الجمعة، 18 مارس 2022

الجزاء من جنس العمل

 

خاطرة الجمعة /335


الجمعة 18 مارس 2022م

(الجزاء من جنس العمل)

 

يقول كاتب القصة: حدثني أحد أصدقائي "ضابط برتبة نقيب في قسم التحقيق في الشرطة" بهذه القصة العجيبة التي حدثت معه شخصياً، آمل منك أن تقرأها بتمعنٍ وتنظر للعبر التي يمكن أن نستفيدها منها لعلها تحرك أفئدتنا وقلوبنا ونعتبر بما فيها. قال لي محدثي: في يومٍ من الأيام، وكان يوم خميسٍ، وقبل صلاة المغرب بقليلٍ، جاءت سيارةٌ مسرعةٌ سرعةً جنونيةً في طريقٍ سريعٍ وصدمت رجلاً كان يمشي في الطريق أمام باب إحدى وكالات السيارات بالرياض، وهرب السائق الذي صدم هذا الرجل، وقد تمكنت الشرطة في نفس اليوم من إلقاء القبض عليه، أما الرجل الذي صدمته السيارة فقد تُوفي في الحال، وعند البحث عن الأوراق التي كانت بحوزته، تبين أنه قادمٌ للبحث عن عملٍ في وكالة السيارات التي تُوفي أمامها، ونُقل هذا المتوفى إلى إحدى المستشفيات حتى يُحفظ في الثلاجة ويأتي أحد أقاربه للسؤال عنه واستلامه.

مضى أسبوعان ولم يسأل عنه أي أحدٍ، وفي نهاية الأسبوع الثاني بدأ الضابط يبحث عن هاتف منزله من خلال الأوراق التي كانت بحوزته؛ اتصل الضابط بالمنزل فردت عليه امرأةٌ فسألها: "أين فلان؟"، قالت: "غير موجود"، فقال لها: "وماذا تقربين أنت له"، قالت: "زوجته"، فسألها: "متى سيعود؟"، قالت: "لا أعلم، لقد خرج منذ أسبوعين للبحث عن عملٍ، ولا نعلم عنه شيئاً، وأنا وأطفالي الاثنان ننتظر عودته". أنهى الضابط المكالمة معها دون أن يُخبرها بما حدث، وبدأ يُفكر في أمرها، وكيف يُبلغها بأمر زوجها الذي دهسته السيارة ومات؟ ظل في حيرةٍ من الأمر لمدة يومين، ثم قرر بعدها إبلاغها بما حدث؛ اتصل عليها مرةً أخرى وأبلغها بالأمر، فحزنت حُزناً شديداً وبكت وهو يُحدّثها، ثم طلب منها أن تُرسل أحد الأقارب حتى يُتابع القضية ويُنهي الإجراءات النظامية، فأبلغته بأنه لا يوجد لهم أقارب إلا عمٌ لزوجها يسكن في منطقةٍ تبعد عنهم مئات الكيلومترات، والعلاقة بينهم مقطوعةٌ. تابع الضابط موضوع هذه المرأة بنفسه، حتى تم دفن زوجها. حكمت المحكمة على السائق المُتسبب في الحادث بدفع الدية للمرأة، أخذ هذا السائق يُماطل بالدفع ويقول: "إنني لا أملك شيئاً، ولا أستطيع الدفع لها"، وبعد مرور ثلاثة أشهرٍ من الحادث استطاع أن يُحضر صك إعسارٍ من احدى المحاكم بشهادة اثنين، وطُويت القضية على أنه معسرٌ، وسيتم سداده لهذه المرأة عندما تتحسن حالته المالية. تصور أخي الحالة المادية لهذه المرأة التي كان زوجها يبحث عن عملٍ. يقول الضابط كنتُ أجمع لها بعض النقود وأعطيها إياها، وكنتُ أدلها على بعض الجمعيات الخيرية في البلد. ومرت الأيام، وفي يومٍ من الأيام، وبعد مرور سنةٍ بالضبط من الحادث الأول، كنتُ مناوباً في المساء، وإذا بمكالمةٍ هاتفيةٍ تأتي إلى الشرطة، ويُقدّر الله أن أرد على هذه المكالمة وأنا بحضرة حوالي عشرين ضابط، وإذا بخبر حادث سيارةٍ أمام وكالة السيارات ذاتها، ذهبتُ إلى موقع الحادث للتحقيق فيه؛ فوجدتُ أن سيارةً صدمت رجلاً ومات في الحال، وكانت الجثة مشوهةً جداً لا أحد يستطيع التعرف على ملامح هذا الميت، وكان يوم خميسٍ والوقت قبل المغرب بقليلٍ، وبعد البحث عن الأوراق التي بحوزة القتيل كانت المفاجأة المُذهلة والصاعقة التي تيقنت من خلالها أنه لا شيء يضيع عند رب العالمين؛ تبين لي بأن القتيل هو نفس الشخص الذي تسبب في الحادث الأول وظلم المرأة! في نفس المكان ونفس الموعد بعد سنةٍ من الحادث الأول! ومما زاد من المفاجأة أن الذي تُوفي في الحادث الثاني جاء يمشي للدخول إلى وكالة السيارات ومعه شيكٌ ليدفعه للوكالة لشراء سيارةٍ جديدةٍ له!

