الجمعة، 5 مايو 2023

القاتل الصامت

 خاطرة الجمعة /394

الجمعة 5 مايو 2023م

(القاتل الصامت)

من القصص الواقعية، كتبت إحداهن تقول: تزوجتُ قبل عشر سنواتٍ من شابٍ مُدخنٍ دون علمي أنه يدخن.. ورغم ثقافته ورزانته وحُسن تعامله، ومُحافظته على الصلاة، إلا أنني ذقتُ الجحيم والمصائب من جراء تدخينه ورائحته النتنة ورائحة ملابسه، وحاولتُ أن أشجعه على ترك التدخين فكان يعدني خيراً ولكنه يُماطل ويُسوّف.. واستمر هذا الوضع حتى كرهتُ نفسي؛ فقد كان يُدخن في السيارة وفي المنزل وفي كل مكانٍ حتى إنني فكرتُ في طلب الطلاق بسبب التدخين.. وبعد أشهر رزقني الله بطفلٍ كان يمنعني من طلب الطلاق. أُصيب طفلنا بالربو الشُعَبي وذكر الطبيب أن سبب ذلك يعود إلى التدخين، وخصوصاً حوله، لأن والده يُدخن بجواره.. ولم ينثنِ زوجي عن التدخين، وذات ليلةٍ قمتُ من نومي على سُعال طفلي؛ كان يسعل بشدةٍ بسبب ربو الأطفال، وقمتُ أبكي لحاله وحالي، فعزمتُ أن أُنهي هذه المأساة بأي ثمن، ولكن هاتفاً أخذ يهتف بداخلي لماذا لا تلجئي إلى الله؟ قمتُ وتوضأتُ وصليتُ ما شاء الله لي أن أُصلي، ودعوتُ الله بأن يُعينني على هذه المصيبة ويهدي زوجي لترك التدخين (القاتل الصامت)، وقررتُ الانتظار.

وذات ليلةٍ كنا نزور مريضاً من أقاربنا مُنوماً في إحدى مستشفيات «الرياض»، وبعد خروجنا من زيارة المريض وأثناء توجهنا لموقف السيارات أخذ زوجي يُدخن فكررتُ الدعاء له في سري، وبالقُرب من سيارتنا لمحتُ طبيباً يرتدي البالطو الأبيض يبحث عن سيارته هو الآخر داخل الموقف، ثم فجأةً قام بالاقتراب من زوجي وقال له: "يا أخي أنا مُنذ السابعة صباحاً وأنا أُحاول مع فريقٍ طبيٍ إنقاذ حياة أحد ضحايا هذه السجائر اللعينة من مرض سرطان الرئة! وهو شابٌ في مثل عمرك ولديه زوجةٌ وأطفال!! ويا ليتك تذهب معي الآن لأُريك كيف يُعاني هذا المريض، ويا ليتك ترى كيف حال أبنائه الصغار وزوجته الشابة من حوله، ويا ليتك تشعر بدموعهم وهُم يسألونني كل ساعةٍ عن وضع والدهم، ويا ليتك تُحس بما يشعر به وهو داخل غرفة العناية المركزة حينما يرى أطفاله يبكون وترى دموعه تتساقط داخل كمامة الأُكسجين، لقد سمحتُ لأطفاله بزيارته لأنني أعلم من خبرتي بأنه سيموت خلال ساعاتٍ إلا أن يشاء الله أن يرحمه، ثم يا ليتك تشعر به وهو ينتحب ويبكي بكاء الأطفال لأنه يعلم خطورة حاله وأنه سيودّعهم إلى الدار الآخرة!! أتريد أن تكون مثله لكي تشعر بخطورة التدخين (القاتل الصامت)؟! يا أخي أليس لك قلب؟! أليس لك أطفالٌ وزوجة؟! لمن تتركهم؟! أيهونون عليك لمجرد سيجارةٍ لا فائدة منها سوى الأمراض والأسقام؟!".

