الجمعة، 21 أغسطس 2020

صاحب التاكسي

 

الجمعة 21 أغسطس 2020م


خاطرة الجمعة /253

(صاحب التاكسي)

يحكي أستاذ علم الاجتماع في جامعة بغداد، ويقول:

بعد أن هبطت بنا الطائرة في رحلةِ العودة إلى بلدي استلمتُ حقيبتي وخرجتُ من بوابة المطار، وركبتُ إحدى سيارات الأجرة التي كانت متوقفةً في انتظار المسافرين، وبعد أن وضع السائق حقيبتي في شنطة السيارة، ركب خلف المقود وتحركت السيارة، وكان الزمن ما بين المطار وبين منزلي ما بين الثلث والنصف ساعة بحسب خلو الطريق وازدحامه. وفي أثناء الطريق أخذتُ أتجاذب أطراف الحديث مع (صاحب التاكسي)، فوجدتُ في حديثه ثقافةً واضحةً، وفي أسلوبِهِ رصانةً واتزانا، وكنتُ أنظر إليه وهو يتحدث فأرى في قسماتِ وجهِهِ نضارةً، وفي ابتسامتِه رضاً وسعادة، وفي نظرته للمستقبل تفاؤلاً قلَّ نظيره، وكأن هذا السائق لا يحمل من همومِ الدنيا شيئاً أبداً، بخلاف ما تعودناه من أقرانِه سائقي سياراتِ الأُجرة، من كثرةِ شكوى وتضجرٍ وتأفف، تسمع ذلك في حديثهم، وتراه بادياً في قسماتِ وجوهِهم لما يواجهونه من ضغوطات الحياة ومتاعبها.

حقيقةً لقد أدهشني هذا السائقُ وفرضَ عليَّ احترامَه، بحُسنِ مظهرِه ونضارةِ وجهِه، وأسرني بحديثِه وحلاوةِ منطقه، فعدَّلتُ في جلستي ورتَّبتُ كلامي، وغيَّرتُ نِدائي له باختيار ألفاظٍ فيها من التقدير والاحترام ما يليق بهذا الرجل. ولمَّا توسطنا العاصمةَ ونحن في الطريق، نظرتُ للرجلِ وخاطبته قائلاً له: اصدقني القول يا أخي في التعريف بنفسك، فمظهرُك ونضارةُ وجهِك وثقافتك لا تتوافق مع صفات صاحبِ سيارةِ أجرةٍ يكدح من الصباح إلى الليل!! فنظر إليَّ الرجلُ بابتسامةٍ تُخفي وراءها ألفَ حكايةٍ وحكاية، ثم صمت قليلاً، ونظر إليَّ وأشار بيده إلى عددٍ من المباني الشاهقة على يمين الطريق، وفي الجهة الأخرى أشار بيده إلى بعض القصور الفخمة والتي تمتد على مساحاتٍ شاسعة، محاطةٍ بأسوارٍ مرتفعة، ترى من فوقها أشجارَها الخضراء، فقلتُ: نعم قد رأيتها فما شأنها؟ قال: لو أردتُ أن تكون كلُّها وأضعافُها ملكاً لي لكان ذلك. فقلتُ له: ولِمَ لا؟ وهل يكره عاقلٌ أن يكون مالكاً لكلِّ ما ذكرتَ؟ فقال: يا أخي الكريم، لقد كنتُ مديراً للشئون المالية في أكبرِ الوزارات في هذا البلد، وأنت تعرف معنى ذلك في بلدنا وفي مثيلاتها من الدول، لقد كانت كلُّ المشاريعِ والمناقصات لا يمكن اعتمادُها والموافقةُ عليها إلا بعد توقيعي. فكنتُ دقيقاً في استيفاءِ الشروطِ والضوابطِ كافةً لقبول أيّةِ معاملة، ولا يمكن التنازلُ عن هذا المبدأ أيَّاً كانت المبررات، فأنا أعلم أن وِزرَ هذا الشعب سيتحمله كلُّ مسئولٍ خان أمانتَه، وأنَّ دعاء الملايين على مَن فرَّط في حقوقه سيصل عاجلاً أو آجلاً، كيف لا والله عزَّ وجلَّ يقول في الحديث القدسي عن دعوة المظلوم: {وعِزَّتي وجلالي لأنصُرنَّكِ ولو بعد حين}، ولا أُخفيك أخي لقد تعرضتُ لمضايقاتٍ عديدة، وضغوطاتٍ كثيرة، وصل بعضُها إلى حدِّ التهديدِ المبطَّن، فلم ألتفت لذلك، وثبتُّ على المبادئ والقيمِ التي آمنت بها، ولأنَّنِي إنسانٌ من لحمٍ ودمٍ ومشاعرَ وأحاسيس، أشعر بما يشعر به كلُّ إنسان، فقد مرَّت بي لحظاتُ ضعفٍ أمام عروضٍ كثيرةٍ بعشرات الملايين، وأراضٍ وعِماراتِ، وكلُّ ذلك في واحدةٍ فقط من المناقصات، فكيف لو وافقتُ على كل المعاملات؟ هل كنتَ ستراني أقوم بنقلِك من المطارِ إلى منزِلك في هذا الوقت، وعلى هذه السيارة؟

