الجمعة، 24 يناير 2020

البر بالأب


الجمعة 24 يناير 2020م

خاطرة الجمعة /٢٢٣
(البر بالأب)

كتب أحدهم مقالاً تأثرتُ به حين قرأته، كتب عن الأب فقال: في صغرك، تلبس حذاءه فتتعثر من كبر حذائه وصغر قدمك، تلبس نظاراته فتشعر بالعظمة، تلبس قميصه فتشعر بالوقار والهيبة، يخطر ببالك شيءٌ تافهٌ فتطلبه منه فيتقبل منك ذلك بكل سرورٍ ويحضره لك دون مِنَةٍ، يعود إلى المنزل فيضمك إلى صدره ضاحكاً وأنت ﻻ تدري كيف قضى يومه وكم عانى في ذلك اليوم في عمله.
واليوم في كبرك، أنت ﻻ تلبس حذاءه فذوقه قديمٌ ﻻ يعجبك، تحتقر ملابسه العتيقة وأغراضه القديمة ﻷنها ﻻ تناسب ذوقك، أصبح كلامه ﻻ يلائمك، وسؤاله عنك هو تدخلٌ في شؤونك، وذلك ﻻ يروق لك، حركاته تصيبك بالحرج وكلامه يشعرك بالاشمئزاز، إذا تأخرتَ وقلِق عليك وعاتبك على التأخير حين عودتك تشعر أنه يضايقك، وتتمنى لو لم يكن موجوداً لتكون أكثر حريةً، رغم أنه يريد الاطمئنان عليك ليس إﻻ، ترفع صوتك عليه وتضايقه بردودك وكلامك فيسكت ليس خوفاً منك بل حباً فيك وتسامحاً معك، إن مشيَ بقربك محني الظهر ﻻ تمسك يده فلقد أصبحت أنت أطول منه. كنتَ باﻷمس القريب تتلعثم بالكلام وتخطئ في الحروف؛ فيضحك مبتسماً ويتقبل ذلك برحابة صدر، وأنت اليوم تتضايق من كثرة تساؤﻻته واستفساراته بعد أن ضعف سمعه ووهن نظره، لم يتمنَ أبوك لك الموت أبداً؛ ﻻ في صغرك وﻻ في كبرك، وأنت تتمنى له الموت فهو يضايقك في شيخوخته! تحملك أبوك في طفولتك، في جهلك، في سفهك، في رعونتك، في عوزك، في شدتك؛ تحملك في كل شيء، فهل فكرت يوماً أن تتحمله في شيخوخته ومرضه؟ وذلك هو (البر بالأب). أحسن إليه؛ فغيرك يتمنى رؤيته من جديد.

أحبتي في الله .. يذكرني هذا بما كتب أحد الآباء فقال: الغريب أن الأبناء لا يكتشفون حبّهم الجارف لآبائهم إلا متأخراً، إما بعد الرحيل، وإما بعد المرض وفقدان الشهية للحياة، وهذا حبٌ متأخرٌ كثيراً حسب توقيت الأبوة.
الآن كلما تهتُ في قرارٍ، أو ضاقت عليّ الحياة، أو ترددتُ في حسم مسألةٍ تنهّدتُ وقلتُ: أين أنت يا أبي؟ لو كنتُ أعرف أن العمر قصيرٌ إلى هذا الحد لكنتُ أكثر قرباً من أبي. نحن نعرف قيمة الملح عندما نفقده في الطعام، وقيمة الأب عندما يموت ويشغر مكان جلوسه في البيت؛ إذ عندما يموت يفتقد الأبناء وجود ذلك البطل في حياتهم، فهو الذي كان يقودهم بثباتٍ إلى بر الأمان؛ فالأسرة كلها مع الأب في رحلة الحياة كراكبي قطارٍ في سفرٍ طويلٍ لا يعرفون قيمة قائد القطار إلا عندما يتعطل بهم، ويبدأ قائده في التفاني لإصلاحه وإعادة تشغيله رغم ضخامته. الأب وحده هو الذي لا يحسد ابنه على موهبته وتفوقه بل يتباهى به ويفرح ويفاخر، والأب وحده هو الذي يُخفي أخطاء ابنه ويتسامح معه وينساها، والأب وحده الذي يريد لنفسه أن يكون أفضل الناس يتمنى أن يكون ابنه أفضل منه، تأنيب الأب لابنه مؤلمٌ في حينه لكنه دواءٌ ناجعٌ حلو المذاق بعد التعلم منه، تأنيب الأب يصدر من جوار قلبه لا من جدار قلبه إذ يتألم وهو يؤنب ابنه؛ فقلب الأب هبة الله الرائعة لأبنائه.

