الجمعة، 11 يونيو 2021

أسباب الدنيا

 

خاطرة الجمعة /295


الجمعة 11 يونيو 2021م

(أسباب الدنيا)

 

بعد عَقد قرانها مُباشرةً أصابها الألم والمرض، واصفرَّ وجهُها وَذَبُلت، فذهبت إلى الطَبيبة لتطمئن فكانت المُفاجأة حين أخبرتها الطبيبة بأنَّ الرّحم يكاد يكون مشقوقاً نِصفين وأنها لن تستطيع الحمل. خرجت مِن المُستشفى وكُل ما يجول في خاطرها تُرى كيف سأقول هذا لزوجي، وهل سيترُكني!؟ أنا أُحبّه بشدَّة فماذا أفعل! أمسكت بهاتِفها وحاولت الاتصال بزوجها، وبعد أكثر مِن مُحاولةٍ أجابها، وأخبرتهُ بكُل شيءٍ، فكان ردّه صادماً بالنِّسبة لها، قال لَها: "وأنا لَن أستطيع أن أُكمل معكِ". انعقد لسانها، حتّى كلمات الغَزل التي اعتادت أن تقولها لَهُ في كُل مكالمةٍ؛ لَم تستطع البوح بِها فَصمتت، وانتظرت مِنهُ أن يُخبرها أنّه كان يَمزح، وأن يُخبرها بموعد الزفاف، لكنّها فوجئت به يرسل لها ورقة الطّلاق، لم تَتحمّل الصمود كثيراً ووقعت مغشياً عليها. عندما أفاقت وجدت نفسها في المَنزل، وأُمّها تربّت على يدها، وَتُقبّل رأسها، أخذت الفتاة تبكي بشدّة وتقول: "تَركني يا أُمي وأنا في أمسّ الحاجة إليه"، قالت الأم: "لا بأس يا حَبيبتي، كُلما جاءت الخيباتُ باكراً كلما صار ترميمها أسهل، نظَر هو إلى (أسباب الدنيا) والطّب، ولم يَنظُر إلى قوّة الرّب، ليس لَّنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْء؛ ﴿إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ﴾، عليكِ فقط أن تعودي كَما كُنتِ، واللّٰهُ يَعلم مَنْ هو الأصلحُ لك والأجدر بِحُبّك، اصبري واحتسبي، فَمَن للصبرِ غيرك"؟

مرّت الأيام والشهور، وتحسَّنت صِحتها قليلاً، وبعد عامٍ تَقدَّم لَها شابٌ ذو خُلقٍ ودين، وفي الرؤية الشرعية قالت لَهُ: "لَن أستطيع الإنجاب"، قال لَها: "ما ضيرُ لو أنَّنا توكّلنا على الله الذي يَمنح ويَمنع"! سألته: "لِمَ لا تتزوّج غيري وَتُنجب؟ كيف لعاقلٍ أن يَتزوّج مِن عاقرٍ وهو يعلم أنها لَن تُنجب"؟! رد بقوله: "تقصدين كيف لعاقلٍ أن يأخُذ بأسباب البشر ويغضُّ الطرفَ عَن المُسبِّب؟ إن كُنتِ تقصدين هذا فالذي أعطي زكريا سيُعطيني". وافقت عليه، وتمَّت الخطبة والزفاف، وبعد أكثر مِن ثلاثة أعوامٍ حَملت في الطفل الأول، شعُرت وكأنَّ الدُّنيا قد أشرقت بالربيعُ في عُمرها، لكن تأتي المُصيبة؛ لم يَستمر الطفل في رَحمها أكثر مِن ستة أشهُر ثُم توفي. مرَّ عامٌ وحَملت مرَّة أُخرى، كانت هذهِ المرَّة خائفةً كثيراً، فقرَّرت عَدم تَرك الفراش، كانت تُصلي وتنام، وتولّى زوجها خدمتها في هذهِ الفترة، فقد كان يذهب إلى العَمل ويعود ليُعدّ الطعام، ويُنظّف المَنزل. يرى في عينيها مدى اشتياقها للطفلِ، فيزداد تحمُّلاً لأجلها، وَيزداد قوّةً بصبرها، ولكِن ما شاء اللّٰه كان، وتُوفي هذا الطفل في الرّحم أيضاً. أُصيبت هذهِ المرّة بنوبةٍ مِن الحُزن، فبدأ زوجها يجلس معها ليُصبّرها، مرًّة يقرأ: ﴿وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ . فَاسْتَجَبْنَا لَهُ ...﴾، ومرةً يقرأ: ﴿وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ . فَاسْتَجَبْنَا لَهُ ...﴾، ومرًّة يقرأ: ﴿وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا  فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا﴾، ثُم يتسلَّل في الَّليل ويبكي لله عزّ وجلّ ويطلب مِنهُ أن يُراضيها.

