الجمعة، 22 مارس 2024

محاسبة النفس

 

خاطرة الجمعة /439

الجمعة 22 مارس 2024م

(محاسبة النفس)

في ذات يومٍ قام صبيٌ صغيرٌ بالذهاب إلى متجرٍ به هاتفٌ أرضي، كان الصبي الصغير قصيراً لكن تبدو عليه ملامح الذكاء والاجتهاد، وضع كرسياً من أجل الوصول إلى الهاتف، ثم أخرج من جيب بنطاله منديلاً لفه حول سماعة الهاتف، وقام بالاتصال لترد عليه سيدةٌ. كل هذا وصاحب المتجر يُتابع المكالمة باهتمامٍ شديد. تحدث الصبي إلى المرأة وطلب منها العمل بحديقتها، لكن من الواضح أن المرأة رفضت طلبه، ويبدو أنها قالت إن لديها شخصٌ يقوم بذلك؛ حيث قال الطفل إنه مستعدٌ للقيام بهذه المهمة بنصف الأجر الذي يتقاضاه ذلك الشخص، ويبدو أن السيدة رفضت هذا العرض أيضاً، إذ رّد عليها الصبي بأنه سيقوم بتنظيف السيارة ويحرس البوابة إضافةً للعمل بالحديقة، وواضحٌ كذلك أن المرأة رفضت عرضه الأخير؛ حيث أغلق الصبي الهاتف، ومع ذلك كانت تبدو على وجهه علامات الارتياح. فوجئ صاحب المتجر -الذي كان يتابع المكالمة- من تقبل الصبي رفض عروضه للعمل لدى المرأة بصدر رحبٍ حتى أن علامات السرور كانت تبدو جليةً على وجهه؛ فقال للصبي: "من أجل رغبتك في العمل وهمتك فإني أريدك أن تعمل لديّ في هذا المتجر"، شكره الصبي وقال له: "إنني أعمل بالفعل لدى هذه السيدة، ولكنني كنتُ أختبر مدى رضاها عني"، قال هذا وانصرف تاركاً الرجل صاحب المتجر في حالة دهشةٍ منه على أمانته وفطنته.

 

أحبتي في الله.. يقول أهل العلم إن الله عزَّ وجلَّ حثّ أهل الإيمان على (محاسبة النفس)، والتأمل فيما قدموه لأُخراهم؛ يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾. قال المفسرون لهذه الآية الكريمة: إن على المسلم أن يُراجع نفسه دائماً، ويتأمل صحيفة أعماله؛ لينظر ماذا قدّم لغده، وهذا التأمل كفيلٌ بأن يوقظه إلى مواضع ضعفٍ ومواضع نقصٍ ومواضع تقصيرٍ، مهما يكن قد أسلف من خيرٍ وبذَلَ من جهدٍ، فكيف إذا كان رصيده من الخير قليلاً ورصيده من البر ضئيلاً؟! ويقول تعالى: ﴿لَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ﴾، قال المفسرون: ليس من نفسٍ برةٍ ولا فاجرةٍ إلا وهي تلوم نفسها، إن كانت عملت خيراً قالت: هلّا ازددتُ، وإن عملت شراً قالت: ليتني لم أفعل. ويقول تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ﴾، وهذا وصفٌ للمؤمنين الذين يُحاسبون أنفسهم عند الزلة والتقصير فيرجعون عما كانوا عليه.

 

وعن (محاسبة النفس) رُويَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: [الكَيِّسُ مَن دان نفسَه وعمِل لما بعدَ الموتِ، والعاجِزُ مَن أتبَع نفسَه هَواها وتمنَّى على اللهِ الأمانِيَّ]، قال شُراح الحديث: معنى قوله: [مَن دان نفسَه] أي حاسب نفسه في الدنيا قبل أن يُحاسب يوم القيامة.

 

ورُويَ عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: "حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا، وَزِنُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُوزَنُوا، وَإِنَّمَا يَخِفُّ الحِسَابُ يَوْمَ القِيَامَةِ عَلَى مَنْ حَاسَبَ نَفْسَهُ فِي الدُّنْيَا، وَتَزَيَّنُوا لِلْعَرْضِ الأَكْبَرِ ﴿يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ﴾.

 

قال أحد الدُعاة: "لا يكون العبد تقياً حتى يكون لنفسه أشد محاسبةً من الشريك لشريكه؛ ولهذا قيل: النفس كالشريك الخوَّان؛ إن لم تُحاسبه ذهب بمالك".

وقال غيره: "يجب أن ندرك مغبة المخالفة وعاقبة الطاعة، وأن الكلمة والموقف، والعمل والترك؛ كل هذا له عاقبته وحسابه بين يديّ رب العالمين.

إن الأمر عظيم الشأن، جاد المأخذ؛ قد قامت له الدنيا وخُلقت من أجله؛ فلم نأتِ للعبٍ ولا للعبث. ومن لم يُدرك هذا اليوم أدركه غداً عندما ينكشف الغطاء ويُعاين الغيب؛ ولهذا فالعقل والحزم أن نُدرك هذا وقت نفع الإدراك وإمكان الاستعتاب والإصلاح وتغيير الحال".

وقال ثالثٌ: "إن العبد لا يزال بخيرٍ ما كان له واعظٌ من نفسه، وكانت المحاسبة من همته".

 

وعن (محاسبة النفس) قال الشاعر:

إنا لنفرحُ بالأيامِ نقطعها

وكلُ يومٍ مضى يُدني من الأجلِ

فاعملْ لنفسكَ قبلَ الموتِ مُجتهداً

فإنما الربحُ والخسرانُ في العملِ

وقال آخر:

وَالنَّفْسُ كَالطِّفْلِ إِنْ تُهْمِلْهُ شَبَّ عَلَى

حُبِّ الرَّضَاعِ وَإِنْ تَفْطِمْهُ يَنْفَطِمِ

وَخَالِفِ النَّفْسَ وَالشَّيْطَانَ وَاعْصِهِمَا

وَإِنْ هُمَا مَحَّضَاكَ النُّصْحَ فَاتَّهِمِ

 

أحبتي.. يقول تعالى: ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا﴾ فلنُكثر من أعمال الخير والأعمال الصالحة، ولنُقلل إلى الحد الأدنى الممكن من المعاصي والخطايا والسيئات، وإذا فعلنا شيئاً منها فلنُبادر بالتوبة وطلب المغفرة.

أختم بما قاله أحد العارفين: "تعاهدْ نفسك في ثلاثة مواضع: إذا عملتَ فاذكر نظَرَ الله تعالى عليك، وإذا تكلمتَ فانظر سمْع الله منك، وإذا سكتَّ فانظر علم الله فيك".

اللهم أعنّا الله على (محاسبة النفس) ومحاربة هواها، وحبّب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكَرِّه إلينا الكُفر والفسوق والعصيان.

 

https://bit.ly/4crP2fZ