الجمعة، 1 ديسمبر 2023

العفة وتقوى الله

 

خاطرة الجمعة /423

الجمعة 1 ديسمبر 2023م

(العفة وتقوى الله)

 

خرجت مجموعةٌ من الطالبات والمعلمات من مدرستهن بالمدينة في رحلةٍ استكشافيةٍ إلى إحدى القرى الغنية بالمعالم الأثرية. حين وصلت الحافلة التي تقلهم كانت المنطقة شبه مهجورةٍ؛ فقد كانت تتميز بانعزالها وقلة قاطنيها. نزلت الطالبات والمعلمات وبدأن بمشاهدة المعالم الأثرية، وتدوين ما يشاهدنه فكُن في بادئ الأمر يتجمعن مع بعضهن البعض للمشاهدة الجماعية، لكن بعد ساعاتٍ قليلةٍ بدأ النشاط الفردي؛ فتفرقت الطالبات، وبدأت كل واحدةٍ منهن تختار المَعلم الأثري الذي يروق لها، تقف عنده وتصفه وتسجل كتابةً ما تراه بعينيها. إحدى الفتيات كانت منهمكةً في تسجيل المعلومات عن مَعلمٍ اختارته؛ فابتعدت كثيراً عن مكان تجمع زميلاتها الطالبات، وبعد عدة ساعاتٍ ركبت الطالبات والمعلمات الحافلة في طريق العودة إلى المدرسة. لسوء الحظ؛ حسبت المعلمة المشرفة على الرحلة أن الطالبات جميعهن ركبن الحافلة. ولكن في الواقع، تلك الفتاة ظلت وحدها هناك وهي لا تدري. ذهبوا جميعاً عنها وتركوها خلفهم وهُم أيضاً لا يدرون.

حين تأخر الوقت رجعت الفتاة لترى المكان خالياً لا يوجد به أحد سواها، لم تجد زميلاتها ولا المعلمات ولا حتى الحافلة؛ فنادت بأعلى صوتها ولكن ما من مجيب. فقررت أن تمشي لتصل إلى القرية المجاورة علها تجد وسيلةً للعودة إلى مدينتها. وبعد مشيٍ طويلٍ وهي تبكي شاهدت كوخاً صغيراً مهجوراً؛ فطرقت الباب، فإذا بشابٍ في أواخر العشرين من عمره يفتح لها الباب، سألها في دهشةٍ: "من أنت؟"، فردت عليه: "أنا طالبةٌ أتيتُ مع زميلاتي بالمدرسة في رحلةٍ علمية للتعرف على الآثار في المنطقة المجاورة لكم، لكنهم تركوني وحدي ولا أعرف طريق العودة"، فقال لها: "إنك في منطقةٍ مهجورةٍ، والمدينة التي تريدين الوصول إليها في الناحية الجنوبية، ولكنك الآن في الناحية الشمالية وهنا لا يسكن أحد". عرض عليها أن تدخل وتقضي الليلة بغرفته حتى حلول الصباح ليتمكن من إيجاد وسيلةٍ تنقلها إلى مدينتها، فلم يكن في مقدورها سوى الموافقة. دخلت على استحياءٍ؛ فطلب منها أن تنام هي على سريره، وسينام هو على الأرض في طرف الغرفة، وأخذ شرشفاً وعلقه على حبلٍ ليفصل السرير عن باقي الغرفة. استلقت الفتاة على السرير وهي خائفةٌ، وغطت نفسها حتى لا يظهر منها أي شيءٍ غير عينيها، وأخذت تراقب الشاب. كان الشاب جالساً في طرف الغرفة بيده كتاب. وفجأة أغلق الكتاب وأخذ ينظر إلى الشمعة المقابلة له وبعدها وضع إصبعه الكبير على الشمعة لمدة خمس دقائق وحرقه. وكان يفعل نفس الشيء مع جميع أصابعه، والفتاة تراقبه، وهي تبكي بصمتٍ خوفاً من أن يكون جِنّياً، أو شخصاً مهوساً يُمارس أحد الطقوس الشيطانية. لم ينم أحدٌ منهما حتى الصباح، وإذ ذاك أخذها الشاب وأوصلها إلى منزلها.