فقلتُ له –وقد ازداد إعجابي به–: وكيف تغلبتَ على لحظاتِ الضعفِ التي مرَّت بِكَ؟ قال: تعلم يا أخي أنَّ من أعظمِ الفتن التي يُبتلى بها العبدُ فتنةَ المالِ والفقرِ، وإلحاحَ الزوجةِ والأولاد، فكيف إذا اجتمعت كلُّها على إنسانٍ ضعيفٍ مثلي – وكأنه يستحضر قول الله عزَّ وجلَّ: ﴿وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾، وكأنه يقرأ في حديث النبي صلى الله عليه وسلم يوم استعاذ من فتنة الفقر في قوله: [وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الفَقْرِ]. فقلتُ له: وماذا صنعتَ أمام هذه المُغريات من الملايين؟ وأمام تلك الضُّغوطاتِ الكبيرةِ من المسئولين في الوزارة، وإلحاحِ الزوجةِ والأولاد، واحتياجاتِهم الحياتية؟ فقال لي: عندما يعمل الإنسان وفق مبادئ وقيمٍ يؤمنُ بها إيماناً كاملاً، واثقا بأنَّ الله سبحانه وتعالى هو الذي يُقسِّم الأرزاق، فسينجح وسيتغلب على كلِّ العواصف التي تواجهه، فكيف عندما يكون هذا الإنسانُ مسلماً، عالماً بأن الله يبتلي عباده بالفقر والغنى، واثقاً بتحقُّقِ موعود الله له بأن يعُوِّضَه خيراً مما تركه، كما في الحديث [إِنَّكَ لَنْ تَدَعَ شَيْئًا للهِ إلاَّ أَبْدَلَكَ اللهُ بِهِ مَا هُوَ خَيْرٌ لَكَ مِنْهُ]. ثم استرسل (صاحب التاكسي) في حديثه قائلاً: وكنتُ كلما شعرتُ بالضعف أمام إغراءات المال، وكثرةِ متطلبات الأسرةِ التجأتُ إلى الله بأن يثبتني، فإذا عُدتُ لبيتي ونظرتُ في وجوهِ أبنائِي وبناتِي زاد ذلك في ثباتي، فقد كنتُ أخاطب نفسي بأنَّ أولادي هم أول من سيحاسبني ويتعلق في رقبتي في الآخرة لو أطعمتهم من كسبٍ حرام، وبأنَّ هؤلاء الصغار المساكين سأكون أنا من دمرتُ حياتَهم في هذه الدنيا، وأضعفتُ قوتَهم، وفرَّقتُ شملَهم، وزرعتُ بينهم العداوةَ والبغضاء فيما لو أطعمتهم سُحتاً وحراماً. ولا أُخفيك سراً أخي بأن رؤيتي لأطفالي وخوفي عليهم من آثار اللقمةِ الحرامِ كانت من أكبرِ المثبِّتاتِ لي بعد اللهِ عزَّ وجلَّ.

