الجمعة، 18 نوفمبر 2022

المرابطون

 

خاطرة الجمعة /370


الجمعة 18 نوفمبر 2022م

(المرابطون)

 

تقول سيدةٌ مُسلمةٌ تعيش هي وأسرتها في الولايات المتحدة الأمريكية:

غداً عيد «الهلوين» عند غير المُسلمين، ومن طقوسه أن يطرق أطفالهم أبواب المنازل لطلب الحلوى؛ إذن سيطرقون بابنا! فهل أعطيهم الحلوى؟ وماذا أقول لأطفالي عن هذا العيد وطقوسه الغريبة؟ أنا في حيرةٍ من أمري! استخرتُ الله ثم قررتُ أن أخرج بعائلتي خارج البيت في ذلك المساء. في الحقيقةً العيش في الخارج مُتعبٌ؛ ينبغي أن تكون حذِراً وفطِناً، ومن لديه أطفالٌ مسؤوليته أكبر! إننا (المرابطون) قابضون على دِيننا كالقابضين على الجمر.

قررتُ مع ابنة عمتي أن نذهب نحن وأطفالنا قبل غروب الشمس -وهو وقت بدء احتفالهم- إلى المسجد لنُصلي المغرب ونمكث حتى صلاة العشاء هناك، فما أجمل الرباط وقت الفتنة. كانت فكرة المسجد فكرةً رائعةً، ولم نكن نظن أنه سيسبقنا إليها أحدٌ، لكن ما الذي حدث؟

بمجرد وصولنا إلى المسجد تفاجأنا بأعدادٍ غفيرةٍ من المُسلمين بصُحبة أطفالهم هناك! وتفاجأنا بوجود الكثير من الألعاب مُعدةً ومُجهزةً للأطفال، والحلويات والقهوة والشاي، وجوٍ عائليٍ رائعٍ في الساحة! يا الله! لقد دمعت عيناي حين خطر لي أن الله سبحانه وتعالى ينظر إلينا، وكيف أننا فرّرنا بديننا وسط الظلام كأهل الكهف؛ فكنتُ أدعو مثلهم ﴿رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا﴾.. قلتُ في نفسي: يا ربِ ها هُم المُسلمون في أمريكا من مُختلف الجنسيات يفرون إليك يا الله، ومعهم أطفالهم الصغار -كما فرّ أصحاب الكهف حينما هربوا من قومهم إلى الكهف ليأويهم، لم يمنعهم أنه قد حلّ الظلام، أو أنها ليلةٌ دراسيةٌ وينبغي لأطفالهم أن يناموا في ذلك الوقت، ورغم أن الجو كان بارداً إلا أننا -آباء وأُمهات- كنا نخشى على عقيدة أبنائنا أكثر من أي شيءٍ آخر!

دقائق ثم نادى إمام المسجد على الأطفال، وأجلسهم حوله وبدأ حديثه معهم بقصةٍ قصيرةٍ تدرج منها إلى «الهلوين»، وبعباراتٍ بسيطةٍ قليلةٍ شرح للأطفال خطأ مُعتقدات الذين يحتفلون بهذا العيد، ثم أطلق الأطفال ليستكملوا اللعب في ساحة المسجد.

لقد كانت تلك لحظاتٍ ماتعةً مُفعمةً بمعنى الفرار إلى الله واللجوء الكامل إليه. في صلاة المغرب قرأ علينا الإمام قراءةً مُبكيةً هزّتنا وأبكتنا، فقد قرأ بصوتٍ رخيمٍ: ﴿لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ . مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ . لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِّنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ لِّلْأَبْرَارِ﴾ شعرنا أن هذه الآيات كأنها تُقرأ علينا لأول مرةٍ! وفي صلاة العشاء ودَّعنا الإمام بقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ يااااه.. هذا والله نداءٌ لنا نحن، وأمرٌ بالصبر والمُصابرة والرباط! الحمد لله أن هدانا للإسلام.

الذين يحتفلون بعيد «الهلوين» قضوا ليلتهم البارحة بين الوحوش والجماجم ظناً منهم أن ذلك سيجلب لهم السكينة! ونحن قضينا والحمد لله ليلتنا بذِكرٍ تطمئن له القلوب وتسكن؛ فانقلبنا ﴿بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ﴾ لم يمسسنا سوءٌ واتبعنا ﴿رِضْوَانَ اللَّهِ﴾. أسأل الله أن يُثبت قلوبنا، وأن يهديهم كما هدانا إلى الإسلام.