سمعتُ أنا وزوجي هذه الكلمات، وما هي إلا لحظاتٌ حتى رمى زوجي سيجارته، ومن ورائها علبة السجائر، فقال له الطبيب المُخلص: "عسى ألا تكون هذه الحركة مُجاملةً منك، أرجو أن تكون صادقاً مع نفسك؛ وسترى الصحة والسعادة!!". ثم ذهب إلى سيارته وأنا أرمقه، بُح صوتي وتجمعت العبرات في مُقلتيّ، وانفجرتُ من البكاء حتى ظهر صوتي، عجزتُ عن كتم شعوري، ولم أتمالك نفسي وأخذتُ أبكي وكأنني أنا زوجة ذلك المسكين الذي سيموت. أما زوجي فقد أخذه الوجوم، وأطبق عليه الصمت ولم يستطع تشغيل سيارته إلا بعد فترة، وأخذ يشكر ذلك الطبيب، ويكيل له عبارات الثناء والمدح، ويقول يا له من طبيبٍ مُخلص. وكانت هذه نهاية قصة زوجي مع التدخين.

 

أحبتي في الله..

يقول أهل العلم إن التَّدخين (القاتل الصامت) مُحرمٌ شرعاً؛ لما فيه من خُبثٍ وأضرارٍ ومفاسد كثيرةٍ وعظيمةٍ على المدخِّن وعلى غيره من أهله وأصدقائه وكل مَن يكون بقُربه عندما يُدخِّن، وذلك بالأدلة الشَّرعيَّة من القرآن الكريم والسنَّة النَّبويَّة الشَّريفة.

فمن القرآن الكريم؛ يقول تعالى: ﴿وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ﴾، وتُبين الآية أن كلَّ طيِّبٍ حلالٍ وكلَُ خبيثٍ حرامٌ، ولا شك أن الدخان يُصنف من الخبائث لا من الطيبات من حيث الطعم والرائحة والآثار في البدن. ويقول تعالى: ﴿وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا﴾، فالآية الكريمة تدعو إلى عدم قتل النَّفس، وكلُّ ما يؤدِّي إلى إهلاك النَّفس فهو مُحرَّمٌ، ومن المعروف أن التَّدخين سببٌ رئيسيٌّ لأمراضٍ خطيرةٍ فتَّاكةٍ بجسم الإنسان وصحَّته، ومن هنا كان التَّدخين مُحرَّماً؛ لأنَّه قتلٌ للنَّفس؛ فقد أجمع الأطبَّاء على أنَّ التَّدخين يُسبِّب العديد من الأمراض منها السرطان؛ ممَّا يؤدي إلى الموت، ويدخل ذلك في الانتحار المُحرَّم، ومن المعلوم أنَّ المحافظة على النَّفس واجبٌ شرعيٌ، كما أنَّه مقصدٌ من مقاصد الشَّريعة. والتدخين يهدر المال فيما لا ينفع، والإسلام نهى عن الإسراف في المال، وعدَّ المسرف مُبذِّراً لماله؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ ۖ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا﴾.

ومن السُنة النبوية قال النبي صلى الله عليه وسلم إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ [يَنْهَى عن قيلَ وقالَ، وكَثْرَةِ السُّؤَالِ، وإضَاعَةِ المَالِ] والدخان فيه إضاعةٌ للمال واستهلاكٌ لمبالغ طائلةٍ بلا فائدة. ووجَّه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حفظ النَّفس وعدم الاضرار بها، وقال: [لا ضَرَرَ ولا ضِرارَ]، أي أنَّ ما يُسبَّب ضرراً للإنسان فهو مُحرَّمٌ يجب الابتعاد عنه، والتَّدخين فيه أضرارٌ كثيرةٌ وليس ضرراً واحداً. ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الضرر سواءً كان ضرراً جسمياً أو مادياً أو نفسياً، والدخان ضارٌ بكل ذلك؛ قال عليه الصلاة والسلام: [إِنَّ الْمَلاَئِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ بَنُو آدَمَ]، وفي الحديث أيضاً أنه قال: [مَن آذى مُسلِمًا فقدْ آذاني، ومَن آذاني فقدْ آذَى اللهَ] والمُدخن يؤذي الناس برائحته سواءً وقت التدخين أو بعد التدخين؛ فالتدخين له رائحةٌ كريهةٌ تعافها النفس وتنفر منها، ولا شكَّ أنَّ مَن يكون حول المدخِّن لا يطيق الاقتراب منه بسبب تلك الرائحة، والإسلام حرص على تجنُّب الإضرار بالنَّاس والابتعاد عن كلِّ ما ينفِّرهم؛ قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: [مَن أكَلَ ثُومًا أوْ بَصَلًا، فَلْيَعْتَزِلْنَا -أوْ قالَ: فَلْيَعْتَزِلْ مَسْجِدَنَا- ولْيَقْعُدْ في بَيْتِهِ]. وقال كذلك: [إِنِّما مَثَلُ الجَلِيسِ الصَّالِحِ وجَلِيسِ السُّوءِ كَحامِلِ المِسْكِ ونافِخِ الكِيرِ؛ فَحامِلُ المِسْكِ إِمَّا أنْ يَحْذِيَكَ وإِمَّا أنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ وإِمَّا أنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا طَيِّبَةً، ونافِخُ الكِيرِ إِمَّا أنْ يَحْرِقَ ثَيابَكَ وإِمَّا أنْ تَجِدَ رِيحًا خَبيثَةً] فهل يُعدّ المُدخِّن حاملاً للمسك، أم أنَّه أقرب ما يكون إلى نافخ الكير؟ وفضلاً عن ذلك كله فقد نهانا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عن "كُلِّ مُسْكِرٍ وَمُفَتِّرٍ"، فهل يُجادل أحدٌ في أن الدخان مفترٌ للجسم؟ ألا ترى المُدخن ضعيفاً واهناً يتعب من أقل مجهودٍ، يشكو من ضيق الصدر وصعوبة التنفس وينتابه السُعال؟