صبر الزوجان بيقينٍ وبثقةٍ ودُعاء المُضطر، وكانت الآية الكريمة: ﴿فَإِذَا فَرَغْتِ فَانصَبِ، وَإِلَى رَبِّك فَارْغَب﴾ ملاذاً لهما، يدعوان الله كي يسوق إليهما سحائب الخيرِ، يقولان: "اللّٰهم أجرنا في مُصيبتنا، واخلف لنا خيراً مِنها".

مَرّ عامان وَحملت بالطّفل الثالث، وهذه المرّة شاء اللّٰه أن يَمحي (أسباب الدنيا) لأجل صَبرها، وَضعت طفلها، وخرجت الطبيبة مِن غُرفة العَمليات، فأراد الزوج أن يطمئنّ على صِحة زوجته وطفله، فسأل الطَبيبة فكان جوابها: "لا أعلمُ كيف حدثَ ذلك؟ وكَيف حَملت واستمر حَملها؟ وَكيف أنجبت طفلاً بصحةٍ جيدةٍ، وَلَم تُنجب طفلاً واحداً بل طفلين، لا أدري كَيف حَملت والرّحم يكاد يكون مشقوقاً"؟

وبعد أن أفاقت مِن البنج، رأت أُمها فابتسمت وقالت لَها: "ألم أقُل لَكِ أن اللّٰه أعلم مَن هو الأصلحُ لك والأجدر بِحُبّك؟ ﴿وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ﴾ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَنحنُ لَا نَعلم، وها أنتِ أُمٌ لطفلين، وزوجك الأول تزوّج ولَم يُنجب؛ حيث اتضح أنّهُ لا يُنجب"!

 

أحبتي في الله .. استجاب المولى عزَّ وجلَّ لدعاء الزوجين بإخلاصٍ، وتسليمهما بأنه سبحانه وتعالى هو مسبب الأسباب، ويقينهما التام بأن (أسباب الدنيا) -التي تظهر لنا كما لو كانت هي وحدها التي تحقق النتائج- لا تعمل إلا بأمر الله ومشيئته، وثقتهما الكاملة والمطلقة بأن الدعاء يُغَيّر القدر.

 

وعن علاقة الدعاء بالقدر، يقول العلماء إن من القضاء ردُ البلاء بالدعاء؛ فالدعاء سببٌ لرد البلاء واستجلاب الرحمة، كما أن الترس سببٌ لرد السهم، فكما أن الترس يدفع السهم فيتدافعان، فكذلك الدعاء والبلاء يتعالجان، والذي قدَّر الخير قدَّره بسبب، والذي قدَّر الشر قدَّر لدفعه سبباً، فلا تناقض بين هذه الأمور؛ يقول تعالى: ﴿يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾؛ فالأرزاق والمحن والمصائب يُثبتها الله سبحانه وتعالى في الكتاب ثم يزيلها بالدعاء والصدقة. فإن قال قائلٌ: ألستم تزعمون أن المقادير سابقةٌ قد جفّ بها القلم، فكيف يستقيم مع هذا المعنى المحو والإثبات؟ قلنا: ذلك المحو والإثبات أيضاً مما جف به القلم، فلا يمحو إلا ما سبق في علمه وقضائه محوه.

