الجمعة، 2 أكتوبر 2020

نعمة الهداية

 

الجمعة 2 أكتوبر 2020م


خاطرة الجمعة /259

(نعمة الهداية)

 

هذه من أعجب القصص، ولولا أن صاحبها كتبها بنفسه، ما ظننتُ أن تحدث. يقول صاحب القصة، وهو من أهل «المدينة المنورة»: أنا شابٌ في السابعة والثلاثين من عمري، متزوجٌ، ولي أولاد. ارتكبتُ كل ما حرَّم الله من الموبقات، أما الصلاة فكنتُ لا أؤديها مع الجماعة إلا في المناسبات فقط مجاملةً للآخرين، والسبب في ذلك أني كنت أصاحب الأشرار؛ فكان الشيطان ملازماً لنا في أكثر الأوقات.

كان لي ولدٌ في السابعة من عمره، اسمه «مروان»، أصم أبكم، لكنه كان قد رضع الإيمان من ثدي أمه المؤمنة. كنتُ ذات ليلةٍ أنا وهو في البيت، وكنتُ أخطط ماذا سأفعل أنا وأصحاب السوء، وأين سنذهب في تلك الليلة؟ كان الوقت بعد صلاة المغرب، فإذا بابني «مروان» يُكلمني بلغة الإشارة ويسألني: "لماذا يا أبتِ لا تُصلي"؟! ثم أخذ يرفع يده إلى السماء، ويقول لي: "إن الله يراك"، وكان ابني في بعض الأحيان يراني وأنا أفعل بعض المنكرات، تعجبتُ من قوله، ولم أكترث له؛ فبدأ يبكي، أخذته إلى جانبي لكنه هرب مني. بعد فترةٍ قصيرةٍ ذهب إلى صنبور الماء وتوضأ، تعلم ذلك من أمه التي كانت تنصحني كثيراً ولكن دون فائدة، وكانت من حفظة كتاب الله، ثم دخل عليّ وأشار إليّ أن أنتظر قليلاً؛ فإذا به يُصلي أمامي، ثم قام وأحضر المصحف الشريف ووضعه أمامه وفتحه مباشرةً، دون أن يُقلب الأوراق، ووضع إصبعه على هذه الآية من سورة مريم: ﴿يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا﴾ ثم أُجهش بالبكاء، فوجدتُ نفسي أبكي معه طويلاً، فقام ومسح الدمع من عيني، ثم قبَّل رأسي ويدي، وقال لي: "صلِ يا والدي قبل أن تُوضع في التراب، وتكون رهين العذاب". كنتُ في دهشةٍ وخوفٍ لا يعلمهما إلا الله، حتى أنني قمتُ على الفور بإضاءة أنوار البيت جميعها، وكان «مروان» يلاحقني من غرفةٍ إلى غرفة، نظر إليّ باستغراب وقال لي: "دع الأنوار، وهيا إلى المسجد الكبير" ويقصد الحرم النبوي الشريف، فقلتُ له: "بل نذهب إلى المسجد المجاور لمنزلنا"، فأبى إلا الحرم النبوي الشريف، فأخذته إلى هناك، وأنا في خوفٍ شديدٍ، وكانت نظراته لا تفارقني أبداً. دخلنا الروضة الشريفة، وكانت مليئةً بالناس، وأُقيم لصلاة العشاء، وإذا بإمام الحرم يقرأ من كتاب الله قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ فلم أتمالك نفسي من البكاء، و«مروان» بجانبي يبكي لبكائي، وفي أثناء الصلاة أخرج «مروان» من جيبي منديلاً ومسح به دموعي، وبعد انتهاء الصلاة ظللتُ أبكي وهو يمسح دموعي، حتى أنني جلستُ في الحرم مدة ساعةٍ كاملةٍ، وخاف عليّ «مروان» من شدة البكاء.

