الجمعة، 29 أكتوبر 2021

سوء الظن

 

خاطرة الجمعة /315


الجمعة 29 أكتوبر 2021م

(سوء الظن)

 

في «القاهرة» اتصل صديقٌ بصديقه قائلاً له: "أنا قادمٌ مع زوجتي لنسهر عندكم"، قال الصديق: "أهلاً وسهلاً، عندي طلبٌ منك"، قال: "ما هو؟"، قال الصديق: "أريد أن تشتري لي قالب حلوى من أفخر المحلات عندكم مع كذا وكذا"، قال: "لماذا؟ أمن أجلنا؟"، قال الصديق: "لا، اليوم عيد ميلاد ابني، ولم يتسنَّ لي الخروج، وأريد أن أفاجئه بالاحتفال دون أن يشعر". قام الصديق بشراء ما يلزم، ودفع مبلغاً كبيراً من المال، وعندما وصل إلى بيت صديقه تم الاحتفال، وتمت السهرة بكل بهجةٍ وفرح، وفي نهاية السهرة قال له صديقه: "بقيت قطعةٌ كبيرةٌ من قالب الحلوى، أرجوك لا ترد لي طلباً؛ خذها لأولادك"، وأعطاه العلبة وودعه دون أن يدفع له ثمن قالب الحلوى. ظل الصديق طوال الطريق يسب صديقه، ويلعن الوقت الذي قال له فيه إنه سيأتي ليسهر عنده، حاولت زوجته -وهما في السيارة- أن تُخفف عنه بأن صديقه ربما نسي أن يدفع له وبأنه سيتذكر غداً بالتأكيد، فيرد عليها ويقول: "بل هذا استغلالٌ مقيتٌ، وقلة أدبٍ وعدم احترام". وصل إلى البيت وهو لا يزال غاضباً، ونادى أولاده ليعطيهم من قطعة الحلوى، فتح العلبة، وإذا به يجد فيها رسالة شكرٍ مع المبلغ كاملاً، وعبارة: "أعرف أنك كنتَ لن تأخذ النقود مني؛ لذلك وضعتُ المبلغ دون علمك في العلبة"! أُصيب الرجل بالصدمة والخجل، ولم يدرِ ما يفعل؛ سأل زوجته: "هل أطلب منه أن يُسامحني لسوء ظني؟"، قالت له: "الأفضل ألا تطلب؛ هو كان يظن أنك لن تأخذ منه المبلغ، فدعه على حُسن ظنه بك".

 

أما في «لندن» فكانت سيدةٌ شابةٌ تنتظر طائرتها في المطار، ولأنها كانت ستنتظر كثيراً اشترت كتاباً لتقرأ فيه، واشترت أيضاً علبة بسكويت. بدأت تقرأ كتابها أثناء انتظارها للطائرة، وكان يجلس بجانبها رجلٌ يقرأ هو الآخر في كتابٍ، عندما بدأت في قضم أول قطعة بسكويت كانت موضوعةً على الكرسي بينها وبين الرجل فوجئت بأن الرجل بدأ في قضم قطعة بسكويتٍ من نفس العلبة التي كانت تأكل منها، فكرت أن تلكمه لكمةً في وجهه لقلة ذوقه، ثم تراجعت عن فكرتها، لكنها فوجئت بأنه مع كل قضمةٍ كانت تأكلها هي من علبة البسكويت كان الرجل يأكل قضمةً أيضاً! فتعصبت، لكنها كتمت في نفسها. وعندما بقي في كيس البسكويت قطعةٌ واحدةٌ فقط نظرت إليها وسألت نفسها: "ماذا سيفعل هذا الرجل قليل الذوق الآن؟"، لدهشتها قسّم الرجل القطعة إلى نصفين، أكل النصف وترك لها النصف! قالت في نفسها: "هذا لا يُحتمل!" ومع ذلك كظمت غيظها، وأخذت كتابها، وبدأت بالصعود إلى الطائرة. عندما جلست في مقعدها بالطائرة فتحت حقيبتها لتأخذ نظارتها، ففوجئت بوجود علبة البسكويت الخاصة بها كما هي مغلفةً بالحقيبة!! صُدمت، وشعرت بالخجل الشديد، أدركت الآن فقط أن علبتها كانت في حقيبتها وأنها كانت تأكل مع الرجل من علبته هو!! أدركت متأخرةً بأن الرجل كان كريماً جداً معها وقاسمها ما كان في علبة البسكويت الخاصة به حتى آخر قطعةٍ بدون أن يتذمر أو يشتكي!! وزاد من شعورها بالعار والخجل أنها لم تجد الوقت ولا الكلمات المناسبة لتعتذر للرجل عما حدث من قلة ذوقها!

 

أحبتي في الله .. عن (سوء الظن) يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمنوا اجْتَنِبُوا كثيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ﴾، ويقول تعالى: ﴿وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا ۚ إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ﴾، ويقول تعالى: ﴿بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَىٰ أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَٰلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا﴾.

وقال الرسول عليه الصلاة والسلام: [إيَّاكُمْ والظَّنَّ، فإنَّ الظَّنَّ أكْذَبُ الحَديثِ]، ورُوِيَ أنّه لمّا نظر النبي عليه الصّلاة والسّلام إلى الكعبة قال: [مَرْحَباً بِكِ مِنْ بَيْتٍ مَا أَعْظَمَكِ وَمَا أَعْظَمَ حُرْمَتَكِ، وَاللَّهِ إِنَّ الْمُؤْمِنَ أَعْظَمُ حُرْمَةً عِنْدَ اللَّهِ مِنْكِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ مِنْكِ وَاحِدَةً، وَحَرَّمَ مِنَ الْمُؤْمِنِ ثَلَاثاً: دَمَهُ، وَمَالَهُ، وَأَنْ يُظَنَّ بِهِ ظَنَّ السَّوْءِ].

