الجمعة، 17 مارس 2023

خطوة واحدة

 خاطرة الجمعة /387

الجمعة 17 مارس 2023م

(خطوة واحدة)

يقول أحد الإخوة الكرام: قررتُ بالأمس أن أُجرب عملاً لا يُداوم عليه إلا أصحاب النفوس الكبار، ومن عادتي التقصير، أسأل الله أن يعفو عني، قررتُ أن أُجرب أن لا يؤذن المؤذن إلا وأنا في المسجد، وفعلتُ ذلك، فبكَّرتُ في الحضور وصليتُ تحية المسجد، ثم دخل المؤذن وأذّن للصلاة، ولا تتخيل تلك المشاعر التي غمرتني وأنا أُجيبه وأنا جالسٌ خلفه، وبعد أن أجبته ودعوتُ الدعاء المأثور فتحتُ المصحف وبدأتُ أقرأ القرآن. مرت عشرون دقيقةً بين الأذان والإقامة، فلم أصدق عيني أنني قرأتُ جُزءاً كاملاً، تملكني ذُهولٌ عظيمٌ من سهولة هذا الإنجاز، وعِظم تقصيري فيه. كبّر الإمام فلا تسلْ عن لذة الخشوع والحضور مع قراءته، وترددتْ في ذهني عبارة أحد المشايخ "البكور حرمُ الصلاة، فمن سَلِمَ حرمُه سلمت صلاته". قضيتُ الصلاة، وجلستُ في حديثٍ وحسابٍ مع نفسي، ولا أعلم كيف تجلجلتْ في مسامعي تلك الآية: (أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَىٰ مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ). تخيلتُ نفسي وأنا أداوم على هذا الفعل في كل فريضةٍ، ما الذي سأنجزه في المسجد؟ وما الذي سأخسره خارج المسجد؟ لو ضمنتُ البكور للصلاة فرضاً واحداً كالعشاء أو العصر أو الفجر، لضمنتُ ختمةً للقرآن في كل شهرٍ دون عناءٍ ومُكابدة، فكيف لو بكرتُ فريضةً أو فريضتين أو خمساً؟ زال تعجبي حينها ممن أسمع أنهم يختمون القرآن في كل شهرٍ مرتين وثلاثاً وأربعاً طيلة أيام العام.

وتواردتْ في ذهني تلك الفضائل العظيمة؛ المشي إلى المسجد، إجابة المؤذن، وقت إجابة الدعاء بين الأذان والإقامة، وفي الصلاة وبعدها، الصف الأول، السُنّة الراتبة، إدراك تكبيرة الإحرام، حضور القلب في الصلاة، دُعاء الملائكة للمُصلين في المسجد، الأذكار والدعوات بعد الصلاة، سبعةٌ يُظلهم الله في ظله يوم القيامة منهم رجلٌ قلبه مُعلقٌ في المساجد، وغيرها كثير. لقد اكتشفتُ أنه كان بيني وبين كل هذا الثواب العظيم (خطوة واحدة) فقط!

 

أحبتي في الله.. يرى أهل العلم أن كثيراً من المُسلمين شغلتهم الدنيا بهُمومها وملذاتها ومباهجها الزائلة عن بيوت الله، فأصبح مُعظم وقتهم مصروفاً على فيسبوك وواتس آب ومواقع الإنترنت وأمام شاشات الفضائيات، فإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كُسالى مُتثاقلين مُتعجلين، وهم لا يُدركون أنهم بهذا السلوك يحرمون أنفسهم من بركة الجلوس في بيوت الله، وهي لحظاتٌ تجلب لهم السَكينة والراحة النفسية والهدوء الذي يفتقدونه خارجها. ورغم أن بينهم وبين ذلك (خطوة واحدة) إلا أنهم يحرمون أنفسهم منه ومن ثواب أكبر؛ حيث أنّ المُبكر إلى الصلاة بالمسجد:

لا يزال في صلاةٍ ما انتظرها؛ قال عليه الصلاة والسلام: [لا يَزالُ أحَدُكُمْ في صَلاةٍ ما دامَتِ الصَّلاةُ تَحْبِسُهُ، لا يَمْنَعُهُ أنْ يَنْقَلِبَ إلى أهْلِهِ إلَّا الصَّلاةُ].