يقول صاحب القصة: فأخبرتُ القاضي الذي سيتولى الحكم بموضوع هذا الرجل، وما كان منه، وقد قدّر الله أن سائق السيارة الذي صدم الرجل الثاني كان يعمل في شركةٍ كبيرةٍ وعندما طُلبتْ منه الدية أحضرها سريعاً، ولكن القاضي حكم بأن تكون هذه الدية من نصيب المرأة التي ظلمها هذا الميت.

 

أحبتي في الله.. إنها قاعدة (الجزاء من جنس العمل)، وهذه قصةٌ أخرى تثبت صحة هذه القاعدة؛ حدثت القصة في سجن إحدى الدول العربية، يرويها أحد الثقاة فيقول: مسجونٌ قبل إعدامه يُقسم بالله لجنديٍ أنه سيُعدَم لقتل رجلٍ لم يره ولا يعرفه، ولكنه كان يعرف بأنه سيُعدم هكذا، بل كان طوال حياته ينتظر هذه اللحظة. استغرب الجندي وسأله: "وكيف ذلك؟!"، أجاب المسجون: "لقد كنتُ قديماً مسؤولاً عن تنفيذ حكم الإعدام في أحد السجون، وفي يومٍ من الأيام هرب من السجن المسجون الذي كان عليّ تنفيذ الحكم فيه، فخفتُ أن أُطرد من وظيفتي بسبب هذا الأمر، فما كان مني إلا أن ألبست ثوب الإعدام لشخصٍ آخر بريءٍ ونفذتُ الحكم فيه، وكنتُ أعرف أنني سألقى الجزاء نفسه، وكنتُ أنتظر هذه اللحظة!".

 

وهذا ابن الزيّات، كان وزيرًا للمعتصم والواثق، وكان يقول: "ما رحمتُ أحداً قط، الرحمة خَوَرٌ في الطبع"، ثم نُكب فسجنه الواثق في تنورٍ من حديدٍ أطرافه مسامير، كان قد أعدّه ابن الزيات نفسه لسجنائه، فكان يصيح: "ارحموني"، فيقولون: "الرحمة خَوَرٌ في الطبع"، حتى مات بالسجن!

 

ومن الأدلة الشرعية على ثبوت هذه القاعدة؛ يقول الله تعالى: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ﴾. ويقول: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِّنَ اللَّهِ﴾. ويقول سبحانه: ﴿مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُن لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُن لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا﴾، كما يقول: ﴿مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا﴾، ويقول أيضاً: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ﴾، ويقول عزَّ وجلَّ: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ﴾. ويقول كذلك: ﴿وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾، وغير ذلك من آيات.

 

ومن السُنة الشريفة؛ قال عليه الصلاة والسلام: [من بنى لله مسجداً بنى الله له بيتاً في الجنة]، وقال صلى الله عليه وسلم: [من يسرَّ على معسرٍ يسَّر الله له في الدنيا والآخرة]، وغير ذلك من أحاديث.

 

يقول أهل العلم إن (الجزاء من جنس العمل) هي سُنةٌ إلهيةٌ وقاعدةٌ عدليةٌ شريفةٌ مُستقاةٌ من النصوص الشرعية، ومعناها أن جزاء العمل من جنسه؛ إنْ خيراً فخيرٌ، وإنْ شراً فشرٌ، جزاءً وفاقاً.

