الجمعة، 20 أبريل 2018

شياطين الإنس


الجمعة 20 إبريل 2018م

خاطرة الجمعة /١٣١
(شياطين الإنس)

يُحكى أنه في حروب أوروبا في القرن الثامن عشر دخل الجنود قريةً واغتصبوا كل نسائها، إلا واحدةً من النساء قاومت الجندي وقتلته وقطعت رأسه! وبعد أن أنهى الجنود مهمتهم ورجعوا لثكناتهم ومعسكراتهم، خرجت كل النساء من بيوتهن يلملمن ملابسهن الممزقة ويبكين بحرقةٍ، إلا هي خرجت من بيتها وجاءت حاملةً رأس الجندي بين يديها وكل نظراتها عزة نفسٍ واحتقارٍ للأخريات، وقالت: هل كنتن تظنون أن أتركه يغتصبني دون أن أقتله أو يقتلني؟! فنظرت نساء القرية لبعضهن البعض وقررن أنه يجب قتلها حتى لا تتعالى عليهن بشرفها ولكي لا يسألهن أزواجهن عندما يعودون لِمَ لم تقاومن مثلها؟! فهجموا عليها على حين غفلةٍ وقتلوها؛ قتلوا الشرف ليحيا العار.
وهكذا هو حال الفاسدين في كل مكانٍ وزمانٍ؛ يحاربون كل شريفٍ إلى حد القتل كي ﻻ يكون شاهداً على فسادهم؛ إنهم (شياطين الإنس).

أحبتي في الله .. ذكرتني هذه الحكاية بالآية الكريمة التي نزلت في المنافقين: ﴿وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً﴾. يقول المفسرون أن المنافقين يتمنون أن تكفروا فتجحدوا وحدانية ربكم، وتصديقَ نبيِّكم محمدٍ صلى الله عليه وسلم، كما كفروا هم، فتكونون سواءً؛ أي فتكونون كفّاراً مثلهم، وتستوون أنتم وهم في الشرك بالله. يقول الشيخ الشعراوي: ﴿وَدُّوا﴾ من عمل القلب، وعمل القلب تخضع له جميع الجوارح، فما داموا يودون أن يكون المسلمون كافرين، إذن سيقفون في سبيل انتصار المسلمين، وسيضعون العقبات التي تحقق مطلوبات قلوبهم. فأصحاب الباطل إن كانت لهم قوةٌ يجعلون لسانهم مع قلوبهم في الجهر بالباطل، وإن كان عندهم ضعفٌ يجعلون قلوبهم للباطل ولسانهم للحق؛ فهم يتمنون إزالة طائفة الحق حتى لا يكون هناك أحدٌ أفضل من أحدٍ. وقوله سبحانه عن أمنية المنافقين الكافرين بقلوبهم هو أن يكون المؤمنون مثلهم ﴿فَتَكُونُونَ سَوَآءً﴾، فإذا ما حاول أحدٌ من أصحاب الرذيلة (شياطين الإنس) أن يشد صاحب الفضيلة إلى خطأٍ، فهو يسعى إلى إضلاله، إنهم لا يقفون من الإيمان موقف الحياد، ولكنهم يقفون منه موقف العناد والعداوة، وفي هذا تحذيرٌ واضحٌ للمؤمنين هو: إياكم أن تأمنوهم على شيءٍ يتعلق بمصالحكم وإيمانكم. وهذه الآية الكريمة توضحها آيةٌ أخرى في كتاب الله؛ يقول المولى عز وجل: ﴿وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ﴾.

