الجمعة، 12 يونيو 2020

بعد فوات الأوان

الجمعة 12 يونيو 2020م


خاطرة الجمعة /٢٤٣

(بعد فوات الأوان)

 

حكى لي صديقي عن قصته مع أبيه، قال: في صباحِ السَّابع من فبراير قبل أكثر من عقدينِ من الزمان، طُلبَ منا أن يأتي أولياء الأمور لزيارةِ المدرسة في حفلٍ كبيرٍ لتكريم المتفوقين وأولياء أمورهم، ضاقتْ نفسي، لأني لم أرغب أن يحضرَ والدي، كان منظره لا يسر، لا زالَ يسيرُ وفق حياة الأرياف والبوادي، رغم عيشه في المدينةِ منذ زمنٍ طويل. شرعتُ يومها أبحثُ عن شخصٍ يمثلني في المدرسة، وكنتُ أبحثُ بجدٍّ واجتهاد.. علني أحظى بأحدهم، انتسبُ إليه عوضاً عن والدي؛ فلما عجزتُ، أخبرتُ والدي، بلا رغبةٍ مني وقد ألجأتني الضرورة لذلك.

استبشرَ وطار فرحاً، وأمر والدتي أن تُجهزَ ملابسه التي يحتفظُ بها في صندوقٍ عتيقٍ أسفلَ السرير، كان يظنُّ أنَّ ملابسه تلك لا يعدلها شيء، وكنتُ في داخلي متبرماً، تتناوشني وساوس لا تُحتمل، كنتُ أخشى من قهقهاتِ الزملاء، وسخريتهم التي لا تنتهي!

ذهبتُ مع والدي إلى المدرسة، وعندما أوشكنا أن نصل، تذرعتُ بإصلاحِ حذائي كي أتأخر قليلًا عنه، من أجل أن يدخل دون أن يُعرف أنه والدي! وكلما تأخرتُ، وقفَ ينتظرني، يسألُ عن حالي، ويستحثني على سرعة المسير.. لم يكن يعلم حينها أني أودُّ التخلص والفرار منه.. لم أشأ أن ألتصقَ به.. هكذا شعرتُ يومها!

حضر أولياء الأمور، التجار، والساسة، وبعض قادة الجيش، وعِليةُ القوم.. ووحده والدي بثيابه العتيقة، وجسده النحيل، ووجهه الشاحب من وعثاءِ الحياة.. يقبعُ بعيداً عنهم، لم تكن سوى عينيه تبرقُان حياةً وأملاً؛ فَرَحاً بي.

بدأتْ قهقهات الزملاء، وسَرت بينهم الضحكات والنكات السخيفة.. وبدأتُ أتذمَّر، أتذكرُ جيداً، أني قلتُ حينها: "ليتني كنتُ يتيماً بلا أب". التقطَ الجميع صوراً تذكاريةً مع آبائهم والقائمينَ على المدرسة، ووحدي خجلتُ من والدي، وفي لحظةِ غفلةٍ، لم أظن أني سأدفع ثمنها بقيةَ عمري؛ سمعني والدي أقولُ لصديقي حسام: "مجيء والدي سبَّبَ لي حرجاً كبيراً".

تظاهَر بأنه لم يسمع شيئاً، وأذكر أنه احتضنني يومها وبكى، ولم أكن أعلمُ أنَّ كلمتي وقعت في قلبه؛ فأحالته إلى فضاءٍ واسعٍ بلا ملامح، لقد استحالَ يومها إلى رماد!

مضتْ بي الأيام.. تخرجتُ من الثَّانوية.. فاعتذرَ والدي عن الحضور بسببِ حالته الصحية، لكنه دعمني يومها بكلِّ شيء!

تخرجتُ من الجامعة.. واعتذر أيضاً بسببِ وجعٍ في قدميه جعله طريحَ الفراش، ولم يكن حينها يعاني من شيء! ثم حصلتُ على وظيفةٍ في منظمةٍ عريقةٍ، وبدأتُ في مشروعِ الزواج.. ويوم ذهابنا إلى منزل والد الفتاة، لعقد القران، تغيَّبَ والدي.. رفضتُ الذهاب.. انتظرتُه، لم يأتِ، وفجأةً تقدم نحوي أخي الأصغر، همسَ في أذني، أن والدي شعرَ بدوارٍ في رأسه، وكاد أن يُغمىٰ عليه، يقولُ لك: على بركةِ الله.

ليلتها فقط، أحسستُ أنَّ والدي يُخفي شيئاً، ومنذ تلك اللحظة بدأتُ أجمعُ الخيوط، تذكرتُ اعتذاره في حفل الثانوية، ثم تخرجي من الجامعة، والآن في لحظاتِ عمري الخالدة.. تركني ولم يأتِ بصحبتي. ثمةَ ما يخفيه، هذا ما قلتُه في نفسي.