ولو وضع المسلم هذه القاعدة نُصب عينيه، لزَجَرتهُ عن كثيرٍ من الذنوب والمعاصي، ولتخيل دائماً ما ينتظره من عاقبة أعمالهِ. فقاعدة (الجزاء من جنس العمل) قاعدةٌ شرعيةٌ مهمةٌ لها آثارٌ عظيمةُ النفع في إصلاح الدين والدنيا لأولي الألباب الذين يعلمون أنّ للأفعال عواقبها، وهي دافعةٌ للأعمال الصالحة، ناهيةٌ عن الظُلم، مواسيةٌ للمظلومين؛ فلو استحضر الظالم عاقبة ظلمه، وأن الله سيسقيه من نفس الكأس عاجلاً أو آجلاً، لكَفَّ عن ظلمه وتاب إلى الله عزَّ وجلَّ، ولو أن هذا الفاجر المستهتر الذي يعبث بحرمات الناس وينتهك أعراضهم، علم أن عدل الله قد يقضي بأن يُنتهك عِرضه، لتاب وترك أعراض الناس.

 

(الجزاء من جنس العمل) كتب أحدهم تحت هذا العنوان يقول: هذه سُنة الله في الكون؛ كل إنسانٍ سيشرب من الكأس التي سقى الناس بها، الظالم سيُبتلى بمن هو أظلم منه، والقاسي سيُبتلى بمن هو أقسى منه، والضد صحيح، والعكس مُشاهَدٌ عياناً! من لانَ للناس ألانَ الله له قلوب الناس، ومن جبرَ جُبِر، ومن مشيَّ في حاجة الناس قيَّض اللهُ له من يمشي في حاجته! أنتَ في يومك هذا إنما تختار شكل أيامك القادمة! وما تجاوز الله عن عبده الغني يوم القيامة الذي يأتيه وليست له حسنةٌ إلا لتجاوزه عن الناس وإنظاره المُعسر منهم.

ولأن (الجزاء من جنس العمل) فأنتَ اليوم زارعٌ وغداً حاصدٌ، فأحسِنْ غِراسكَ لتسعدَ بحصادك. ومِن عدل الله أن أغلب الغِراس يُحصد في الدنيا،

ولكنه سبحانه قد يؤجل لحكمته بعض الحصاد للآخرة؛ فإن فاتكَ هنا حصاد كل خيرٍ زرعته، فثق أنه لن يفوتك في الآخرة.

إنه (الجزاء من جنس العمل)، فمن أحسن أحسن الله إليه، ومن جاد جاد الله عليه، ومن نصر أمر الله ودينه وشرعه نصره الله وثبته، ومن تواضع لله رفعه الله، والراحمون يرحمهم الرحمن، ومن عامل الناس بما يُحب عامله الله بما يُحب، ومن ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه، ومن ذَكَرَ الله في ملأٍ ذكره الله في ملأٍ أفضل منهم، ومن تصدّق تصدّق الله عليه وعوّضه خيراً، ومن فسّح لإخوانه في المجالس فسّح الله له، ومن تجاوز عن المُعسر تجاوز الله عنه.

 

وصدق الشاعر إذ قال:

المَرءُ يُجزى بِمَا يُسديهِ مِنْ عملٍ

للنَّاسِ مَهما تَولَّى عنهُ وامتنعا

يومًا سيلقاهُ لو طالَ الزَّمانُ بِهِ

خيرًا وشرًّا سَيَجنِي كُلَّ ما زَرعا

فاصنَعْ لِنَفسِكَ بعدَ الموتِ منزِلَةً

إنْ مَرَّ ذكرُكَ قَالُوا ذَاكَ مَن صَنَعا

واستَنهَضِ النَّفسَ واشغِلها بفَائِدَةٍ

لَا يَبلغُ المَرءُ إلَّا ما إلَيهِ سَعَى

 

أحبتي.. لنتيقن تماماً أن المكيال الذي نكيل به لغيرنا سوف يُكال لنا به، إنْ عاجلاً أو آجلاً؛ فغِراس الإحسان الذي نزرعه على هذه الأرض سنتفيّأ من وارفِ ظلاله يوماً، وألوان السعادة التي ننشرها على القلوب سنجدها في انتظارنا بين محطّات الحياة؛ والعكس بالعكس. فلنتذكر جميعاً أنّ (الجزاء من جنس العمل) سُنةٌ إلهيةٌ يتجلى فيها عدل المولى عزَّ وجلَّ لذوي البصائر، وصدق الله العظيم إذ يصف نفسه بقوله سبحانه: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا﴾.

اللهم اجعلنا ممن يزرعون الخير فيحصدونه أضعافاً مضاعفةً بإذنك وعدلك وكرمك وإحسانك.

https://bit.ly/3ud6UpX