أمرنا الله سبحانه وتعالى بالإحسان إلى الوالدين وبرهما؛ يقول تعالى: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً﴾، ويقول تعالى: ﴿وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً﴾، ويقول تعالى: ﴿وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ﴾، ويقول تعالى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً، وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً﴾.

فلا حق على الإنسان أعظم ولا أكبر -بعد حق الله تعالى وحق رسوله صلى الله عليه وسلم- من حقوق الوالدين وبرهما، والحديث عن بر الوالدين ارتبط لدى البعض ببر الأم حتى كاد يُنسيهم أن للأب حقاً هو الآخر من البر، وإن كان حق الأم مقدماً على حقه، فلا ننسى أبداً (البر بالأب)، ولا ننسى أن نقدمه للأم مضاعفاً.
ومن أعظم صور بر الابن بأبيه ما ورد مفصلاً في القرآن الكريم عن: بر إبراهيم عليه السلام بأبيه رغم كفره، وعن بر إسماعيل عليه السلام بأبيه إبراهيم.

ولقد خصَّ نبينا صلى الله عليه وسلم، (البر بالأب) بأحاديث منها:
قال النّبي صلّى الله عليه وسلّم: [لَا يَجْزِي وَلَدٌ وَالِدَهُ، إِلَّا أَنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكًا فَيَشْتَرِيَهُ فَيُعْتِقَهُ]، وقال عليه الصلاة والسلام: [رِضَا الرَّبِّ فِي رِضَا الْوَالِدِ، وَسَخَطُ الرَّبِّ فِي سَخَطِ الْوَالِدِ‏]، كما قال: [ثلاثُ دعَواتٍ مُستَجاباتٌ لا شَكَّ فيهِنَّ دَعوةُ الوالِدِ، ودَعوَةُ المسافِرِ، ودعوَةُ المَظلومِ]، وقال كذلك: [الْوَالِدُ أَوْسَطُ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ؛ فَإِنْ شِئْتَ فَأَضِعْ ذَلِكَ الْبَابَ أَوِ احْفَظْهُ].
يقول أهل العلم إن للأب عليك حقاً في البر لأنه هو سبب وجودك في الحياة، وما أنت إلا بَضْعةٌ منه، وهو مبعث الاستقرار، وهو ملاذك بعد الله. به تقوى قلوب الأبناء، وتزهو نفوسهم، وتحل الطمأنينة في حياتهم، وهو الذي يكد ويكدح من أجل تحقيق حياةٍ آمنةٍ حافلةٍ بالاطمئنان والاستقرار المادي والمعنوي لأولاده، وهو خبرة الحياة التي يحتاجها الأبناء لحل ما يواجهونه، وما يقابلونه من مشكلاتٍ وصعوباتٍ. وللأب حق البر والتكريم مهما بلغ سنه، ويتحتم ذلك ويزداد عند كبر سنه وشيخوخته؛ اخفض له جناح الذل من الرحمة، فللأب حق الإحسان والطاعة، وله حُسن الصحبة والعِشرة، والأدب في الحديث، وطيب المعاملة، إن تحدث فلا تقاطعه، وإن دعاك فأجبه، ولا تمشِ بين يديه ولا أمامه، حيّه بأحسن تحية، وقبّل رأسه ويديه، وتلزمك النفقة عليه إذا احتاج إلى ذلك؛ تذكر حديث النبي عليه الصلاة والسلام: [أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ].

