الجمعة، 26 أكتوبر 2018

من آفات اللسان


الجمعة 26 أكتوبر 2018م

خاطرة الجمعة /١٥٨
(من آفات اللسان)

من المرات القليلة التي أشاهد فيها التلفاز، شد انتباهي حديث خبيرٍ استراتيجيٍ ومحللٍ سياسيٍ انبرى بحماسٍ لا نظير له لإثبات صحة وجهة نظره حول واحدةٍ من أهم القضايا التي تشغل الناس حالياً وتكاد تكون محور كل أحاديثهم وحواراتهم. لا يعنيني موضوع المناقشة، ولا يعنيني مدى صحة وجهة نظر هذا الخبير، قدر ما يعنيني نمط التفكير وأسلوب الحوار وطريقة تناول الموضوع. ساءني كثيراً المستوى الذي انحدر إليه، والمستنقع الذي سقط فيه كثيرٌ ممن يعتبرون أنفسهم قادة الفكر وصفوة المثقفين في مجتمعاتنا، وشجعهم عليه، وعلى التنافس فيه، إعلامٌ يقوم معظمه على الإثارة وكسب المشاهدين بأي ثمنٍ، ولو على حساب القيم الفاضلة.
عن مستنقع الغيبة أتحدث، وهي (من آفات اللسان) التي كادت، مع الألم والأسف والأسى، أن تكون من الأمور العادية والمقبولة من مقدمي البرامج وضيوفهم وجمهور المشاهدين؛ فتسمع وتشاهد في البرامج الحوارية الكثير من التطاول على أشخاصٍ غائبين، وصار هذا التطاول مألوفاً ومقبولاً، وأصبح كل وصفٍ لغائبٍ مستباحاً، بغض النظر عن مدى صدق هذا الوصف أو عدم صدقه. ومن الخسة ألا تُعطى للمستغاب فرصةٌ للدفاع عن نفسه، وأشد من ذلك وطأةً عندما تكون الغيبة لشخصٍ قد مات وأصبح في ذمة الله؛ فتجتمع الغيبة إلى ذكر الأموات بغير الخير، بكل ما في ذلك من دناءةٍ وانحطاطٍ أخلاقيٍ. وهكذا كانت عنترية سيادة الخبير وبطولته اللفظية منحصرةً في وصف ذلك الميت بكل صفةٍ سيئةٍ، لم يترك خبيرنا مفردةً واحدةً من مفردات الإساءة إلا واستخدمها! ثم يتصل أحد المشاهدين ليقول لضيف البرنامج أنه يرفع له قبعته؛ إن كان يرفعها له لموافقته على رأيه وتحليله فهذا حقه، أما إن كان يرفعها له تجاوباً معه على ما قدمه من غيبةٍ فاضحةٍ في حق الميت فقد صار، دون أن يدري، شريكاً في جريمة القذف، وفي إثم الغيبة.

أحبتي في الله .. رغم ضعف ما نُسب للرسول صلى الله عليه وسلم كحديث: [اذْكُرُوا مَحَاسِنَ مَوْتَاكُمْ، وَكُفُّوا عَنْ مَسَاوِيهِمْ] إلا أن هذا القول يبقى كحكمةٍ، صحيح المعنى. فهل من المروءة ذكر ميتٍ مسلمٍ، أصبح في ذمة الله سبحانه وتعالى، بما يسيء إليه؟ إذا كان ذكر صفةٍ صحيحةٍ موجودةٍ في شخصٍ يكره ذكرها أو تسيئ إليه وهو حيٌ منهياً عنه، ويُعد غيبةً، فهل وصل بنا الحال إلى إطلاق الأوصاف والصفات السيئة، بالحق وبالباطل، بغير تحفظٍ، على الأموات؟
لقد كان من نُبل العرب وكمال أخلاقهم التي يحرصون عليها، حتى في أيام جاهليتهم، أنه عند المبارزة بالسيوف إذا وقع سيف عدوهم على الأرض لم يسارعوا إلى الإجهاز على العدو بل ينتظرون حتى يلتقط سيفه فيعودون لمبارزته!
فهل ضاعت منا الأخلاق والقيم وفقدنا المروءة حتى وصلنا إلى ما وصلنا إليه؟ العجيب أننا بغيبة الأموات لم نتخلَ فقط عن قيم الإسلام، بل الأدهى أننا تخلينا حتى عن قيم الجاهلية!