 

يقول أهل العلم عن (سوء الظن) إنّه مَظنّة جانب الشرّ وتغليبه على جانب الخير في حين أنّ الموضوع الذي وقع فيه سوء الظنّ قد يَحتمل الجانبين معاً دون تغليبٍ لأحدهما، وهو امتلاء القلب بالظّنون السّيئة بالنّاس حتى يطفح على اللسان والجوارح، كما إنه تُهمةٌ في غير محلها وتخوينٌ للأهل والأقارب والنّاس.

ويُعتبر من أسوأ ما قد يتصف به الإنسان، نهانا الله سبحانه وتعالى عنه واعتبره من الأخلاق المذمومة، كما أن رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم نهانا عنه فهو من أسوأ أمراض القلوب؛ لأن صاحبه يُجزم بما في نفسه حتى وإن لم يصل إلى درجة اليقين؛ فترى صاحب الظن السيء يغضب بشدةٍ من تصرفٍ يبدو له ظاهره أن فيه إساءةً له، فيوغر ذلك صدره تجاه الشخص الذي صدر منه هذا التصرف، لاعتقاده أن ذلك الشخص تصرف عن عمدٍ، وقد يصل الأمر إلى حد القطيعة، على الرغم من أن التصرف قد يحتمل شيئاً آخر، على خلاف الظن.

وهذا يُعلمنا أن نلتمس الأعذار للآخرين، وألا نتصيد لهم أخطاءهم وزلاتهم، فنحن لسنا معصومين من الزلل والخطأ، وغيرنا كذلك، نحن جميعاً بشرٌ نُصيب ونُخطئ، هكذا جُبلنا؛ لذا فعلينا أن نحسن الظن بالناس وألا نسيء الظن بهم، لئلا تمتلئ قلوبنا بالحقد والكراهية.

 

والتماس الأعذار هو دأب الصالحين، الذين يُحسنون الظن، ويلتمسون المعاذير. إن (سوء الظن) بالآخرين يجلب الشك والكراهية والحقد بين الناس وغيرها الكثير من الأمراض الاجتماعية السيئة التي تؤثر سلباً على الإنسان المسيء الظن بالناس، بحيث تؤدي به إلى فقدان الثقة بكل الناس من حوله إلى أن ينتهي به المطاف إلى الشعور بالوحدة؛ لأن جميع الناس ينفرون من هذه الشخصية المسيئة للآخرين المشككة في نواياهم مهما كانت طيبةً وسليمة. ناهيك عن أن (سوء الظن) بالآخرين هو سببٌ في حدوث الكثير من المشاكل والقطيعة بين الناس سواءً كان ذلك بين العائلات أو بين الأصدقاء.

 

يقول أحدهم: ما لي أرى (سوء الظن) منتشراً ومتفشياً كتفشي النار بالهشيم؟

ما لي أرى الناس يُسيئون الظن ببعضهم البعض، فإن ابتسم الأخ لأخيه ظنّ أنه ابتسم لا محبةً له ولكن طمعاً في الحصول على شيءٍ ما، وإن نصحه في أمرٍ ما ظنّ أن النصيحة هي للإساءة أو لتعكير مزاجه أو للتقليل من شأنه!

ما لي أرى (سوء الظن) قد انتشر حتى بين أقرب الأقارب، حتى داخل الأسر وبين الأزواج. كم من قصةٍ مأساويةٍ سمعنا عنها أو شاهدناها كانت نتيجة سوء ظن الناس ببعضهم؟ وكم من تفرقٍ وقطيعةٍ بين الأهل والأحباب والأصحاب كان سببه (سوء الظن)؟

 

أحبتي .. أحد رجال الاختصاص كتب نصيحةً للتخلي عن (سوء الظن) قال فيها: لنتجنب (سوء الظن) بعضنا ببعضٍ؛ فمسيء الظن لا يُعاني فقط من الغيرة والحسد والبغضاء، بل إنه يوقع نفسه في الحرام والشُبهات؛ فينظر إليه الآخرون نظرة ازدراءٍ لسوء ظنه فهو لا يراعي الآداب والأخلاق الإسلامية التي دعانا إليها ديننا الحنيف، فلنتجنب (سوء الظن) حتى نحافظ على علاقاتنا الإنسانية سليمةً معافاةً من كل شوائب الأخلاق السيئة المذمومة؛ ونحافظ على مجتمعاتنا صالحةً متماسكة؛ لذا، فقبل أن يبدأ الشيطان بالوسوسة لنا بإساءة الظن بالآخرين علينا أن نحاول التماس الأعذار لهم؛ فلعلنا بسوء ظننا بهم نظلمهم ونخسر قربهم ومحبتهم واهتمامهم بنا. فلنضع (سوء الظن) جانباً حتى ننعم بحياةٍ هنيةٍ هادئةٍ مستقرةٍ، تخلو من تكدّر النفوس الذي ينشأ من جرّاء الظن السيء.

اللهم إنّا نعوذ بك من (سوء الظنّ) ومن الحقد والغل والحسد والشحناء والبغضاء والكُرْه، ومن أن نحمل في قلوبنا سوءاً نحو غيرنا، ونسألك اللهم قلوباً رحيمةً رقيقةً نظيفةً هيّنةً ليّنةً، تخشاك وتحبّك وتتقيك، وتُحسن الظن بخلقك، وطهّر اللهم قلوبنا، وأعنّا على العفو والتماس الأعذار.

 

https://bit.ly/3vWNgPk