سكنتُ في سكنٍ مستقلٍ بعدَ زواجي، كنتُ أزوره ما بينَ حينٍ وآخر.. والدي يبادلني كلَّ الحب.. ويدعمني بكلِّ شيءٍ.. ويُشعرني بقيمتي.. قال لي يوماً: "كن أباً جيداً لأبنائك". لم أفهم كلمته تلك وقتها، وإن كنتُ عقلتُ معناها (بعد فوات الأوان).

عند منتصفِ الليل في ليلةٍ شاتيةٍ، وصلني صوتُ أمي، تنتحبُ وتبكي رحيلَ والدي! بعد وفاته أحسستُ أني بلا جدرانٍ تحوطني، بلا سندٍ أتكئُ عليه، شعرتُ بفراغٍ كبيرٍ في حياتي، تعاظمت لدي الرغبة في البكاء، البكاء على والدي الذي أحبني حدَّ تحقيقِ جميع رغباتي وكبْتِ مشاعره!

عثرتُ على دفترٍ قديمٍ لوالدي يسجلُ فيه شيئاً من مذكراته اليومية، وهي عادةٌ جرى عليها، ومن قبله جدِّي.. وأثناءَ تقليبي صفحات دفتره، وجدتُ ما كتَبَه يوم حضوره في مدرستي قبل سنواتٍ طويلةٍ تلاشتْ من ذاكرتي!

«صباح السَّابع من فبراير: ذهبتُ اليوم مع ولدي إلى المدرسة، إثر دعوةٍ تلقيتها من مجلسِ الآباء.. كنتُ مسروراً، فرحاً بتفوقه.. كنتُ مزهوًاً به.. لكني للأسف لم أكن بالشكلِ الذي ينبغي، وهو محقٌّ في ذلك، فأنا أجيدُ القراءة والكتابة فحسب، لم أُكمل تعليمي، اضطرتني الحياة، بعد فقْد أمي وزواج والدي من أخرى، أن اعتمدَ على نفسي.. لم أكن أهتمُّ بحالي كثيراً، ولم تُتح لي الحياة فرصةً لذلك.. شعرتُ بحزنٍ شديدٍ لحزن ولدي بسبب حضوري.. ليتني كنتُ قادراً أن أكون أباً يفخرُ به ولده.. لا بأس.. سأتداركُ هذا الخطأ. لن أتسبَّبَ في إحراجه بعد الآن.. كل الحب والمسرات، وليكنْ دربكَ عظيماً، ونيراً يا ولدي».

مضىٰ على قراءتي الرسالة تسعة أعوامٍ، ولا زلتُ أعيشُ في عذابٍ داخليٍّ ينهش فؤادي، لم أهدأ من سؤالاتِ الضمير التي لم تتوقف.

لم أر أحداً ارتسمَت علامات الحزن على وجهه مثلما كانت مرتسمةً على وجه صديقي .. حكى لي ما دارَ بينه وبينَ والده، وهو يعضُّ على شفتيه من الندم، ويغالب دموع عينيه التي كانت تنساب بغزارة.. يشعرُ بخيبةٍ لا حدَّ لها .. يشتهي لحظة عفوٍ وغفرانٍ من والده العظيم، لكن (بعد فوات الأوان) .. لا شيء يعيشُ معه الآن غير الندم! آخر كلمةٍ قالها لي: "الندم قدرٌ محتومٌ مهما فررنا منه".

 

أحبتي في الله .. كثيرةٌ هي المواقف التي يمر بها الإنسان، فيتصرف فيها برعونةٍ أو بغير حكمةٍ، أو تصدر منه كلمةٌ -بقصدٍ أو غير قصدٍ- ثم يندم عليها.

وتحكي لنا قصة هذا الصديق واحداً من تلك المواقف التي تصرف فيها بطيشٍ وتكلم فيها بتهورٍ ثم ندم على ذلك ولكن (بعد فوات الأوان) وظل ندمه مستمراً معه، لا يستطيع أن يُغير ما كان، ولا يستطيع أن يُسامح نفسه على ما بدر منه. كانت كلمةً، ظنها عاديةً أو بسيطةً، لكنها كانت جارحةً بأكثر مما كان يظن، عاشت هذه الكلمة في وجدان أبيه سنواتٍ طوال، جرحت كبرياءه، وحطمت مشاعره، وسرقت منه إحساسه بالفرحة والزهو لتفوق ابنه، لكنها لم تسلب منه حبه لابنه، ولم تعكر نهر عطائه الصافي بلا حدود له، ولم تخدش للحظة حنان الأبوة في صدره.

 

ولقد تعدَّدت صور الندم في القرآن الكريم باستخدام كلمة "نادمين"، كما في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾. وباستخدام كلمة "الندامة"، كما في قوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾.