وتُصلّي عليه الملائكة وتدعو له بالمغفرة والرحمة ما دام في مصلاه ما لم يُحدث أو يؤذِ؛ قال عليه الصلاة والسلام: [المَلَائِكَةُ تُصَلِّي علَى أحَدِكُمْ ما دَامَ في مُصَلَّاهُ الذي صَلَّى فِيهِ، ما لَمْ يُحْدِثْ، تَقُولُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ له، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ]، وفي روايةٍ: [ما لم يُحدِثْ فيهِ ما لم يؤذِ فيهِ].

وتُمحى ذنوبه وتُغسل خطاياه، وتُرفع درجاته، وهو من الرِباط؛ قال عليه الصلاة والسلام: [ألا أدلُّكُم على ما يَمحو اللَّهُ بهِ الذُّنوبَ ويرفعُ الدَّرجاتِ؟] قالوا بلى يا رسولَ اللَّهِ قال: [إِسباغُ الوضوءِ على المَكارِه، وَكثرةُ الخُطا إلى المَساجِدِ، وانتظارُ الصَّلاةِ بعدَ الصَّلاةِ؛ فذلِكَ الرِّباطُ]، وفي روايةٍ: [إسباغُ الوضوءِ في المكارِه، وإعمالُ الأقدامِ إلى المساجدِ، وانتظارُ الصلاةِ بعد الصلاةِ؛ يغسلُ الخطايا غسلًا].

ويضمن إدراك صلاة الجماعة التي تفضل صلاة المنفرد بسبعٍ وعشرين درجة؛ قال صلى الله عليه وسلم: [صَلَاةُ الجَمَاعَةِ تَفْضُلُ صَلَاةَ الفَذِّ بسَبْعٍ وعِشْرِينَ دَرَجَةً].

ويُدرك تكبيرة الإحرام مع الإمام؛ قال عليه الصلاة والسلام: [مَنْ صلَّى للهِ أربعينَ يومًا في جماعةٍ، يُدْرِكُ التَّكْبيرَةَ الأُولَى، كُتِبَتْ لهُ بَرَاءَتَانِ: بَرَاءَةٌ مِنَ النارِ، وبَرَاءَةٌ مِنَ النِّفَاقِ].

ويلحق بالصف الأول فينال ثوابه بإذن الله؛ قال صلى الله عليه وسلم: [لو يَعْلَمُ النَّاسُ ما في النِّدَاءِ والصَّفِّ الأوَّلِ، ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إلَّا أنْ يَسْتَهِمُوا لَاسْتَهَمُوا عليه]. يَسْتَهَمُوا أي يضربوا قرعة. وقال عليه الصلاة والسلام: [خَيْرُ صُفُوفِ الرِّجالِ أوَّلُها، وشَرُّها آخِرُها]. وقال أيضاً: [إنَّ اللَّهَ وملائِكتَهُ يصلُّونَ على الصَّفِّ الأوَّلِ]. وكان صلى الله عليه وسلم يستغفِرُ للصَّفِّ المُقدَّمِ ثلاثًا وللثَّاني مرَّةً.

ويُدرك ميمنة الصفّ؛ قال عليه الصلاة والسلام: [إِنَّ اللَّه وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَىَ مَيامِن الصُّفوف].

ويتمكن من الإتيان بالنوافل المشروعة بين الأذان والإقامة، والسُنن الرواتب القبلية.