قال صلى الله عليه وسلم: [لا يردُّ القضاءَ إلَّا الدُّعاءُ]، فالقضاء خوف العبد من نزول المكروه، والدعاء يتسبب في زوال هذا الخوف، واطمئنان العبد لما سيقع أياً كان، ويُشعر الإنسان بمعاني التوكل على الله تعالى والاستسلام لقدره، والرضا بقضائه، فتهدأ نفسه وتستريح، ويُخفف الله عنه بذلك ويُرضيه؛ فالدوام على الدعاء يُطيّب ورود القضاء فكأنه رده، ورده للقدر تهوينه حتى يصير القضاء النازل كأنه ما نزل. قال صلى الله عليه وسلم: [الدُّعَاءَ يَنْفَعُ مِمَّا نَزَلَ وَمِمَّا لَمْ يَنْزِلْ؛ فَعَلَيْكُمْ بِالدُّعَاءِ عِبَادَ اللَّهِ] فالدعاء ينفع مما نزل من المصائب والمكاره، أي يسهل تحمل ما نزل من البلاء فيصبره أو يرضيه حتى أنه لا يكون متمنياً خلافه، ومما لم ينزل منها؛ بأن يصرف ذلك عنه، أو يمده قبل النزول بتأييدٍ إلهيٍ من عنده، حتى لا يعبأ به إذا نزل. والدعاء بإخلاصٍ قربٌ من الله، وذِكرٌ له سبحانه، فهو مُسبب الأسباب، ومُجيب الدعاء، ومُحقق الرجاء.

ومن العجب أن ترى كثيراً من الناس -وهُم يسعون إلى الرزق- يهتمون برضا رئيس القسم أو المدير، بأكثر مما يهتمون برضا الرزاق وهو الله! وتراهم -وقت المرض- ينفذون أوامر الطبيب بمنتهى الدقة، بأكثر مما يهتمون بتنفيذ أوامر الشافي وهو الله!

الحق أنه لا ضير من سعي الناس لكسب الرزق، ولا من تداويهم وبحثهم عن العلاج، فقد أمرنا الله بالأخذ بالأسباب؛ يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ﴾، ويقول تعالى: ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ﴾، ويقول تعالى: ﴿فَإذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ﴾، ويقول تعالى للسيدة مريم وهي في قمة ضعفها لحظة ولادتها: ﴿وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا﴾، هذه هي (أسباب الدنيا) نأخذ بها ونتوكل على الله؛ يقول تعالى: ﴿وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾، ويقول تعالى: ﴿فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ﴾، ويقول تعالى: ﴿وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾. لكن أن نأخذ فقط بالأسباب المادية المباشرة (أسباب الدنيا) فتلك هي الغفلة، وذاك هو الإعراض؛ يقول تعالى: ﴿اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ .... لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ﴾، والطريق واضحةٌ لا لبس فيها؛ إما اتباع الهُدى أو الإعراض عن ذِكر الله؛ يقول تعالى: ﴿فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى . وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا﴾، والخيار لنا.

أحبتي .. لن يُفلح في حياته الدنيا وأخراه إلا من هو قريبٌ من ربه، مستجيبٌ لأوامره، بعيدٌ نواهيه، راضٍ بقضائه وقدره، مداومٌ على ذِكره، حريصٌ على دعائه والطلب منه والتذلل له والإلحاح عليه. نحن مأمورون بأن نأخذ بالأسباب (أسباب الدنيا) ولكن مع التوكل على الله مُسبب الأسباب. علينا -مع الأخذ بالأسباب- أن نُكثر من الدعاء لله في كل وقتٍ وحين؛ فكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: [الدُّعَاءُ هُوَ العِبَادَةُ]، وبه تتغير الأقدار ويُتحصَل المراد ويُحاز الثواب، وكفانا رحمةً من الله أن ندعوه سبحانه وتعالى فيستجيب دعاءنا، ويختار ما هو الأصلح لنا في ديننا ودنيانا.

ولكل من يلهثون وراء الدنيا، مفرطين في حقوق الله أقول: أفيقوا من غفلتكم، وانتبهوا لأنفسكم، واعتبروا بما حدث لغيركم، يرحمكم الله.

اللهُّم لا تجعل الدُنيا أكبر همنا، ولا مَبلغ علمنا، ولا إلى النار مصيرنا، واجعل الجنّة هي دارنا وقرارنا، واهدنا اللهم سواء السبيل.

https://bit.ly/3iMXAFd