 

أحبتي في الله.. عن الهجرة إلى بلادٍ غير إسلاميةٍ، والاغتراب يقول العلماء: لا شك أن الإقامة في البلاد غير الإسلامية فيها خطرٌ عظيمٌ على دِين المُسلم وأخلاقه، فينبغي الحذر من ذلك. والسفر إلى هذه البلاد لا يجوز إلا بثلاثة شروطٍ: أن يكون عند الإنسان علمٌ يدفع به الشُبهات ويدعو لدينه، وأن يكون عنده دِينٌ يمنعه من اتباع الهوى والجري وراء الشهوات، وأن يكون مُحتاجاً إلى ذلك، فإن لم تتم هذه الشروط فإنه لا يجوز السفر إلى تلك البلاد؛ لما في ذلك من الفتنة أو خوف الفتنة. أما بالنسبة لأولئك الذين يُهاجرون إلى تلك البلاد فإنهم يقعون في إثمٍ عظيمٍ وقد ينتكسون على أعقابهم، وقد يتأثرون بالفكر الغربي؛ فيكفرون بالله عزَّ وجلَّ، غير ما يصل إلى أبنائهم من عاداتٍ وتقاليد تتعارض مع أحكام الشريعة الإسلامية السمحة؛ فالواجب على المُسلمين الحذر من السفر إلى البلاد غير الإسلامية إلا إذا كان المُسافر ذا علمٍ وبصيرةٍ، ويُريد الدعوة إلى الله؛ فهذا أمرٌ مُستثنى، وهذا فيه خيرٌ عظيمٌ لأنه يدعو غير المُسلمين إلى توحيد الله ويُعلمهم شريعته، فهو مُحسنٌ وبعيدٌ عن الخطر لما عنده من العلم والبصيرة. ولا يخفى أن الخطر الذي يلحق بالأبناء غير مقتصرٍ على مُشاركتهم لهم في أعيادهم، بل إنه حاصلٌ بمجرد المُخالطة والتعايش معهم.

وعلى المقيمين ببلادٍ غير إسلاميةٍ لضرورةٍ أقول لهم -للأمانة- إن الضرورة التي تُجيز السفر والإقامة في البلاد غير الإسلامية قال العلماء عنها إنها الحالة التي يخشى فيها المُسلم وهو في مكانٍ مُعينٍ على دِينه من الضياع والفتنة، وعلى نفسه من الهلاك، وعلى ماله من الزوال، وعلى عِرضه من الانتهاك؛ ينبغي عليه وقتها، بل يجب -بحسب الحاجة والحالة- ترك هذا المكان والانتقال لمكانٍ آخر يحفظ فيه دِينه ونفسه وعِرضه وماله، وعليه أن يختار المكان الأقل ضرراً على دِينه أولاً ثم بقية الضروريات، ولا يستعجل ويختار المكان المُريح مادياً ونفسياً على حساب الضرر في الدين. كل مُسلمٍ اضطر للإقامة في بلاد الغُربة، أعرَف بنفسه من غيره لحجم الضرورة، ونسبة حاجته لذلك ﴿بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ . وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} فلابد من تقوى الله عزَّ وجلَّ، ومراقبته في السِر والعلن، واختيار القرار المناسب في الوقت المناسب، ووضع الأشياء في نصابها، لأن الله سُبحانه وتعالى ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾، و{لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ﴾، و﴿إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾.

قال عليه الصلاة والسلام: [يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ، الصَّابِرُ فِيهِمْ عَلَى دِينِهِ كَالقَابِضِ عَلَى الجَمْرِ]. قال أهل العلم: لكثرة الفساد والفتن والمُغريات، وقلة الأعوان على الطاعة، ولمشقة التمسك بالدِين واتباع السُنة، يكون المُلتزم بدِينه كالقابض على الجمر. إنهم (المرابطون) الذين تقع على عاتق كلٍ منهم مسئوليةٌ عظيمةٌ؛ إذ ورد في الأثر: [أنتَ على ثَغْرَةٍ من ثُغَرِ الإسلامِ، فلا يُؤْتَيَنَّ مِن قِبَلِكَ]، والثَغرة موطن الضعف من الحُدود، أو الثلمة في الشيء، أو الفتحة في الثوب. يقول العُلماء في شرح هذا الأثر: أنت يا أخي على ثَغرةٍ من ثُغر الإسلام فلا يؤتين من قِبَلك؛ فإياك أن تكون سبباً في الإساءة إلى الإسلام والمُسلمين، طبِّق الإسلام في حياتك اليومية، واجعله مُجسداً في سلوكك؛ فالناس يتعلمون بعيونهم، والإسلام انتشر في جنوبي آسيا وشرقها، وفي غرب أفريقيا وشمالها، عن طريق المُعاملة الحسنة والسلوك القويم؛ فالتجار المُسلمون ضربوا لهذه الشعوب مثلاً أعلى في النزاهة والاستقامة والأمانة وحُسن الخُلق.

