الجمعة، 31 مارس 2023

الإنفاق مما نُحب

 خاطرة الجمعة /389

الجمعة 31 مارس 2023م

(الإنفاق مما نُحب)

قصةٌ حقيقيةٌ رواها أحد الأطباء؛ قال إنه وقبل عدة أعوامٍ، وفي حارته القديمة، كان له جارٌ مُتحدثٌ لبقٌ، مُستمعٌ جيدٌ، ومُحاورٌ هادئٌ، وكان إنساناً اجتماعياً ومحبوباً. يقول: في أحد الأيام التقيتُ به وهو يُجهز سيارته ليذهب إلى مكانٍ ما، ومما أثار استغرابي عُلب شوكولا فاخرةٍ، أكثر من عشرين عُلبةً موجودةً بالمقعد الخلفي للسيارة! فألقيتُ عليه السلام وسألته: "إلى أين أنت ذاهبٌ يا جاري؟"، فرد عليّ السلام وابتسم ابتسامةً جميلةً لم أفهم معناها وقال: "ما رأيك أن ترافقني؟"، قلتُ: "لا مشكلة أرافقك، ولكن أتمنى ألا يكون المكان بعيداً"، قال: "إن شاء الله لن نتأخر".

توجهنا إلى حيٍ فقيرٍ جداً يبعد عن حارتنا قرابة ساعةٍ بالسيارة، ثم أوقف السيارة ونزلنا منها، وحمل مجموعةً من عُلب الشوكولاتة وتوجه إلى عددٍ من البيوت! دق على الباب الأول ففتح الباب أولادٌ صغارٌ، وعندما رأوه قفزوا فَرَحاً ونادوا أُمهم: "صاحب الشوكولاتة جاء يا أُمي، صاحب الشوكولاتة جاء يا أمي"؛ فأعطاهم علبة الشوكولاتة وتكلم مع الأطفال قليلاً، ثم استأذن! ثم دق الباب على البيت الثاني، ففتحت امرأةٌ كبيرةٌ بالعمر وعندما رأته دعت له كثيراً: "الله يفتحها عليك يا ابني، الله يرضى عليك، الله يطعمك من ثمار الجنة، والله يا ابني إنك تجبر خاطرنا، الله يُجبر خاطرك!"، ثم أعطاها عُلبة الشوكولاتة واستأذن. وهكذا مع بقية البيوت، وكل بيتٍ كان قصةً بحد ذاته، وفي كل بيتٍ سيمفونيةٌ جميلةٌ ورائعةٌ من المشاعر والأحاسيس والدُعاء. انتهينا من توزيع عُلب الشوكولاتة ورجعنا إلى السيارة وتوجهنا إلى البيت؛ قلتُ له: "جزاك الله خيراً، والله يعطيك العافية يا جار، شيءٌ جميلٌ ما صنعته، ولكن لدي سؤال ونصيحة لك"، قال: "تفضل"، قلتُ: "لماذا لا تُعطيهم مالاً؟ أليس أفضل لهم ويستطيعون شراء ما يحتاجون بأنفسهم؟!"، ضحك جاري ضحكةً قويةً وكأن سؤالي أعجبه!! ثم التفت إلى مقعد السيارة الخلفي وتناول عُلبة شوكولاتة وقدمها لي، وقال: "افتحها يا دكتور"، فتحتُ العُلبة وأنا مترقبٌ وكلي شوقٌ لرؤية ما تحتويه، فوجدتُ فيها -بالإضافة للشوكولاتة- مُغلفٌ فيه مبلغٌ ماليٌ جيد! فزادت حيرتي أكثر!! قلتُ له: "لماذا لا تُعطيهم المال مُباشرةً يا جار؟ لماذا بداخل عُلبة الشوكولاتة؟"، فنظر إليَّ وابتسم كعادته وقال: "يا دكتور، أنا شخصٌ أُحب الشوكولاتة كثيراً، وهي أكثر شيءٍ أُحبه في حياتي، وآكل منها يومياً، والله عزَّ وجلَّ قال: ﴿لَن تَنالُوا البِرَّ حَتّى تُنفِقوا مِمّا تُحِبّونَ﴾ وأنا أُنفق مع الصدقة ما أُحب في هذه الحياة. ثم قال لي: "يا دكتور، الصدقة فنٌ، والفقير يشتهي كما نشتهي".

 

أحبتي في الله.. تُبين هذه القصة أهمية الصدقات، وتوضح كيف يُتقن البعض تقديم صدقاته، وكيف يُبدع في تقديمها للمُحتاجين بطريقةٍ غير مألوفةٍ يُراعي فيها مشاعرهم ويحفظ بها كرامتهم بما يُمكن أن نسميه "فن الصدقة".

لكن أكثر ما استوقفي وشدّ انتباهي في هذه القصة هو التزام المُتصدق بمبدأ (الإنفاق مما نُحب)، وحرصه على تطبيقه، وهذا دليلٌ على مُنتهى الكرم بلا شك.

في المقابل هناك من وصفهم أحد الأفاضل بقوله: إنْ تصدق بدرهمٍ واحدٍ ظنّ أنه وصل إلى الجنة من أوسع أبوابها، وظلّ يُذكر نفسه بهذا الدرهم! بل الأدهى أنه قد يفعل ذنوباً بعدها على حساب الدرهم سالف الذكر! لا يتصدق إلا بأبخس الأشياء، وديدنه ومبدأه في ذلك أنّ ما يحتاجه البيت يحرم على الجامع، فلا يُخرج لله إلا ما لا يرضى هو نفسه أن يستعمله، ولا يدري المسكين أن الأيام دولٌ، وقد يأتي عليه يومٌ ينتظر أن يجود عليه غيره بما يحتاج، فهل يقبل أن تمتد له يدٌ بمثل ما كان يتصدق به من قبل؟ وهذا بغير شكٍ دليلٌ على مُنتهى البخل؛ يقول تعالى: ﴿هَا أَنتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاءُ﴾.

