدا مرةٍ واحدةٍ كان لدينا ضيوفٌ على الإفطار، أما صلاة التهجد فلم أحضرها إلا مرتين فقط"، "أنا عن نفسي، لم أُفَوَّت التراويح ولا التهجد ليلةً واحدةً"، "عسى الله أن يتقبل"، "منا ومنكم".
هذا حوارٌ دار بين اثنين من الشباب كانا يسيران خلفي، استمعت إليه بغير قصد، وأنا في طريق عودتي من مسجد دار الأرقم إلى المنزل ليلة التاسع والعشرين من رمضان.

أحبتي في الله .. انطفأت المصابيح، وانقطعت التراويح، فارقنا شهر العبادة، ورجعنا إلى العادة، وذهب أهل الاجتهاد بأجر اجتهادهم في رمضان.
قال أحدهم مودعاً شهر رمضان: ها هو شهر الخير قد قُوضت خيامه، وتصرمت أيامه، فحق لنا أن نحزن على فراقه، وأن نذرف الدموع عند وداعه. وكيف لا نحزن على فراقه ونحن لا ندري هل ندركه مرةً أخرى أم لا؟ كيف لا تجري دموعنا على رحيله؟ ونحن لا ندري هل رُفع لنا فيه عملٌ صالحٌ أم لا؟ وهل ازددنا فيه قرباً من ربنا أم لا؟ كيف لا نحزن عليه وهو شهر الرحمات، وتكفير السيئات، وإقالة العثرات؟
مضى رمضان بعد أن أحسن فيه أقوامٌ وأساء آخرون، مضى وهو (شاهدٌ لنا أم شاهدٌ علينا)؛ شاهدٌ للمشمر بصيامه وقيامه وبره وإحسانه، وشاهدٌ على المقصر بغفلته وإعراضه ونسيانه. رمضان سوقٌ قام ثم انفض، ربح فيه من ربح، وخسر فيه من خسر، فلله كم سجد فيه مِنْ ساجد؟ وكم ذكر فيه مِن ذاكر؟ وكم شكر فيه مِن شاكر؟ وكم خشع فيه مِن خاشع؟ وكم فرّط فيه مِن مفرِّط؟ وكم عصى فيه مِن عاصٍ؟

انتهى شهر رمضان المبارك، صمنا أيامه وقمنا لياليه، فهل يا ترى كنا من الرابحين؟
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: [مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ]، وقال عليه الصلاة والسلام: [مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ]، وعنه أيضاً أنه قَالَ: [مَنْ يَقُمْ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ]، فهل كان صومنا نهار رمضان وقيامنا لياليه، وتحرينا وإحياؤنا ليلة القدر بالمزيد من الذكر والعبادة في العشر الأواخر من رمضان، هل كان كل ذلك إيماناً واحتساباً؟ هل يقاس الإيمان والاحتساب بعدد ختمات القرآن؟ أم بعدد ركعات التراويح والتهجد؟ أم بالحرص على الاعتكاف في المسجد؟
ما هو مقياس الربح أو الخسارة عندما ننفرد بأنفسنا بعد انتهاء الشهر الفضيل نريد أن نُقَيِّم أعمالنا وننظر هل كنا من الرابحين أم الخاسرين؟
قال رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [رُبَّ صَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ صِيَامِهِ إِلا الْجُوعُ، وَرُبَّ قَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ قِيَامِهِ إِلا السَّهَرُ]. وقال عليه الصلاة والسلام: [رَغِمَ أَنْفُ مَنْ أَدْرَكَ رَمَضَانَ فَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ]. إذن فالعبرة هنا ليست بالأفعال في حد ذاتها، وإنما العبرة بنتائجها، لذلك عندما شرع لنا المولى عزَّ وجل الصيام بيَّن لنا الحكمة منه لتكون هي ما نسعى للوصول إليه وتحقيقه؛ قال سبحانه: ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾.
تعالوا إذن نقَيِّم ما حققناه بصيام أيام هذا الشهر الفضيل وقيام أيامه، لنعرف إلى أي مدى حققنا فيه التقوى، وهل هو (شاهدٌ لنا أم شاهدٌ علينا؟)، وليكن ذلك عن طريق أسئلةٍ يوجهها كلٌ منا لنفسه ويجيب عنها بأمانةٍ ونزاهةٍ:
عن الصلاة مثلاً؛ هل لم أكن أصلي وبدأت الالتزام بالصلاة؟ هل كنت أصلي بشكلٍ متقطعٍ وبدأت في المحافظة على جميع الصلوات؟ هل كنت أصلي في البيت وبدأت الصلاة مع جماعة المسلمين في المسجد؟ هل بدأت ألتزم بصلاة السنن الرواتب؟ هل أضفت لصلواتي صلوات نفل؟ هل تعودت على صلاة قيام الليل؟ هل زاد خشوعي أثناء الصلاة؟
وعن القرآن؛ هل أتممت قراءة القرآن كله لأول مرة في حياتي؟ هل ختمت تلاوة القرآن لأكثر من مرة؟ هل قرأت القرآن الكريم بتدبر؟ هل حفظت منه سوراً أو آياتٍ لم أكن أحفظها من قبل؟ هل أدركت معانيه وعلمت أحكامه؟ هل راجعت تفسير بعض آياته؟ هل حضرت مجالس علم خُصصت لبيان فضل تلاوة القرآن في شهر القرآن؟
وعن الصدقات؛ هل استطعت أن أتغلب على شُح نفسي؟ هل تصدقت على المساكين والفقراء؟ هل وسعت عليهم؟ هل أخرجت زكاة الفطر؟ هل لمست في نفسي ميلاً نحو المزيد من الإنفاق على أوجه الخير المختلفة؟
وعن المعاملات، هل بررت بوالدي خلال شهر رمضان؟ هل أحسنت إلى أهلي وأبنائي؟ هل وصلت رحمي؟ هل ابتعدت عن فحش القول؟ هل صرت أكثر ليونةً وأقل قسوة في تعاملي مع الناس؟ هل أصبحت أقدر ظروف غيري وألتمس لهم الأعذار؟ هل زادت رغبتي في خدمة المعاقين وغير القادرين وأصحاب الاحتياجات الخاصة؟
وهكذا .. لنسأل أنفسنا مثل هذه الأسئلة وغيرها، إذا وجدنا أنفسنا قد تغيرنا نحو الأحسن خلال الشهر الفضيل فقد ربحنا وكسبنا، أما إذا وجد أحدنا نفسه بعد رمضان كما كان قبله فليقف مع نفسه وقفةً حازمةً للحساب؛ قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾، وقال عمر الفاروق، رضي الله عنه: "أيها الناس حاسِبوا أنفسكم قبل أن تُحاسَبوا، وزِنوا أعمالكم قبل أن تُوزن عليكم، وتهيئوا للعرض الأكبر ﴿يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَىٰ مِنكُمْ خَافِيَةٌ﴾". وقال الفضيل بن عياض: "من حاسَب نفسه قبل أن يُحاسَب خف في القيامة حسابه، وحضر عن السؤال جوابه، وحسن منقلبه ومآبه. ومن لم يحاسب نفسه دامت حسراته، وطالت في عرصات القيامة وقفاته، وقادته إلى الخزي والمقت سيئاته. وأكيس الناس من دان نفسه وحاسبها وعاتبها وعمل لما بعد الموت واشتغل بعيوبه وإصلاحها".
وإذا كنا أذنبنا أو أسأنا أو قصرنا فلنبادر إلى الاستغفار؛ يقول تعالى: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُون﴾.