يقول أحدهم: أزعم أني كنتُ باراً وطائعاً لأبي، ولا أتذكَّر أني عصيتُه أو أحزنتُه، لكني اليوم -وبعد أن فارقَنا والدي- أشعر بالندم عندما كنتُ أعرِضُ عليه خدمةً أو منفعةً أو هديةً فيعتذر ويقول: "شكراً" فأُصدِّقُهُ، وكنتُ أعتقد أنه لو أراد شيئاً لأخبرني بذلك. اليوم عندما كبرتُ، وأصبحتُ أباً عرفتُ كذِبَ الآباء عندما يقولون "شكراً"! وتنبَّهتُ لغباء الأبناء عندما يصدقون آباءهم حين يقولون "شكراً"؛ فيعتبر الأبناء أن آباءهم لا يريدون حقاً. أيها الأبناء والبنات؛ لا تصدِّقوا آباءكم حين يقولون لكم إذا عرضتم عليهم أو قدمتم لهم شيئاً "شكراً" إنما يقولونها ذوقاً وتَعفُّفاً ومراعاةً لظروفكم، وخجلاً من إتعابكم وإرهاقكم. أيها الأبناء أسعدوا آباءكم دون إذنٍ، ولا تكونوا بخلاء ولا أغبياء، ولا تحرموا أنفسكم الخير الكثير الذي يأتيكم نتيجة (البر بالأب). سامحني يا أبي فكم كنتُ غبياً!

وصدق من قال: الأب هو الرجل الوحيد في العالم الذي يأخذ من نفسه ووقته وعمره وسعادته ليعطيك كل ما تريد، قد لا يكون أعطاك كل ما تتمناه، لكن تأكد أنه أعطاك كل ما يستطيع وكل ما يملك، ولو أنّ الأماني تُعيد لنا ميتاً رحل، لقبلتُ أقدام الأماني حتىٰ يعود أبي؛ فجازوا آباءكم بالإحسان إحساناً، وكونوا بارين بهم أحياءً، وأشد براً بهم أمواتاً.

ومن مظاهر (البر بالأب) في حياته؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: [إِنَّ أَبَرَّ الْبِرِّ صِلَةُ الْوَلَدِ أَهْلَ وُدِّ أَبِيهِ]، ومن مظاهر ذلك بعد موته؛ قَالَ صلى الله عليه وسلم: [مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَصِلَ أَبَاهُ فِي قَبْرِهِ، فَلْيَصِلْ إِخْوَانَ أَبِيهِ بَعْدَهُ].

أحبتي .. هذا هو مقام الأب ومكانته في الإسلام. وكلمتي أوجهها لكل أب: كُن صالحاً يُصلح الله لك أبناءك؛ يقول تعالى: ﴿وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا﴾ صلاحك لنفسك ولأبنائك، فلا تكن معاملتك لهم سبباً في عقوقهم لك وعدم برهم بك. وكلمتي أوجهها لكل ابنٍ وبنت: عليكم ببر آبائكم واحترامهم -وإن جفوا أو قصروا- تقصيرهم لأنفسهم أما بركم فهو لكم، بروهم وأقسطوا إليهم، وأكرموهم قبل أن يأتي يومٌ تندمون فيه وتقولون يا ليت. وورد في الأثر: "برُّوا آباءَكم، تبرُّكم أبناؤكم".
اللهم سامحنا إن قصَّرنا فيما مضى، ووفقنا لبر آبائنا فيما بقي من أعمارنا وأعمارهم. اللهم احفظ الأحياء من آبائنا، وارحم الموتى منهم واجمعنا بهم في الفردوس الأعلى من الجنة يا رب العالمين.