قال الدكتور: وقبل أن نصل إلى منزلي ختم الرجل –الصادق في إيمانه والكبير في رجولته وإيثاره– حديثه قائلاً: بعد سنواتٍ أمضيتُها في عملي كنتُ خلالها في صراعٍ كبيرٍ مع الجميع؛ فالبعضُ ينظر إليَّ باحتقار، والبعض الآخر يتحدث عنِّي بسُخريةٍ وازدراء، وطائفةٌ أخرى يرمونني بالجنون -بزعمهم أن من يرفض هذه الملايين معتوه– وكنتُ خلال تلك الفترة في صبرٍ عظيمٍ ومجاهدةٍ مستمرةٍ مع النفس، كلما ضعفتُ التجأتُ لربِي، ثم جمعتُ أولادي أنظرُ إلِيهم وأضُمُّهم لقلبي، واحتضنهم إلى صدري، وأنا أردد قوله تعالى: ﴿وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ . فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ﴾، فأعود بعدها أقوى وأقوى، أمارس عملي ثابتاً على مبدئي. وفي نهاية المطاف قدمتُ استقالتي من عملي، وخرجتُ خروجاً لا رجعةَ بعده، واشتريتُ بحقوقي هذا التاكسي، وانطلقتُ أجمعُ لقمةَ أولادي من عرَقِ جبينِي غيرَ آسفٍ على منصبٍ تركتُه، ولا آبهٍ براتبٍ كنتُ أتقاضاه، تركتُ ذلك كلَّه لأنجو بدِيني ولأكسبَ مستقبل أولادي، وأُحافظَ على صحتِي،

وأنا واثقٌ بأنَّ الله عزّ وجلَّ سيعوضَنِي خيراً مما تركتُه، وسيحفظَنِي بحفظه، وكنتُ أردد دائماً حديثَ نبيي وحبيبي صلى الله عليه وسلم: [احفَظِ اللَّهَ يحفَظكَ، احفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تجاهَكَ]، وقد حفظني ربِّي في نفسي وولدي، فأنت أخي قد رأيتَ ما أنعم اللهُ به عليَّ من الصحةِ والقوةِ ونضارةِ الوجه كما سمعتُهُ منكَ.

قلتُ: وهذا يذكِّرُنا بما قيل: "إن من عجائب حكمة الله، أنه جعل مع الفضيلة ثوابَها الصحةَ والنشاط، وجعل مع الرذيلةِ عقابَها الانحطاطَ والمرض".

أضاف (صاحب التاكسي): وكما حفظ اللهُ لي صِحتي فقد حفظني كذلك في أولادي؛ فأولادي – ولله الحمد والمنَّة – قد تخرجوا من الجامعات بتفوقٍ، وهم يشغلون مراكزَ عليا، وجُلُّهم يحفظ القرآن أو على وشكِ حفظِهِ، وبيننا من المحبةِ والأُلفةِ والإِيثارِ والترابُطِ ما أعجزُ أن أصِفَهُ لك. وبلغني بعد سنواتٍ عن بعض زملائي في العمل ممَّن هم أقلُّ منِّي درجةً في السلم الوظيفي -وقد أصبحوا من أصحابِ الأرصدةِ الكبيرة والعِمارات الشاهقة والقصور الفخمة- سمعتُ عنهم أخباراً جعلتني أضاعف حمدي وشكري لمولاي عزَّ وجلَّ الذي هداني وثبَّتنِي أمام فتنة المال، فقد انتهى المطاف ببعض أولئك الزملاء إلى إصابتهم بأمراضٍ مزمنة، فأحدُهم يُعالَج في الخارج من المرض الخبيث، والثاني من تليُفٍ في الكبِد، وآخر اختلف أبناؤه وتقاتلوا فيما بينهم، وآخر أدمن بعضُ أبنائه المخدرات. وفي القريب العاجل بإذن الله سوف أُودِّع هذه الحبيبة –سيارتي التاكسي– فقد ألحَّ أولادي عليَّ كثيراً بالترجُّلِ من على صهوتها، بعد أن تحسَّنت أحوالُهم، وارتفع دخلُهُم، وأصبحوا في رَغَدٍ من العيش، فقد فهمتُ أنَّهُم يريدون إِراحتِي ليبرُّوا بي، ويقوموا على خدمتي، وأنا أرغب في أن أُتيح لهم الفرصةَ ليجِدوا بِرَّ أولادِهم.

