الجمعة، 8 أبريل 2022

مفتاح العِلم

 

خاطرة الجمعة /338


الجمعة 8 إبريل 2022م

(مفتاح العِلم)

 

أراد رجلٌ فقيرٌ أن يُسافر بواسطة الباخرة في رحلةٍ تستغرق عشرة أيام، ذهب ليشتري التذكرة قبل موعد الرحلة بيومٍ، وكان في حُسبانه أن سعرها 500$‌‌‌‌‌‌‌، وقف في طابورٍ طويلٍ وتحمل الزحام، وبعد طول انتظارٍ وصل دوره، فإذا بسعر التذكرة 1500$، فوجئ بالسعر لأن إمكانياته مُتواضعةٌ، لكنه لم يجد مفراً من الدفع؛ فاشترى التذكرة وذهب ليستعد للرحلة في اليوم التالي. فكر في نفسه وقال: "ما دام سعر التذكرة مرتفعاً بهذا الشكل فلا شك أن قضاء الوقت داخل الباخرة سيكون مُكلفاً أيضاً، وبالتأكيد ستكون أسعار المطعم مُرتفعةً ولن أستطيع أن أشتري منه، والحل أن أستعد بطعامٍ من عندي"؛ فذهب واشترى خُبزاً وجُبناً ومُربى وحلاوةً طحينيةً وأشياء لا تتأثر بالزمان والمكان حتى تكون طعامه، وتكفيه فترة السفر لمدة عشرة أيامٍ على ظهر الباخرة.

في اليوم التالي ركب الباخرة وانطلقت على بركة الله. كان ينظر إلى الناس الذين يأكلون في مطعم الباخرة ويطلبون ما لذّ وطاب من الطعام ويستمتعون بالجلوس والأكل، ويتحسر في نفسه على عدم تمكنه من أن يفعل مثلهم، وأن إمكانياته لا تُتيح له أن يستمتع كما يستمتعون، وأخذ يغبطهم على ما عندهم من النِعم والخير، بينما هو مسكينٌ ما عنده مثلها. وبقي طوال العشرة أيام على ظهر السفينة يأكل الأكل البسيط الذي أتى به، ويتحسر على حاله مقارنةً بما يرى من حال الآخرين. وفي آخر يومٍ من الرحلة انتبه إلى أمرٍ مُهمٍ وهو أنه إذا وصل إلى بلده وسأله أهله وأصدقاؤه عن رحلته وكيف كانت، وسألوه عن مطعم الباخرة وكيف الأكل فيه، وكيف كانت خدماتهم، وغيرها من الأسئلة، ماذا سيقول لهم؟ هل يقول أنه لم يأكل فيه ولا مرة؟ سيتهمونه بالبُخل؛ إذاً لا بأس من أن يأكل آخر وجبةٍ في مطعم الباخرة، ويطلب أرخص نوعٍ من الطعام، وبالطبع الناس لن يُدققوا معه ويسألوه عن ماذا طلب. ذهب إلى المطعم وجلس على الطاولة ونادى النادل وطلب منه شطيرة شاورما، قال له النادل: أي شيءٍ آخر؟ قال: لا، قال النادل: مُقبلات، عصائر، عندنا أشياء حُلوة، وهو يرد -مع أنه يتحسر داخل نفسه-: لا، لا أشتهي، النادل: اليوم بمناسبة أنه آخر يومٍ في الرحلة؛ القائمة عندنا فيها أكلاتٌ جديدةٌ لم نُقدمها طوال الرحلة. حاول النادل إقناع الرجل بطلب شيءٍ منها، وهو مُصممٌ على رأيه، خاف أن يطلب شيئاً لأن إمكانياته لا تُساعده، قال له النادل أخيراً: على راحتك، وأحضر له شطيرة الشاورما. بعد فترةٍ قصيرةٍ أعلنوا نهاية الرحلة والوصول إلى الميناء، نادى الرجل على النادل وقال له: الحساب، قال له النادل مُتعجباً: أي حساب؟! قال له: حساب شطيرة الشاورما، قال له النادل: يا أخي؛ الأكل في المطعم مدفوعةٌ قيمته مع التذكرة، والذين يأكلون في المطعم دفعوا قيمة أغلى تذكرةٍ في الباخرة وهي 1500 دولار، ألم تكن تدري؟!

‌‌‌‌‌‌‌‌‌‏ ‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‏ ‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‏ ‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‏

‌‌‌‌‌‌‌‌‌‏ أحبتي في الله .. لو كان الرجل سأل لكان علِم، وعدم سؤاله فوّت عليه خيراً كثيراً وضيّع عليه حقاً من حقوقه، وفوق ذلك كلفه قيمة ما اشتراه من طعامٍ أخذه معه إلى الباخرة؛ فضلاً عن الأثر النفسي الذي ترتب على تقصيره في السؤال الذي هو (مفتاح العِلم).