كما ورد التعبير عن الندم باستخدام تعبير "يا ليتني"، كما في قوله تعالى: ﴿وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى . يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي﴾. واستخدام تعبير "يا ليتنا"، كما في قوله تعالى: ﴿ وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾. واستخدام تعبير "يا ليت"، كما في قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ . وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ . حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ﴾.

وورد التعبير عن الندم كذلك بغير هذه الكلمات والتعبيرات.

 

أما في السُنة النبوية فقد جاءت بعض الأحاديث تُوجهنا وتُرشدنا وتقينا من الندم وتُبعدنا عنه؛ منها قوله صلى الله عليه وسلم: [إِيَّاكَ وَمَا يُعْتَذَرُ مِنْهُ].

وورد في الأثر: "ما ندمتُ على سكوتي مرةً، لكنني ندمتُ على الكلام مراراً".

وقال حكيم: "الواجب على العاقل أن يَلزم الصمت إلى أن يلزمه التكلم، فما أكثر مَن ندم إذا نطق، وأقل مَن ندم إذا سكت". وقيل: "لا يندم المرء على فعل الجميل ولو أسرف، وإنما الندم على فعل الخطأ وإن قَل". وقالوا: "الندم هو صوت الفطرة لحظة الخطأ".

 

ويذكر أهل العلم أن الندم شعور إنسانيٌّ له أسبابٌ عديدةٌ، إما فعلُ ما يستوجب الندم، أو فواتُ ما يستوجب الندم. والشعور بالندم له مرارةٌ وغُصةٌ لا ينساها مَن يتجرعها، وأشد أنواع الندم ما يكون على التقصير في حق الله تعالى، وفوات رحمته. وعندما يأذنُ الله تعالى للعبدِ أن يستيقظ ضميرُه، ويَنْتَبه عقله، ويستقرَّ فؤاده، ويشعر بأنه يغوصُ في بحرٍ لُجِّيٍّ من الذنوب والمعاصي التي تجرفه بعيداً عن رحمة الله تعالى، حينها ينتفضُ ليُزِيل عن نفسه وَحَلَ المعصية وأدران الذنوب؛ لذلك نجدُ أن الله تعالى قد امتدح النفس اللوَّامة، وأقسم بها في كتابه العزيز؛ يقول تعالى: ﴿لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ . وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ﴾.

 

ولما كان الندم في أغلب الأحوال هو لمعصيةٍ اقترفناها، فإنه ينفعنا قول أحد العلماء إن الإنسان لو تذكر عظمة الله تعالى، ولو تذكر نِعَمه عليه، ولو علِم سخطه على العاصي، ولو علِم بشؤم المعصية وما تَجلِبُه من فتن وبلاءٍ، ولو علِم بفرحة الله تعالى بعبده الذي يعود إليه، ولو علم المصير الذي ينتظره لو مات على معصية ربه، ولو علم بالنعيم الذي أعدَّه الله تعالى للتائبين، ما تجرَّأ على المعصية، ولندم وسارع بالتوبة. فما فائدة الندم يوم القيامة، وما قيمة الأسى والاعتراف بالخطأ؟ لا قيمة لشيءٍ من هذا (بعد فوات الأوان).

 

أحبتي .. الندم يشعر الإنسان دائماً بالألم والحسرة، لذا فهو أمرٌ يجب تجنبه والبعد عن أسبابه. والندم نوعان: ندمٌ على شيءٍ يمكن تداركه، وندمٌ يأتي (بعد فوات الأوان) لا نملك أن نصحح أسبابه أو نقلل من آثاره. ولا شك أن النوع الأول هو الأخف وطأةً والأسهل تداركاً. ومن رحمة الله سبحانه وتعالى بنا أن جعل لكلٍ منا نفساً لوامةً تُشعرنا دائماً بالتقصير؛ فنسارع إلى تدارك ما فاتنا من صلاةٍ أو زكاةٍ أو بِرِ والدين ما زالا حيين أو صلةِ رحم أو ظُلمِ إنسان أو أكلِ حقٍ أو كسرِ خاطرٍ أو سوءِ ظنٍ أو غيبةٍ أو نميمةٍ، وما ماثل ذلك؛ حيث يكون التدارك سهلاً ميسوراً، يخفف عن الإنسان مشاعر الأسى والإحساس بالذنب، ويشعره بالرضا في حياته ويُكسبه في الآخرة ثواباً عظيماً.

نسأل الله سبحانه وتعالى أن يُلهمنا رشدنا ويتقبَّل توبتنا، حتى نلقاه وهو راضٍ عنا. اللهم إنا نسألك قبل الموت توبةً، وعند الموت شهادةً، وبعد الموت جنةً ونعيماً.

 

https://bit.ly/2Yxwxle