عدنا إلى المنزل، فكانت تلك الليلة من أعظم الليالي عندي، إذ وُلدتُ فيها من جديد، وحضرتْ زوجتي، وحضر أولادي، فأخذوا يبكون جميعاً، وهم لا يعلمون شيئاً مما حدث، فقال لهم «مروان»: "أبي صلى في الحرم"، ففرحتْ زوجتي بهذا الخبر إذ هو ثمرة تربيتها الحسنة، وقصصتُ عليها ما جرى بيني وبين «مروان»، وقلتُ لها: "أسألك بالله، هل أنتِ أوعزتِ له أن يفتح المصحف على تلك الآية"؟ فأقسمتْ بالله ثلاثاً أنها ما فعلتْ، ثم قالت لي: "احمد الله على (نعمة الهداية)". وكانت تلك الليلة من أروع الليالي. وأنا الآن – ولله الحمد – لا تفوتني صلاة الجماعة في المسجد، وقد هجرتُ رفقاء السوء جميعاً، وذقتُ طعم الإيمان، كما أصبحتُ أعيش في سعادةٍ غامرةٍ وحبٍ وتفاهمٍ مع زوجتي وأولادي وخاصةً ابني «مروان» الأصم الأبكم الذي أحببته كثيراً، كيف لا وقد كانت هدايتي على يديه؟

 

‏أحبتي في الله .. ذكرتني هذه القصة بقصةٍ أخرى لا تقل غرابةً عن قصة الطفل «مروان»؛ فهي لطفلٍ في الصف الثالث الابتدائي، تطرق معلمه في إحدى الحصص إلى فضل صلاة الفجر وأهميتها، سمعه الطفل وتأثر بحديثه، فهو لم يسبق له أن صلى الفجر، لا هو ولا أحدٌ من أهله. وعندما عاد الطفل إلى المنزل أخذ يفكر كيف يمكن أن يستيقظ لصلاة الفجر في اليوم التالي؟ فلم يجد حلاً سوى أن يبقى مستيقظاً طوال الليل حتى يتمكن من أداء الصلاة، وبالفعل نفذ ما فكر به، وعندما سمع أذان الفجر انطلق لأداء الصلاة بالمسجد، ولكن ظهرت مشكلةٌ في طريق الطفل؛ فالمسجد بعيدٌ ولا يستطيع الذهاب وحده، فجلس بجوار باب البيت يبكي، فجأةً سمع صوت طقطقة حذاءٍ في الشارع، فتح الباب وخرج مسرعاً فإذا برجلٍ شيخٍ عجوزٍ يهلل متجهاً إلى المسجد، نظر إليه فعرفه، أنه جد زميله ابن جارهم، تسلل الطفل بخفةٍ وهدوءٍ خلف ذلك الرجل حتى لا يشعر به فيخبر أهله فيعاقبونه. واستمر الحال على هذا المنوال يومياً، ولكن دوام الحال من المحال؛ فقد تُوفي الشيخ العجوز، وعندما علم الطفل بوفاته ذُهل وأخذ يبكي بحرقةٍ وحرارةٍ استغرب منها والداه؛ فسأله أبوه: "لماذا تبكي عليه هكذا وهو ليس في سنك لتلعب معه، وليس قريبك فتفقده في البيت"؟ نظر الطفل إلى أبيه بعيونٍ دامعةٍ ونظراتِ حزنٍ وقال له: "يا ليت الذي مات أنت وليس هو!"، صُعق الأب من إجابة ابنه وتعجب فهو لا يدري لماذا يقول له ابنه هذا الكلام الجارح؟ ثم لماذا يحب هذا الرجل كل هذا الحب؟ استمر الطفل في الكلام فقال: "أنا لم أفقده من أجل شيءٍ مما تقول"، استغرب الأب وقال: "إذاً من أجل ماذا"؟ فقال الطفل: "من أجل الصلاة .. نعم من أجل الصلاة"!! ثم استطرد وهو يبتلع عبراته: "لماذا يا أبي لا تُصلي الفجر؟ لماذا يا أبتِ لا تكون مثل ذلك الرجل ومثل الكثير من الرجال الذين رأيتُهم"؟ فقال الأب: "أين رأيتَهم"؟ فقال الطفل: "في المسجد"، قال الأب: "كيف"؟ فحكى الطفل لأبيه حكايته؛ فتأثر الأب من ابنه واقشعر جلده وكادت دموعه أن تسقط واحتضن ابنه، ومنذ ذلك اليوم لم يترك الأب أي صلاةٍ في المسجد مع ابنه؛ إنها (نعمة الهداية).