 

ويقول العلماء إنه إذا اعتبر البعض أن التدخين معصيةٌ لكنه صغيرةٌ من الصغائر؛ فالجواب أن الصغيرة يكون لها حكم الكبيرة بواحدٍ من الأشياء التالية:

الإصرار عليها، التهاون بها والاستخفاف وعدم المبالاة بفعلها، الفرح والسرور بها.

 

ومن الوسائل التي يرى المختصون أنها تُساعد على ترك التدخين (القاتل الصامت): العزم على التَّوبة إلى الله من التَّدخين وطلب العون منه على تركه. والمُحافظة على الصلوات الخمس؛ حيث إنَّها تنهى عن المنكر. وقوَّة النيَّة والإرادة في التَّرك. والصَّبر والثَّبات في بداية الإقلاع عن التَّدخين؛ لأنَّه سيسهُل ويصبح أكثر بساطةً فيما بعد ولن يعود إليه صاحبه بإذن الله. ومن المهم كذلك الابتعاد عن كلِّ ما يزيد الرَّغبة بالتَّدخين، كالجلوس مع المدخنين.

فمن ابتُلي بالتدخين -أياً كان نوعه سجائر أو سيجاراً أو شيشةً "أرجيلة" أو سيجارةً إلكترونية- ومن باب أولى من ابتُلي بالمُكيفات الأخرى، عليه أن يُقلع فوراً ويتوب، ويعترف بخطئه عسى الله أن يرزقه التوبة، ويُخفف عنه أعراض الإقلاع، لا أن يُكابر وتأخذه العزة بالإثم؛ فيؤذي نفسه ويؤذي أحب الناس إليه وأقربهم إلى قلبه.

 

أحبتي.. أعلم أن عادة التدخين تتحول مع الأيام إلى اعتيادٍ وتعوْدٍ وتصير نوعاً من الإدمان، لكن مع قوة الإيمان ومع العزيمة الصادقة وطلب العون من الله بإخلاصٍ يمكن أن يُقلع عن التدخين، مثله في ذلك مثل كثيرٍ من الناس الذين أيقنوا أن التدخين حرامٌ شرعاً؛ فآثروا رضا الله سبحانه وتعالى ورسوله الكريم -صلوات الله وسلامه عليه- على اتباع الهوى وتسليم النفس للشهوات؛ فتركوا التدخين (القاتل الصامت).. هؤلاء ينظر الناس إليهم على أنهم أذكياء اختاروا طريق الهُدى والصواب واغتنموا الفرصة قبل أن تضيع فيصلوا إلى وقتٍ لا ينفع فيه الندم.

أخي وعزيزي المدخن كُن ذكياً واختر لنفسك ولأهلك وأبنائك سبيل الرُشد، ولا تترك نفسك لتكون من الغافلين الذين تصفهم الآية الكريمة: ﴿وَإِن يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَّا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا﴾.

اللهم علِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علَّمتنا، وزدنا عِلماً، وأصلح لنا شأننا كله، ولا تتركنا لأنفسنا طرفة عين.

https://bit.ly/3HKlhto