قال الدكتور: اقتربنا من المنزل وأنا أسبَحُ في أمواجٍ عاتيةٍ من الأفكارِ المتداخلةِ التي تواردت بشكلٍ سريعٍ في مخيلتي، وأنا أحاول خلال هذه اللحظات أن أتماسك، ودموعي قد حبستها في مآقيها، وبعد وصولنا أوقف الرَّجلُ سيارته، ونزل واتجه يريد حملَ حقيبتِي، فأسرعتُ الخطى وسبقتُهُ إليها

وحملتها وكُلِّي حياءٌ وخجلٌ من نفسي عندما سمحتُ له بحملها عند المطار، ثم مددتُ إليه يدي وأعطيتُهُ أُجرتَه، فأخذها ووضعها في جيبه ولم يتأكد من عدِّها، وركب سيارتَهُ وألقى عليَّ السلامَ مودِعاً، فلم أستطع أن أرُدَّ عليه وداعَهُ خشيةَ انكشافِ أمري وتفجُّر دموعي وارتفاع صوت بكائي. لقد وقفتُ ثابتاً في مكاني خارج منزلي أنظرُ باحترامٍ وإجلالٍ إلى (صاحبِ التاكسي)، أنظر إلى أعظمِ رجلٍ قابلتُه في حياتي، وخجلتُ من دخولِ منزلي قبل اختفائه.

لقد تعلمتُ -وأنا الأستاذ الجامعي- من هذه الشخصية ما لم أتعلمُه طيلةَ حياتي، وكنتُ أظن أننا –أساتذة الجامعة– نملك التأثيرَ بما لدينا من علمٍ وثقافة، لكنَّ الحقيقةَ أنَّ من يملك التأثير والتغيير في الآخرين هم الصادقون المخلصون المتوكلون على ربِّهم، الواثقون بعونِه وحفظه وتأييده، أولئك الذين يعملون بما تعلَّمُوه، الذين يثبتون على القيم والمبادئ التي آمنوا بها، بعيداً عن بريقِ المناصب وعُلوِّ الجاه، وتضخُّمِ الرصيد.

 

أحبتي في الله .. يقول أهل العلم إن المال مال الله، وجميع المسلمين لهم حقٌّ فيه، ويعتبرونه مِلْكًا لهم، وأنَّ مَن اؤْتُمِنَ على هذا المال، فأخَذَ منه شيئاً، فلا شكَّ أنَّه مُعَرِّضٌ نفسَه لسَخَطِ الله؛ قال النبي عليه الصلاة والسلام: [إنَّ رِجَالًا يَتَخَوَّضُونَ في مَالِ اللَّهِ بغيرِ حَقٍّ، فَلَهُمُ النَّارُ يَومَ القِيَامَةِ]، وقال رسول لله صلَّى الله عليه وسلَّم: [إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، مَنْ أَصَابَهُ بِحَقِّهِ بُورِكَ لَهُ فِيهِ، وَرُبَّ مُتَخَوِّضٍ فِيمَا شَاءَتْ نَفْسُهُ مِنْ مَالِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ لَيْسَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا النَّارُ].

إنها حرمة المال العام التي تجلت بوضوحٍ حين استعمَلَ النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً على الصَّدَقة، فلمَّا قَدِم، قال: هذا لكم وهذا أُهْدِي إليّ، قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: [فهلاَّ جَلَس في بيت أبيه أو بيت أُمِّه، فينظر يُهْدَى له أم لا؟ والذي نفسي بيده، لا يأخذ أحدٌ منه شيئًا إلاَّ جاء به يومَ القيامة يَحمله على رَقَبته؛ إن كان بعيرًا له رُغَاء، أو بقرة لها خُوَار، أو شاه تَيْعَر]. يقول الراوي: ثم رفَعَ يدَه؛ حتى رأْينا عُفْرَة إبطَيْه؛ وقال: [اللهمَّ هل بلَّغْت] قالها ثلاثاً.