 

وعن علاقة السؤال بالعِلم يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾". وورد في الأثر: "لا ينبغي للعالِمِ أن يسكُتَ عن عِلمِهِ، ولا ينبغي للجاهِلِ أن يسكتَ عن جهلِهِ"، كما ورد كذلك: "العلمُ خزائنُ ومِفتاحُهُ السُّؤالُ؛ فاسأَلوا يرحَمُكُمُ اللَّهُ؛ فإنَّهُ يؤجر فيه أربعةٌ: السَّائلُ والمعلِّمُ والمستمعُ والمُحبُّ لهم".

 

يقول العلماء إنّ للسؤال مكانةً معتبرةً في الإسلام؛ فقد ورد لفظ "سأل" ومشتقاته في القرآن الكريم عشرات المرات؛ جاء على ألسنة الأنبياء والمؤمنين، وعلى ألسنة الكُفار والمُشركين، تأكيداً على القيمة المعرفية التي لا تتحصل إلا بالسؤال، خاصةً للتعلم والتبيين.

ومن الأسئلة التي وردت في القرآن الكريم -على سبيل المثال لا الحصر- السؤال عن السؤال نفسه: ﴿عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ﴾ والمقصود منه توجيه السؤال وفحصه والإرشاد إلى تصحيحه. وحث الأنبياء على السؤال: ﴿سَلْهُمْ أَيُّهُم بِذَلِكَ زَعِيمٌ﴾. وحث المؤمنين الباحثين عن المعرفة: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾. والإخبار عن موعد السؤال يوم القيامة: ﴿تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَفْتَرُونَ﴾. والاستدلال على وجود الله تعالى: ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾.

وفي الإسلام لا يجوز رد السائل؛ يقول تعالى: ﴿وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ﴾، والمفسرون يرون أنّ المقصود بالسائل في هذه الآية كل سائلٍ سواءً كان سائل مالٍ أو سائل علمٍ ومعرفة.

ويقول أهل العلم إنّ السؤال في القرآن الكريم اختلف تبعاً لتاريخ ومكان النزول؛ فقد اشتملت أسئلة القرآن في بداية الدعوة -في الآيات المكية- على: الغيب والعقيدة والتاريخ، وكان السائلون في الغالب من غير المؤمنين، فيما تركزت الأسئلة بعد الهجرة -في الآيات المدنية- على: التشريع والفقه وأحكام الدين، وكان السائلون من المؤمنين.

 

ويتبين في السُنة الشريفة ربط العِلم بالسؤال في الكثير من الأحاديث النبوية؛ منها الحديث المشهور حين تعجب الصحابة رضي الله عنهم من رجلٍ يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام وعن الإيمان وعن الإحسان وعن الساعة وأماراتها ثم يُصدقه، فأخبرهم عليه الصلاة والسلام [إنَّه جِبْرِيلُ أتاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ]. ومنها الحديث الذي يبدأه النبي عليه الصلاة والسلام بسؤال أصحابه: [أَتَدْرُونَ ما المُفْلِسُ؟]. ومنها كذلك الأسئلة التي وجهها النبي صلى الله عليه وسلم إلى الشاب الذي طلب منه الإذن له بالزنا؛ "أترضاه لأمك؟"، "أترضاه لأختك؟"، ... إلى آخر الحديث. وغير ذلك من أحاديث لعل أوضحها في بيان علاقة العِلم بالسؤال قوله صلى الله عليه وسلم: [...أَلا سَأَلُوا إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا؛ فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ]، أي: لا شِفاءَ لداءِ الجهلِ إلَّا بالسؤال من أجل العِلم والتعلُّمُ؛ وهذا تأكيدٌ واضحٌ على أن السؤال هو (مفتاح العِلم).