 

وقد ذكرني أمر (الإنفاق مما نُحب) بالقصة المشهورة للصحابي الجليل أبي طلحة؛ إذ كان أكثر أنصاريٍ بالمدينة مالاً، وكان أحب أمواله إليه بيرحاء «يُقال أن الأصل في الاسم بئر حاء»، وكانت مستقبلةً المسجد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماءٍ فيها طيبٍ، فلما نزلت هذه الآية: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾، قام أبو طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن الله يقول في كتابه: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾، وإن أحب أموالي إليّ بيرحاء، وإنها صدقةٌ لله، أرجو بِرها وذُخرها عند الله؛ فضعها يا رسول الله حيث شئتَ. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [بخٍ، ذلك مالٌ رابحٌ، ذلك مالٌ رابحٌ، قد سمعتُ ما قلتَ فيها، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين]; فقسّمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه.

 

يقول المفسرون للآية الكريمة ﴿لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ إنّ فيها حثاً من الله لنا على (الإنفاق مما نُحب) في طرق الخيرات، فقال: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ﴾ أي: تُدركوا وتبلغوا البِر، الذي هو كل خيرٍ من أنواع الطاعات وأنواع المثوبات، الموصل لصاحبه إلى الجنة، ﴿حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ أي: من أموالكم النفيسة التي تُحبها نفوسكم، فإنكم إذا قدمتم محبة الله على محبة الأموال فبذلتموها في مرضاته، دلّ ذلك على إيمانكم الصادق وبِر قلوبكم ويقين تقواكم، فيدخل في ذلك إنفاق نفائس الأموال، والإنفاق في حال حاجة المُنفق إلى ما أنفقه، والإنفاق في حال الصحة.

ودلت الآية على أن العبد بحسب إنفاقه للمحبوبات يكون بِره، وأنه ينقص من بِره بحسب ما نقص من ذلك. ولما كان الإنفاق على أي وجهٍ كان مُثاباً عليه العبد، سواءً كان قليلاً أو كثيراً، محبوباً للنفس أم لا، وكان قوله ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ مما يوهم أن إنفاق غير هذا المقيد غير نافعٍ، احترز تعالى عن هذا الوهم بقوله ﴿وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾؛ فلا يُضيّق عليكم، بل يُثيبكم عليه على حسب نياتكم ونفعه.

يقول أهل العلم إنه ينبغي للمؤمن أن يُنافس في الخيرات، وأن يُخرج من طيب كسبه وماله، يرجو ما عند الله؛ لأنَّ التقرب إلى الله يكون بما يُناسبه سبحانه، ويكون ذلك من الطيب، لا من الخبيث؛ يقول تعالى: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا﴾، ويقول سبحانه: ﴿وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى﴾، ويقول عزَّ وجلَّ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلَّا أَن تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾. وفي الحديث الصحيح يقول النبي صلى الله عليه وسلم: [مَن تَصَدَّقَ بعَدْلِ تَمْرَةٍ مِن كَسْبٍ طَيِّبٍ، ولَا يَقْبَلُ اللَّهُ إلَّا الطَّيِّبَ، وإنَّ اللَّهَ يَتَقَبَّلُهَا بيَمِينِهِ، ثُمَّ يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهِ، كما يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ، حتَّى تَكُونَ مِثْلَ الجَبَلِ]؛ فجديرٌ بالمؤمن أن يُنافس في الخيرات، وأن يُسارع في النفقات الطيبة.

 

أحبتي.. غاية ما يُحب كلٌ منا لنفسه أن يشمله الله سبحانه وتعالى برحمته فيُدخله الجنة؛ فلنعمل من أجل هذا، ونجتهد ما استطعنا للحصول على هذه السلعة الغالية؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: [...ألا إنَّ سلعةَ اللَّهِ غاليةٌ، ألا إنَّ سلعةَ اللَّهِ الجنَّةُ]، إنها أغلى سلعةٍ ينبغي علينا جميعاً أن نحرص على الحصول عليها. ولا يكون ذلك إلا بالاستجابة لأوامر الله سبحانه وتعالى وتجنب نواهيه، والالتزام بسُنة نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك الإكثار من الصدقات؛ فلنتصدق بما استطعنا ولو بشق تمرةٍ؛ فنُثاب على ذلك، ولنعلم أن الثواب يزداد ويعظم كلما كان التصدق و(الإنفاق مما نُحب) بل ومن أفضل ما نُحب. ولنتذكر حديث النبي صلى الله عليه وسلم [ما نَقَصَتْ صَدَقةٌ مِن مالٍ]. إن ما نُنفقه اليوم في الدُنيا يسبقنا إلى الآخرة ويوم الحساب، وينفعنا في موقفٍ نكون أحوج ما نكون فيه إلى هذا الذي تصدقنا به. ولا ننسى أبداً أن المال مال الله، وأننا مستخلفون فيه، وأنّ الصدقة تقع في يد الرب قبل أن تقع في يد الفقير أو المسكين أو المُحتاج.

اللهم قنا شُح أنفسنا، وحبِّب إلينا الكرم والسخاء في الإنفاق في سبيلك، وتقبّل منا أعمالنا خالصةً لوجهك الكريم.

https://bit.ly/40R3nfv