وقلبه متعلّقٌ في المساجد؛ قال عليه الصلاة والسلام: [سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ في ظِلِّهِ، يَومَ لا ظِلَّ إلَّا ظِلُّهُ] وذكر منهم: [ورَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ في المَسَاجِدِ]، وفي روايةٍ: [ورجلٌ قلبُهُ مُعَلَّقٌ بِالمسجدِ إذا خرجَ مِنْهُ حتى يَعُودَ إليهِ].

وينتظر الصلاة فيكون انتظاره سبباً في حضور القلب في الصلاة، وإقبال المرء على صلاته وخشوعه فيها. ويتمكن من الدعاء بين الأذان والإقامة فكُل دُعاءٍ بينهما مُستجابٌ، كما يتمكن من الإتيان بأذكار الصباح والمساء في وقت الفجر ووقت المغرب.

ويحضر بسَكينةٍ ووقارٍ، فيكون مُمتثلاً أمر النبي صلى الله عليه وسلم: [إذا أُقيمتِ الصَّلاةُ فلا تأتوها وأنتم تَسعَونَ، ولكن ائتوها وأنتم تَمشُونَ وعليكم السَّكينةُ، فما أدركتُم فصلُّوا، وما فاتكم فأتمُّوا] بخلاف المتأخر فإنه غالباً يأتي مُسرعاً مُستعجلاً.

إنّ اقتران الحضور المُبكر للصلاة والسجود بالمسجد يُذكرني بالتوجيه الإلهي لنبينا الكريم صلى الله عليه وسلم؛ يقول تعالى: ﴿وَاسْجُدْ وَاقْتَرِب﴾، فإذا كان الله عزَّ وجلَّ يطلب من حبيبه ومُصطفاه وسيد البشر أجمعين أنْ يقترب، فما أحوجنا نحن -بتقصيرنا وخطايانا- إلى الاقتراب من الله، ليس بخطوةٍ واحدةٍ وإنما بالكثير من الخطوات.

 

أحبتي.. كل واحدٍ منا على بُعد (خطوة واحدة) من نيل ثوابٍ عظيم؛ من لا يُصلي لا يحتاج إلا إلى اتخاذ قرارٍ واحدٍ ليكون من المُصلين، يكفيه أن يتذكر الحديث الشريف: [إنَّ بيْنَ الرَّجُلِ وبيْنَ الشِّرْكِ والْكُفْرِ تَرْكَ الصَّلاةِ]، ويكفيه أن يعلم أن (خطوة واحدة) في هذا الاتجاه يُعينه عليها الله سبحانه وتعالى؛ ففي الحديث القُدسي: {ومن تقرَّبَ إليَّ شبرًا تقربْتُ منه ذراعًا، ومن تقرَّبَ إليّ ذراعًا تقربتُ منه باعًا، ومن أتاني يمشي أتيتُه هرولةً}.

ومن يُصلي بغير انتظامٍ، ليكن قراره من هذه اللحظة الانتظام في الصلاة والمُحافظة عليها وتقديمها على ما عداها من أمور ومشاغل دُنيوية.

والذي يُصلي بانتظامٍ في بيته أو مكان عمله ليس بينه وبين الصلاة في المسجد إلا (خطوة واحدة).

والمواظبون على الصلاة في المسجد عليهم أن يحرصوا على التبكير في الذهاب إليه في كل الصلوات، فإن لم يستطيعوا فليكن تبكيرهم في مُعظم الصلوات مع النية الجادة والعزم الأكيد على إتمام الصلاة للفروض الخمسة في المسجد مع جماعة المسلمين.

يقولون إن طريق الألف ميلٍ يبدأ بخطوةٍ واحدةٍ، وأقول إن (الخطوة الواحدة) تُقرِّب المُسلم إلى ربه ومولاه، وتُكسبه عفوه ورضاه، وتكون سبباً في حُسن الجزاء في الدنيا والآخرة.

أعاننا الله سُبحانه وتعالى على أنفسنا، وأعاننا على ذِكره وشُكره وحُسن عبادته على الوجه الذي يُرضيه عنا.

https://bit.ly/40dihMW