 

قال النبي عليه الصلاة والسلام: [فو اللَّهِ لأنْ يهْدِيَ اللَّه بِكَ رجُلًا واحِدًا خَيْرٌ لكَ من حُمْرِ النَّعم]، وقال صلى الله عليه وسلم: [مَنْ دَعَا إِلَى هُدىً كانَ لهُ مِنَ الأجْر مِثلُ أُجورِ منْ تَبِعهُ لاَ ينْقُصُ ذلكَ مِنْ أُجُورِهِم شَيْئًا]، كما قال عليه الصلاة والسلام: [مَنْ دَلَّ عَلَى خَيْرٍ فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ فَاعِلِهِ]. فما أجمل أن يَهدي المسلم غيره، سواءً في ذلك دعوة غير المسلم للإسلام أو دعوة المسلم الضال للعودة إلى الطريق المستقيم، فما بالنا بأقرب الناس إلينا وأحبهم لنا، لا شك يكون في دعوتهم للعودة إلى درب الهدى ثوابٌ مضاعفٌ؛ ذلك أنها تجمع إلى جانب ثواب الدعوة ثواب صلة الرحم، فدعوتهم إلى هذا الخير هو أشد ما يحتاجون إليه، ولو كابروا، ولو قاوموا، ولو مانعوا بدايةً وتأخروا في الاستجابة، لكن أنفسهم اللوامة ستجعلهم يتغلبون على أنفسهم الأمارة بالسوء، وكم تكون سعادتهم وسعادة كل من يحبهم عندما يعدَّلون مسيرتهم ويضعون أقدامهم على الطريق الصحيح، حينها يشعرون بحلاوة الإيمان و(نعمة الهداية) وتصبح أنفسهم مطمئنةً راضيةً مرضية.

والدعوة إلى الهُدى تكون بالقول كما تكون بالفعل؛ يقول الله عزَّ وجلَّ: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾، ويقول تعالى: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾. ولدعوة الأهل للهداية وطريق الرشاد أهميةٌ خاصةٌ؛ يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾، ويقول عزَّ وجلَّ لنبيه محمد عليه الصلاة والسلام: ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا﴾، ويقول سبحانه: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ﴾، فالواجب -كما يقول أهل العلم- أن يُعنى المسلم بأهله ووالديه وأولاده وإخوانه وأقربائه، يُعلمهم ويُرشدهم ويدعوهم إلى الله، ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر؛ يقول تعالى: ﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾.

 

أحبتي .. ما أعظم ثواب دعوة الناس وهدايتهم، وما أجمل أن نقوم بذلك مع أقرب الناس منا، أهلنا وأرحامنا، وما أروع أن تكون علاقة الإخوة في الدين مقدمةً على علاقة الإخوة بالنسب. لنتعاهد أحبتي على أن نقوم بواجب الدعوة والنصح والتوجيه والإرشاد إلى طريق الهُدى، ولا نسوِّف ولا نتكاسل أو نتوانى حتى تعم (نعمة الهداية) جميع المسلمين، لا تمنعنا عن ذلك اعتباراتٌ زائفةٌ يزينها لنا الشيطان؛ كالخوف من الإحراج، أو الخشية من رد الفعل، أو لاعتباراتٍ أخرى كفارق السن أو الخوف من وصف الناس للداعي بالتشدد أو التدخل في شئون الغير، وغير ذلك من اعتباراتٍ تتهاوى كلها جميعاً بتوفيق الله طالما كان هدفنا الإصلاح؛ يقول تعالى: ﴿إِن يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا﴾، والهداية من الله سبحانه وتعالى، أما نحن فعلينا فقط واجب الدعوة؛ يقول سبحانه: ﴿إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ﴾.

على أن يكون الداعي منا -صغيراً أو كبيراً- مثالاً وقدوةً، يبدأ بنفسه، ويلتزم هو أولاً بما يدعو إليه؛ ويكون مخلصاً في طاعة الله؛ يقول الشاعر:

تعصي الإلَهَ وأنتَ تُظهِرُ حبَّه

هذا لعَمْرُكَ في المَقالِ بديعُ

لو كَانَ حُبُكَ صَادِقاً لأطَعْتَهُ

إنّ المحبَّ لمن يُحبُّ مُطيعُ

اللهم اهدنا، واهدِ بنا، واجعلنا سبباً لمن اهتدى.

https://cutt.ly/yf4PXvU