يقول أهل العلم أن الله سبحانه وتعالى قد أخبرنا أن من الجن والإنس شياطين يريدون أن يضلونا وأن يبعدونا عن صراط الله المستقيم، ويريدون أن يسببوا لنا الأذى النفسي والبدني، فهم يوسوسون، وينفثون سمومهم بين بني آدم، ويرسلون عليهم أعوانهم ليؤذوهم وليلبسوا عليهم دينهم؛ قال تعالى: ﴿يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمْ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنْ الْجَنَّةِ﴾، فهذه الآية تبين شدة عداوة الشيطان لبني آدم وخصوصاً عباد الله المؤمنين، فهو حريصٌ على كل ما يضرهم من الكفر والبدع والمعاصي وتعليق قلوبهم بغير الله، والشرك به والاستعانة بغيره، وغير ذلك مما ينال من إيمانهم وعقيدتهم، ولكن الله تعالى، رحمةً منه بنا، أنار لنا الطريق بالبرهان الساطع والكلام الواضح المبين، فحذرنا من الشيطان وأعوانه؛ فقال تعالى: ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾، وحذرنا منه أيضاً النبي، صلى الله عليه وسلم، في كثيرٍ من الأحاديث، كي نتجنب وسوسته وأذاه.
فالشياطين من الجن هم المتمردون منهم وأشرارهم، و(شياطين الإنس) هم متمردو الإنس وأشرارهم. فالجن والإنس منهم شياطين؛ وهم متمردوهم وأشرارهم من الكفرة والفسقة. وشيطان الإنس لا يوسوس كما يفعل شيطان الجن، وإنما يأتي عياناً ويدعو إلى المعاصي؛ فشيطان الجن يوسوس بنا لنقتل أو نزني أو نسرق وليس له سطوةٌ وتحكم فينا، أمّا شيطان الإنس، فهو يسرق بيديه ويعلّمنا سبل السرقة، وإذا كان شيطان الجن يزيّن لنا شرب الخمر، فشيطان الإنس يصنعه ويحضره لنا.
قال مالك بن دينار: "إن شيطان الإنس أشد عليّ من شيطان الجن، وذلك أني إذا تعوذت بالله ذهب عني شيطان الجن، وشيطان الإنس يجيئني فيجرني إلى المعاصي عياناً".
فكل إنسانٍ مفسدٍ يأمر بالسوء والفحشاء والمنكر وينهى عن الصلاح والاستقامة ويشغل عن ذكر الله وعن الصلاة هو شيطانٌ، لقول الله تبارك وتعالى: ﴿وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾. وقال تعالى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ﴾.
إن هؤلاء المفسدين ينقمون من كل مؤمنٍ بالله شريفٍ مستقيمٍ؛ يقول عنهم المولى عز وجل: ﴿وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾، لكن سطوتهم تكون أظهر وأقسى وأشد بأساً عندما يتحول الإنسان الطاهر النظيف من شخصٍ صالحٍ يهتم بأمور نفسه فقط إلى شخصٍ مصلحٍ يهتم بأحوال غيره وينبههم ويفضح لهم خطط ومشاريع المفسدين ويبين لهم أهدافهم ومآربهم.
إن أكثر ما يضايق (شياطين الإنس) المفسدين ويقض مضاجعهم هو وجود المصلحين الذين يكشفونهم، ويحاربون فسادهم، ما يعني تجريدهم مما هم فيه، وتنغيص تمتعهم بشهواتهم وملذاتهم التي يغرقون فيها، ما يستفزهم ويدفعهم لمحاربة أولئك المصلحين بشتى الطرق الممكنة، وتظهر شراسة المفسدين بوجهها السافر حينما يستشعرون أن المصلحين باتوا يهددون وجودهم المرتبط بمشروعهم الإفسادي، أو يمنعونهم من ارتكاب المعاصي العلنية الظاهرة، لذا فإنهم يسعون بكل ما أوتوا من قوةٍ لإقصاء أولئك المصلحين عن مواقع الحضور والتأثير.
ويبين الله سبحانه وتعالى لنا علاقة التحالف بين (شياطين الإنس) وشياطين الجن؛ يقول سبحانه: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً﴾، أي: يُزين بعضهم لبعضٍ الأمر الذي يدعون إليه من الباطل، ويزخرفون له العبارات حتى يجعلوه في أحسن صورةٍ، ليغتر به السفهاء، وينقاد له الأغبياء، الذين لا يفهمون الحقائق، ولا يفقهون المعاني، بل تعجبهم الألفاظ المزخرفة، والعبارات المموهة المنمقة، فينخدعون بقدرة أهل الباطل على التزييف وقلب الحقائق وتمثيل أدوار المصلحين، وينقادون وراءهم يعتقدون الحق باطلاً والباطل حقاً. وفي الآية بيانٌ واضحٌ بأن هناك (شياطين الإنس) وهم غير شياطين الجن، بل هم مقدمون عليهم؛ إنهم أعوانٌ لهم، تكمن خطورتهم في أنهم بشرٌ منا؛ من الأهل أو الأقارب أو الجيران أو الأصدقاء أو الزملاء أو المعارف أو من الغرباء، تجدهم في الأسرة والجيرة وأماكن العمل وفي مواقع وبرامج التواصل الاجتماعي وفي شبكة الإنترنت والقنوات التلفزيونية؛ شغلهم الشاغل أن يزينوا للناس الباطل ويوحون بالقول المزخرف المنمق عمل السوء، إنهم يسعون في الأرض فساداً ويتمنون لو أنَّا أطعناهم، منهم من يسعى لتعليم الشباب التدخين أو تناول المخدرات أو الخمر والمسكرات، ومنهم من يحاول أن يجر الناس إلى أماكن لعب القمار أو أماكن الفسق والفجور واللهو المحرم، ومنهم من يزينون للناس كل عمل مشين يعرضون عليهم مشاركتهم فيما هم متورطون فيه من فسادٍ على اختلاف صوره وأشكاله؛ من قتلٍ وزنا وظلمٍ وبغيٍ واعتداءٍ على الغير بغير حقٍ ونصبٍ وأكل أموالٍ بالباطل وكذبٍ وافتراءٍ واجتراءٍ على الله ورسوله، ويسوقون بضاعتهم الرديئة على أنها شطارةٌ أو تجارةٌ أو إثبات نفوذٍ أو فرض هيبةٍ؛ أو صورةٌ من صور التحضر والحداثة ومجاراة الحياة العصرية؛ فهم حقاً قد ﴿زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ﴾!