حكت قصتها مع الشاب لوالديها، لكن الأب لم يُصدق القصة، خصوصاً إن البنت مرضت من شدة الخوف الذي عاشت فيه؛ فذهب الأب للشاب على أنه عابر سبيلٍ، وطلب منه أن يدله على الطريق، فشاهد الأب -وهما سائران- كلتا يديّ الشاب ملفوفتين فسأله عن السبب فقال الشاب: "لقد أتت فتاةٌ قبل ليلتين إلى كوخي، وكانت تائهةً؛ فنامت عندي حتى الصباح؛ فكان الشيطان يوسوس لي، بالاعتداء عليها، ويقول لي إنها صيدٌ سهل، لا تفوته. لكن لأنني أخاف الله أبعدتُ الفكرة فوراً من رأسي، لكن الشيطان لم يتركني في حالي؛ ظل يوسوس لي، ويُزين لي الحرام وفعل الفاحشة؛ فقررتُ أن أحرق إصبعاً واحداً من أصابع يديّ كلما اشتدت شهوتي، وكنتُ كلما أحرقتُ إصبعاً، أقبل عليّ الشيطان يوسوس من جديد. وهكذا أحرقت أصابعي العشرة واحداً تلو الآخر لتحترق الشهوة التي كان الشيطان يُزينها لي. وأحمد الله عزَّ وجلَّ أن كان مجرد التفكير بالاعتداء على الفتاة يؤلمني أكثر من ألم الحرق ما جعلني أتحمل ألم حرق أصابعي كلها بنفسٍ راضيةٍ، فالشكر لله سبحانه وتعالى أن أمدني بالقوة ومكني من التغلب على الشيطان وعلى النفس الأمارة بالسوء؛ فلم ألمس الفتاة". أُعجب والد الفتاة بالشاب ودعاه إلى منزله، وقرّر أن يزوجه ابنته، دون أن يعلم الشاب بأن تلك الابنة هي نفسها الفتاة الجميلة التائهة التي استضافها قبل يومين وحافظ عليها ولم يلمسها أو يصبها بسوءٍ؛ فبدل الظفر بها ليلةً واحدةً بالحرام فاز بها طول العمر بالحلال.

 

أحبتي في الله.. ما أجمل (العفة وتقوى الله)؛ فهي من شيم الأنقياء، وما أروعها عندما يتمسك بها شابٌ في ريعان شبابه، تجلس بالقرب منه فتاةٌ جميلةٌ، لا يفصل بينهما سوى شرشفٍ علّقه بنفسه، لا أحد معهما، ولا جار يراقبهما، لا شيء يمنع هذا الشاب من اقتراف الحرام وارتكاب كبيرةٍ من أعظم الكبائر، إلا عفته وتقواه.

 

وردت في القرآن الكريم نصوصٌ كثيرةٌ تأمر بالعفة؛ فقد أمر الله جلَّ وعلا الرجال بالعفة؛ يقول تعالى: ﴿وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾. وأمر النساء بالعفة أيضاً؛ يقول سبحانه: ﴿وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ﴾. وأثنى الله على أهل العفاف؛ يقول عزَّ وجلَّ: ﴿وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ﴾، ويقول أيضاً: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ . إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ﴾.