 

وفي الإسلام لا حرج من السؤال بصفةٍ عامةٍ، أما ما جاء من النهي عنه في بعض النصوص كقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾، وفي الحديث الشريف: [إنَّ اللَّهَ كَرِهَ لَكُمْ ثَلَاثًا: قيلَ وَقالَ، وإضَاعَةَ المَالِ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ]، فقد حمل أهل العلم ذلك على الأسئلة التي لا تُفيد السائل ولا تنفعه في معاشه أو معاده، أو السؤال عن شيءٍ لم يُحرّم  فينزل تحريمٌ بسببه؛ كما في الحديث: [أعظمُ المُسلمينَ في المُسلمينَ جُرمًا من سألَ عمّا لم يُحرَّم فحُرِّمَ على الناسِ من أجلِ مسألتِهِ]. ومن ذلك أنه عليه الصلاة والسلام خطبَ النَّاسَ فقالَ: [إنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ، قد فرَضَ عليكمُ الحَجَّ] فقالَ رجلٌ: في كلِّ عامٍ؟ فسَكَتَ عنهُ حتَّى أعادَهُ ثلاثًا فقالَ: [لَو قُلتُ نعَم لوَجَبَتْ، ولَو وَجَبَتْ ما قُمتُمْ بِها، ذَروني ما ترَكْتُكُم، فإنَّما هلَكَ من كانَ قبلَكُم بِكَثرةِ سؤالِهِم واختلافِهِم علَى أنبيائِهِم، فإذا أمرتُكُم بالشَّيءِ فخُذوا بهِ ما استَطعتُمْ، وإذا نَهَيتُكُم عن شيءٍ فاجتَنبوهُ]. وقد رُوي عنه صلى الله عليه وسلم قوله: [إِنَّ اللهَ فَرَضَ فَرَائِضَ، فلا تُضَيِّعُوها، وحَّدَ حُدُودًا فلا تَعْتَدُوها، وحَرَّمَ أَشْياءَ، فلا تَنْتَهِكُوها، وسَكَتَ عن أَشْياءَ رَحْمَةً لَكُمْ غيرَ نِسْيانٍ، فلا تَبْحَثُوا عَنْها].

وحال الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنّ هممهم كانت مقصورةً على تنفيذ ما يأمرهم به، فإذا وقع بهم أمرٌ سألوا عنه فأجابهم، وكرهوا السؤال عن المسألة قبل حدوثها. والتزم الصحابة بذلك؛ ما كانوا يسألون -في الغالب- إلا عما ينفعهم، وسجل القرآن الكريم لهم السؤال عن ثلاث عشرة مسألةً؛ مثل: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى﴾، ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ﴾، ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ﴾، ويظهر من ذلك كله أنّ السؤال هو (مفتاح العِلم) مباحاً لمن سأل مُستفهماً راغباً في العلم ونفي الجهل عن نفسه باحثاً عن معنىً يجب الوقوف عليه، ومكروهاً لمن سأل مُتعنتاً غير مُتفقهٍ ولا مُتعلمٍ.

 

ويُعرّف المختصون السؤال بأنه "أمرٌ يتعلق بالذهن يبحث عن جوابٍ، ويدفع للمعرفة والتفكير". ويُقال: "حُسن الجواب من حُسن السؤال". وقيل: “حُسْنُ المَسْأَلَةِ نِصفُ العِلم”، وفي قولٍ آخر هو "نصفُ الفِقه"، كما يُقال إنّ "الإنسان كائنٌ متسائل".

 

ويقرر علماء التربية وخبراء النفس أهمية السؤال في تشكيل وعي الطفل، ومن ثَمّ أهمية الاعتناء بأسئلته وأَخْذِها على محمل الجد، وعدم تسفيهها، بل وتعليمه فن السؤال؛ بحيث يكون السؤال مدخله لتحصيل الإجابة، دون الاعتماد على أسلوب التلقين الذي قد يُلغي شخصية الطفل ويجعله نسخةً مُكررةً من الآخرين. فالسؤال هو بالفعل (مفتاح العِلم) يجعل لحياة الإنسان معنىً، ولعقله فاعليةً، ولشخصيته وجوداً حقيقيّاً.

 

أحبتي .. علينا؛ صغاراً وكباراً، رجالاً ونساءً، وبغض النظر عن مستوانا الاجتماعي أو الاقتصادي أو الثقافي، علينا بالسؤال فهو (مفتاح العِلم)، نسأل لنتعلم، نسأل لنُعَلِّم، نسأل لنتأكد ونتيقن، نسأل لنعرف حدودنا، نسأل لنعرف حقوقنا وواجباتنا، نسأل حتى ندفع عن أنفسنا الجهل، وحتى لا نَظلِم أو نُظلَم، نسأل حتى لا نندم. علينا أن نُعلِّم أنفسنا وأبناءنا فن السؤال، والتزام الذوق والأدب فيه، واختيار الوقت المناسب له. وعلينا ألا ننهر السائل أياً كان، بل نترفق به ونتعامل معه بحكمةٍ وصدرٍ رحبٍ.

اللهم وسِّع صدورنا، وألهمنا الحكمة، وأنعِم علينا بالعلم وفصل الخطاب.

 

https://bit.ly/3ukk0mu