يقول المولى عز وجل عن الغيبة: ﴿وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا ۚ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ﴾. ويقول عز من قائل: ﴿وَلا تَلمِزوا أَنفُسَكُم وَلا تَنابَزوا بِالأَلقابِ بِئسَ الِاسمُ الفُسوقُ بَعدَ الإيمانِ﴾. ويقول تعالى: ﴿وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ . هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ﴾، ويقول في موضعٍ آخر: ﴿وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ﴾. ويشير سبحانه إلى الغيبة في قوله: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا﴾.
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: [أَتَدْرُونَ مَا الْغِيبَةُ؟] قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: [ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ]، قِيلَ: أَفَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ؟ قَالَ: [إِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدْ اغْتَبْتَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَقَدْ بَهَتَّهُ].
يقول العلماء أن الغيبة محرمةٌ سواءً أكانت في بدن أخيك؛ شكله، طوله، لونه، أو في دينه، أو في دنياه؛ بيته، دخله، وظيفته، أو في نفسه، أو خُلقه، أو ماله، أو ولده، أو زوجته، أو ثوبه، أو مشيته، أو حركته، أو عبوسه، أو طلاقته. كل شيءٍ يكره الإنسان أن يُتداول عنه يدخل ضمن الغيبة وهي (من آفات اللسان).
لم تقل السيدة عائشة رضي الله عنها شيئاً حين ذكرت السيدة صفية رضي الله عنها فأشارت هكذا، أي قصيرة، قال لها عليه الصلاة والسلام: [لَقَدْ قُلْتِ كَلِمَةً لَوْ مُزِجَتْ بِمَاءِ الْبَحْرِ لَمَزَجَتْهُ].
الغيبة هي غيبةٌ، سواءً ذكرتها بلسانك، أو كتبتها بقلمك، أو رمزت إليها بإشارةٍ، أو أشرت بعينيك، أو يدك، أو رأسك، أو نحو ذلك تلميحاً أو تصريحاً، كل هذا من الغيبة.
حكم الغيبة أنها حرامٌ بالكتاب والسنة وإجماع علماء الأمة، ولو انتشرت بين الناس؛ انتشارها لا يلغي حرمتها. 
لم يكن إعلامنا، ولا مثقفينا، بهذا القدر من التفلت، وإنما بدأ الأمر صغيراً ثم كبر وازداد حتى قويَ وسيطر؛ وأصبحت المنافسة بين القنوات الفضائية وبين البرامج وبين المذيعين على جذب المشاهدين تتم بأساليب لا يحكمها ميثاق شرفٍ أخلاقي، وصارت تتجاوز كثيراً من الخطوط الحمراء؛ خاصةً في مجال القيم والأخلاق؛ فترى الكثير من مقدمي البرامج وهم يستحثون ضيوف برامجهم للإمعان في الغيبة، ويتسابقون في ذلك جرياً وراء نسبة مشاهدةٍ أعلى ومكاسب ماديةٍ أكثر نتيجةً لتدفق الإعلانات عليهم!
الأمر كله ككرة الثلج؛ ما إن بدأت تتدحرج حتى أصبحت اليوم جبلَ جليدٍ شامخاً يزداد، للأسف، رسوخاً وتجذراً. ككل صفةٍ سيئةٍ: تبدأ متواريةً باستحياءٍ ثم تكتسب قوة دفعٍ بالتدريج حتى يألفها صاحبها ويعتاد عليها الناس، ثم نصل إلى مرحلة التهاون؛ يقول الله سبحانه وتعالى في محكم التنزيل: ﴿وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ﴾.
قيل إن أصعب الحرام أوله، ثم يَسهل، ثم يُستساغ، ثم يُؤْلَف، ثم يحلو، ثم يُطبع على القلب، ثم يَبحث القلب عن حرامٍ آخر! لذا قال بعض الصالحين: "إذا دعتك نفسك إلى معصيةٍ فحاورها حواراً لطيفاً بهذه الآية: ﴿قُلْ أَذَٰلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ﴾".
ما أحوجنا للتأمل في ذلك في زمنٍ كثرت فيه الجرأة على المحرمات، وكثرت الغيبة والنميمة، وازداد الافتراء على الناس وبهتانهم والخوض في أعراضهم وتفتيش ضمائرهم والبحث عما في قلوبهم أحياءً وأمواتاً. وكل هذا من أعمال القلوب و(من آفات اللسان)؛ ورد في الحديث الشريف أن معاذاً سأل النبي عليه الصلاة والسلام: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ؟ فَقَالَ: [ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ، وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ، أَوْ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِم؟].
وقال عليه الصلاة والسلام: [لَا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ، وَلَا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ]. وقال صلى الله عليه وسلم: [إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَرْفَعُهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَاتٍ، وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ].
وقال عليه الصلاة والسلام: [لَمَّا عُرِجَ بِي مَرَرْتُ بِقَوْمٍ لَهُمْ أَظْفَارٌ مِنْ نُحَاسٍ يَخْمِشُونَ وُجُوهَهُمْ وَصُدُورَهُمْ، قُلْتُ لِجِبْرِيلَ: مَنْ هَؤُلاءِ يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَؤُلاءِ الَّذِين يَأْكُلُونَ لُحُومَ النَّاسِ وَيَقَعُونَ فِي أَعْرَاضِهِمْ].

أحبتي .. ليس هذا دفاعاً عن رجلٍ مات، إنما هو غيرةٌ على بقايا أخلاقٍ أخشى أن تموت. وصدق الشاعر حينما قال:
وإنِّما الأُمَمُ الأخلاقُ ما بَقِيَتْ
فَإنْ هُمُ ذَهَبَتْ أَخلاقُهُمْ؛ ذَهَبُوا
لنتذكر أحبتي قبل أن تجرنا شهوة الكلام أو الكتابة إلى طريق الغيبة، مقدار الخسارة التي نخسرها من حسناتنا ونهديها لمن نغتابهم من أعدائنا وأحبابنا على سواء؛ قال رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟] قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لا دِرْهَمَ لَهُ وَلا مَتَاعَ، فَقَالَ: [إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا وَأَكَلَ مَالَ هَذَا وَسَفَكَ دَمَ هَذَا وَضَرَبَ هَذَا فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ].

اللهم باعد بيننا وبين سيئاتنا كما باعدت بين المشرق والمغرب. اللهم طهر قلوبنا من النفاق والحقد والحسد والغل والكبر، وألسنتنا من الكذب والغيبة والنميمة والافتراء على الناس وبهتانهم أحياءً وأمواتاً، وطهر اللهم أعمالنا من الرياء، وأنر بصائرنا ﴿فَإِنَّها لا تَعمَى الأَبصارُ وَلكِن تَعمَى القُلوبُ الَّتي فِي الصُّدورِ﴾.
نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.
هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.

https://goo.gl/fGSsSz