والناس لا يُنفرهم من الإسلام شيءٌ مثلُ أن يروا مُسلماً يُكثر من الصلاة والصيام، والأدعية والأوراد، ويُسيء إلى الناس في مُعاملاته، وبيعه، وشرائه، ودَيْنه، وقضائه. والمُسلم الذي يُسيء إلى الناس، يُسيء بلا شكٍ إلى الإسلام والمُسلمين.

 

أحبتي.. أيها (المرابطون)، أعيدوا النظر في حساباتكم ووضعكم في بلاد الغُربة، إن كنتم ذهبتم هناك لمصلحةٍ قُضيت فالعودة إلى ديار الإسلام بغير تأجيلٍ أو تسويفٍ واجبةٌ شرعاً، وإذا كنتم مُضطرين للبقاء حيث أنتم لضرورةٍ -وأنتم أدرى من غيركم بتقدير مداها- فلتبذلوا جُهداً مُضاعفاً لتَعَلُّم دِينكم والتفقه فيه لتنفقوا من وقتكم ما يتيسر لكم لتكونوا دعاةً لدِين الله، مُبشرين به، واحرصوا على أن تكون معاملاتكم وأخلاقكم وجميع تصرفاتكم نموذجاً للمُسلم التقي النقي الذي يرعى حقوق غيره من الجيران والزملاء وغيرهم، ويسعى إلى الخير دوماً. حينئذٍ لا تكون إقامتكم في بلاد الغُربة شرعيةً فحسب، بل تكون ضروريةً تُثابون عليها، والأعمال بالنيات؛ قال عليه الصلاة والسلام: [إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا، أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ]؛ فأخلِصوا النية لله تعالى، وأحسنوا العمل مُهتدين بسُنة النبي عليه الصلاة والسلام.

ولا تنسوا أبناءكم، فلذات أكبادكم؛ فلتبذلوا وُسعكم أن تجعلوا من بيوتكم بيئةً إسلاميةً حاضنةً لهم، تُعَلِّمهم دِينهم وتُحسن تربيتهم، لينشأ كلٌ منهم وهو واعٍ لدوره كمُسلمٍ في بلادٍ ليست مُسلمة، فيكون ثوابكم وثوابهم مُضاعفاً بإذن الله. كونوا فطنين، مُدركين للأخطار التي تُحيط بأبنائكم، قائمين على وقايتهم من أن يتلوثوا بأفكار غير المُسلمين ويتأثروا بها، والله تعالى يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا﴾. أبناؤكم أمانةٌ في أعناقكم ستُسألون عنها؛ فكما قال النبي عليه الصلاة والسلام: [كُلُّكُمْ رَاعٍ ومَسْؤُولٌ عن رَعِيَّتِهِ].

ولتعلموا أن الإقامة الضرورية والعيش في البلاد غير الإسلامية يجب أن تكون مؤقتةً وليست دائمة، واستثنائيةً وليست أصلية، وطارئةً وليست مُستمرة، وينبغي على كل مسلمٍ بذل قُصارى جهده للتخلص من حالة الضرورة، والانتقال ولو تدريجياً إلى بيئاتٍ أقل ضرراً وأنفع لدِينه وذريته، ولو على حساب بعض الامتيازات المادية؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: [إِنَّكَ لَنْ تَدَعَ شَيْئًا لِلَّهِ إِلَّا بَدَّلَكَ اللَّهُ بِهِ مَا هُوَ خَيْرٌ لَكَ مِنْهُ]، وهو معنى قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا . وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ﴾.

 

أيها (المرابطون) قلوبنا معكم، ودعواتنا لكم. إن عُدتم إلينا في بلاد الإسلام فأهلاً بكم، نستقبلكم بالحُب والترحاب، وإن استمر وجودكم بعيداً عنا، داعين إلى الله، مُتحملين الكثير من الأذى، مُحافظين على أنفسكم وأبنائكم من الذوبان في بحر الشرك وغياهب الكُفر، فدعاؤنا لكم بتوفيق الله وإعانته لا ينقطع. ثبَّتكم الله ونجَّح مسعاكم، وحفظكم وبارك لكم في أبنائكم وأموالكم، وأثابكم من واسع رحمته ثواباً عظيماً.

https://bit.ly/3OjE2G2