 

وعن فضيلة العفة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [مَن يَضْمَن لي ما بيْنَ لَحْيَيْهِ وما بيْنَ رِجْلَيْهِ، أضْمَنْ له الجَنَّةَ]. وقال عليه الصلاة والسلام: [سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ يَومَ القِيَامَةِ في ظِلِّهِ، يَومَ لا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ] وذكر منهم: [وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ إلى نَفْسِهَا، قالَ: إنِّي أَخَافُ اللَّهَ]. ولما ذكَر النبيّ صلى الله عليه وسلم أهلَ الجنة ذكر منهم: [عَفِيفٌ مُتَعَفِّفٌ]. وقال عليه الصلاة والسلام: [ثلاثةٌ حقٌّ على اللَّهِ عونُهُم: المُجاهدُ في سبيلِ اللَّهِ، والمُكاتِبُ الَّذي يريدُ الأداءَ، والنَّاكحُ الَّذي يريدُ العفافَ]. وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم: [اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالْعفافَ والْغِنَى].

 

يقول أهل العلم إن العفة خُلُقٌ إسلاميٌ رفيعٌ يشمل الجانب المادي؛ بالكفَّ عن السؤال حفاظاً على ماء الوجه، والاستغناء عمّا في أيدي الناس، والابتعاد عن الملذّات، والاكتفاء بما يسدّ حاجة الجسد بالحلال. كما يشمل الجانب المعنوي؛ بالكفَّ عن الحرام بأنواعه، وضبط النفس عن الشهوات والانحرافات، وطهارتها وتزكيتها من أهوائها وتمسّكها بالفضائل والمحاسن.

فالعِفّة هي كفُّ النفس عمّا لا يحِلّ، وضبطُها عن الشهواتِ المحرَّمة، وقصرُها على الحلال، مع القناعةِ والرِّضا. إنّه سُمُوّ النفس على الشّهواتِ الدنيئة. إنها برهانٌ على صدق الإيمان، وطهارة النفس، وحياة القلب، وهي عِزُّ الحياة وشرفها، بها تحصل النجاة من مَرارات الفاحشة، وآلام المعصية، وحسرات عذاب الآخرة.

 

والعفيف يوم القيامة في ظل الرحمن، آمنٌ من فتن ذلك اليوم العظيم، يوم يقوم الناس لرب العالمين، لأنه خاف الله جلَّ وعلا حينما دعاه داعي الشهوة فخشي الله وعفَّ عن الحرام، فأحسن الله إليه يوم الفزع الأكبر، يقول تعالى في الحديث القدسي: {وَعِزَّتِي لَا أَجْمَعُ عَلَى عَبْدِي خَوْفَيْنِ، وَلَا أَجْمَعُ لَهُ أَمْنَيْنِ، إِذَا أَمِنَنِي فِي الدُّنْيَا أَخَفْتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَإِذَا خَافَنِي فِي الدُّنْيَا أَمَّنْتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}.

 

قال الشاعر عن (العفة وتقوى الله):

عُفّوا تَعُف نِساؤكم في المَحْرَمِ

وَتَجَنَبوا ما لا يَليقُ بِمُسْلِمِ

إنَّ الزِنا دَيْنٌ إنْ اسْتَقْرَضْتَه

كانَ الوَفا مِنْ أهْلِ بَيْتِكَ فاعْلَمِ

لَوْ كُنْتَ حُراً مِنْ سُلالَةِ ماجِدٍ

ما كَنْتَ هَتَّاكاً لِحُرْمَةِ مُسْلِمِ

 

أحبتي.. أختم بما قاله أحد الأفاضل: "يا سعادة من عَفَّ، ويا فوز من كَفَّ، ويا هَنَاءَة من غضَّ الطرفَ". وقال غيره: "طوبى لمن حفظ فرجه، وصان عِرضه، وأحصن نفسه". فعلى كلٍ منا أن يلزم (العفة وتقوى الله)، وأن يُلزم بها أهل بيته، ذكوراً وإناثاً؛ فتستقيم حياتنا على شرع الله وسُنة رسوله الكريم، وينعم المجتمع بالصفاء والنقاء وصلاح الحال.

اللهم أعنا على العفة وغض البصر والقناعة بالحلال والبُعد عن الحرام وعن كل ما لا يرضيك يا رب العالمين.

https://bit.ly/3uDkAhI