ارتحل شهر الصوم، فما أسعد نفوس الفائزين، وما ألذ عيش المقبولين، وما أذل نفوس العصاة المذنبين، وما أقبح حال المسيئين المُفَرِّطين.
لا بُد من وقفة محاسبةٍ جادةٍ مع النفس، ننظر ماذا قدمنا في شهرنا من عمل؟ ما العبادات وأعمال الخير التي قمنا بها؟ وما هي الأمور التي قصَّرنا فيها؟ فمن كان مُحسناً، فليحمد الله، وليزدد إحساناً، وليسأل الله الثبات والقبول والغفران، ومن كان مقصراً فليتُب إلى مولاه قبل حلول الأجل.

مشاعر الختام تبكينا يا رمضان، ‏ما أجمل حضورك، وما أسرع مرورك، وما أعظم أجورك.
قال شاعر:
ترحَّلت يا شهرَ الصيامِ بصومِنا
وقـدْ كنتَ أنواراً بكلِّ مكانِ
عليكَ سلامُ الله كن شاهداً لنا
بخـيرٍ رعاكَ الله مِنْ رمـضانِ
وقال آخر:
رمضانُ قد رحلت فما عسايّ أقولُ
والدمعُ من ألم الفراق يسيلُ؟
فلك التحية ما أقمت بأرضنا
ولك التحية ما احتواك رحيلُ
وقال ثالث:
يا عين جودي بالدموع وودعي
شهر الصيام تشوقاً وحناناً
شهرٌ به غفر الكريم ذنوبنا
وبه المهيمن يستجيب دُعانا
شهرٌ به الرحمن يفتح جنةً
للصائمين ويغلق النيرانَ

أحبتي .. لا تودّعوا رمضان، وإنما استمتعوا به باقي عامكم؛ فرمضان ليس شهراً فقط، بل هو أسلوب حياةٍ وبدايةٌ لتغيير النفوس والسلوك .. لا تودعوا شهر رمضان بل افسحوا له المجال ليحيا معكم وتحيوا به طوال العام بصوم التطوع، وحفظ وتلاوة القرآن، والتصدق على الفقراء والمساكين، وصلة الرحم التي لا يضيعها إلا أحمق أو جاهل أو مَنْ في قلبه كِبرٌ والعياذ بالله، وصلاة الجماعة على وقتها في المسجد، وقيام الليل، وأعمال الخير والبر.
لتكن عبادتنا مستمرةٌ بإذن الله فهي لم تكن لرمضان وإنما هي لرب رمضان ورب وغيره من الشهور؛ قال تعالى: ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾.
‏أسأل الله العلي القدير أن يكون قد ختم لنا شهر رمضان بذنبٍ مغفور، وسعيٍ مشكور، وعملٍ متقبلٍ مبرور، وأن يجعلنا وأنتم ووالدينا وأهلينا وأحبتنا من عتقائه من النار.
اللهم اجعل رمضان شاهداً لنا لا علينا، واجعلنا من المقبولين برحمتك وغفرانك وعفوك ورضوانك، وأعده علينا أعواماً عديدة، وأزمنةً مديدة، ونحنُ إليك أقرب.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.
هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.

https://goo.gl/iT777o