وفي بيان ما يجبُ على ولاة أمور المسلمين في الأموال العامة قال الفقهاء: "وليس لولاة الأموال أنْ يَقْسموها بحسب أهوائهم، كما يَقسم المالك مِلْكَه، فإنَّما هم أُمَناء ونوَّاب ووُكلاء، ليسوا مُلاَّكًا؛ كما قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: [إِنَّمَا أَنَا الْقَاسِمُ؛ أَضَعُ حَيْثُ أُمِرْتُ] أَيْ: لَا أُعْطِي أَحَدًا وَلَا أَمْنَعُ أَحَدًا إِلَّا بِأَمْرِ اللَّهِ.

 

ولا تقتصر المحافظة على المال العام على ما فعل (صاحب التاكسي) فقط، بل إن هناك صُوَراً كثيرةً في التَعَدِّي على المال العام، نبه إليها أحد العارفين منها: التهرُّب من سداد القروض من المصارف. سرقة الكهرباء واستخدامها لأغراض شخصية. توقيف عدَّاد الكهرباء أو الماء أو الغاز بطرق احتيالية. استعمال الأدوات والأجهزة والممتلكات الخاصة بالعمل كالسيارة والحاسوب والهاتف والأوراق والأقلام وغيرها في أغراضٍ شخصية. تعمد عدم إتقان العمل، وإضاعة الوقت، والتربُّح من الوظيفة. السرقة، والغِش، وخيانة الأمانة، والتدليس، والرِّشوة، والاختلاس. المحاباة والمجاملة في ترسِيَة العَطَاءات والمناقصات. الحصول على عمولةٍ من المشتري أو من المورِّد. التهرب من دفع الضرائب. التحايل لعدم دفع الجمارك. وغير ذلك من أمثلةٍ، وإن يبدو بعضها ضئيلاً أو صغيراً أو غير ذي بال، أو يبدو أن بعضها يمكن بشكلٍ ما تبريره وتسويغ حدوثه، إلا أنها كلها اعتداءٌ على المال العام، ولا يقل عنها أبداً الاعتداء على المال الخاص بالغير.

في جميع الأحوال علينا إبراء ذمتنا من استخدام مالٍ لا نملكه، أو التصرف فيه بغير علمٍ أو إذنٍ من أصحابه.

 

أحبتي .. تأثرت كثيراً بهذه القصة، ودعوت من كل قلبي وبإخلاص، أن يُكثر الله من أمثال (صاحب التاكسي) هذا، وسألت نفسي ماذا لو أن كل مسئولٍ -خاصةً من له سلطة اتخاذ القرار- خاف ربه وراعى ضميره وامتنع عن أكل المال الحرام؟ ماذا لو أن كل موظفٍ أُوكلتْ له مهمة تخليص مصالح الناس كان شريفاً نزيهاً طاهر اليد؟ ألم نكن لنصبح من أسعد الناس؟ وتصبح بلادنا من أرقى البلاد؟ إنها والله لأمانةٌ، وسوف يُسأل كلٌ منا عنها؛ يقول الله عزَّ وجلَّ: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا﴾، وقال النبي صلَّى الله عليه وسلَّم: [أدِّ الأمانةَ إلى مَنْ ائْتَمَنكَ، ولا تَخُنْ مَنْ خَانَك]. وقال عليه الصلاة والسلام: [لا تَزُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَدَمَا عَبْدٍ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعٍ: عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ جَسَدِهِ فِيمَا أَبْلاهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ مَاذَا عَمِلَ فِيهِ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ أَخَذَهُ وَفِيمَا أَنْفَقَهُ]؛ فليُعِّد كلٌ منا إجابته عن هذه الأسئلة، خاصةً السؤال عن المال؛ فالسؤال عنه لا يكون مرةً واحدةً كغيره من الأشياء التي سنُسأل عنها، وإنما يكون مرتين: من أين اكتسبه؟ وفيما أنفقه؟

اللهم باعد بيننا وبين الحرام، وارزقنا رزقاً واسعاً حلالاً طيباً، وبارك لنا فيه. اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، واغننا بفضلك عمن سواك. اللهم إن كان رزقنا في السماء فأنزله، وإن كان رزقنا في الأرض فأخرجه، وإن كان بعيداً فقرّبه، وإن كان قريباً فيّسره.

 

https://tinyurl.com/y2yv6gh7