وقد بين الله ما على المسلم أن يعامل به كلاً من (شياطين الإنس) والجن؛ قال تعالى: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ . وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾، حيث يتبين من هذه الآية الكريمة ما ينبغي أن يُعامَل به الجهلة من (شياطين الإنس) والجن؛ فشيطان الإنس يُعامل باللين وأخذ العفو والإعراض عن جهله وإساءته. أما شيطان الجن فلا منجى منه إلا بالاستعاذة بالله منه.

أحبتي .. فلنَحْذر من (شياطين الإنس)، ولنُحَذِّر أهلينا وأبناءنا وجميع أحبائنا منهم، ولنعلم أنه من علامات ﴿زُخْرُف الْقَوْلِ﴾ أنه يعجبنا قولهم، ويقسمون بالله وهم كاذبون، حَذَّرنا الله منهم؛ قال تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ؛ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ﴾.
ولنسأل الله الثبات على الدين وعلى الحق وعلى اتباع سبيل المؤمنين ولو قَلَّ سالكوه؛ حتى نقي أنفسنا الانزلاق إلى طريق الحرام وسبل الفساد ونبتعد عن سبيل الله ونصد عنه فتنطبق علينا، والعياذ بالله، الآية الكريمة: ﴿فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ﴾.

وقانا الله وإياكم شر أصدقاء السوء (شياطين الإنس) الذين يودون لو كفرنا كما هم كافرون، ويتمنون لو فسدنا كما هم فاسدون، الذين يحاربون أصحاب القلوب الطاهرة والضمائر الحية والأيادي النظيفة.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.

هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.

http://goo.gl/RohRL6