الجمعة، 12 فبراير 2021

الإخلاص في الدعاء

 خاطرة الجمعة /278


الجمعة 12 فبراير 2021م

(الإخلاص في الدعاء)

 

تقول امرأة: مرضت ابنتي في إحدى الليالي مرضاً شديداً، وتمنيتُ لو أُحضر لها الطبيب أو أنقلها للمشفى، ولكن لم أكن أملك من المال حتى أجرة الطريق، فنحن عائلةٌ فقيرةٌ بالكاد نملك قوت يومنا، ونحن لا نمد أيدينا للناس، وإنما نطلب من رب الناس، ففي تلك الليلة أُغلقت في وجهي كل الأبواب، وبدأت حالة ابنتي الصحية تتدهور، فما وجدتُ أمامي إلا باب الله فطرقته، وأخلصتُ في هذه الساعة الدعاء، وطلبتُ منه سبحانه وتعالى أن يجعل لي من أمري هذا مخرجاً. واللهِ ما إن أنهيتُ صلاتي إلا وسمعتُ باب البيت يُطرق، فاستغربت!! من سيأتي لعندنا في هذه الساعة المتأخرة، فقلتُ: "من"؟! قال: "أنا الطبيب؛ افتحي"، فتحتُ الباب وأنا مستغربة، قال لي: "أين الفتاة المريضة"؟ فأجبته: "بالداخل تفضل"، وكنتُ مستغربةً كيف عرف أن ابنتي مريضة!! فحصها وأعطاها حقنةً وكتب لها وصفةً طبيةً، وقال: "احضروا لها هذا الدواء"، شكرته، ولكنه ظل واقفاً، قال لي: "أجرة الكشف لو سمحتِ"، أجبته: "أنا لا أملك مالاً"؛ فغضب وقال: "بما أنك لا تملكين المال فلِمَ أيقظتيني وجعلتيني آتي لعلاج ابنتك"؟! فأجبته بسرعةٍ: "أنا لم أتصل بك، ونحن لا يوجد عندنا هاتفٌ في بيتنا"، فقال الطبيب: "أليس هذا بيت أبو فلان"!؟ فأجبته: "لا، هم البيت الذي يلي بيتنا"، فاستعجب الطبيب للذي حصل وقال لي: "الله هو الذي أحضرني لعلاج ابنتك"، وأخذ مني الوصفة، وقال لي أنه سيعود بعد قليل، تركنا لدقائق وعاد وقد أحضر الدواء لابنتي، وقبل أن يُغادر أعطاني مبلغاً من المال وقال: "سآتي صباحاً لأطمئن على صحة الصغيرة"، وذهب، هنا استشعرتُ عظمة الله سبحانه وتعالى، وكم هو سريع الإجابة والعطاء والرحمة.

 

أحبتي في الله .. كان هذا من أجل إخلاص تلك المرأة في دعائها لله عزَّ وجل.

يقول أهل العلم إن الدُعاء هو عبادةٌ وصِلةٌ بين العبد ورب العالمين، كما أنّه وسيلةٌ لقضاء حاجات الإنسان في الدنيا، والتضرّع لله تعالى ليغفر له في الآخرة ويجعله من أهل الجنة؛ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: [إِنَّ الدُّعَاءَ هُوَ الْعِبَادَةُ] ثُمَّ قَرَأَ: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾.

أما الإخلاص فهو خلوص العمل من الشوائب.

ومعنى (الإخلاص في الدعاء) خلوص الدعاء من الشوائب؛ بعدم التفات القلب أثناء الدعاء إلى غير المدعوّ وهو الله تعالى، فإذا ما توفر الإخلاص وطهر الدعاء من الشوائب فسوف يكون مشمولاً بقوله تعالى: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾.

وقد ورد عن سيدنا عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه قوله: "وخير الدعاء ما صَدَرَ عن صَدْرٍ نقيٍ وقلبٍ تقيٍ، وفي المناجاة سبب النجاة، وبالإخلاص يكون الخلاص، فإذا اشتد الفزع فإلى الله المفزع". والإخلاص وليد الحبّ، فلا إخلاص لمن لا حُبَّ له، فمن عرف الله تعالى أحبّ اللهَ، ومن أحبَّهُ أخلص له.

والإخلاص ليس أمراً مُكِّملا للدعاء، وإنّما هو شرطٌ أساسيٌ في صحّتِهِ وقبوله، بل لا يُتصّورُ الدعاءُ بدون إخلاصٍ، لأنّ حقيقةَ الدعاءِ تكمنُ في النيّةِ، وحقيقةَ النيّة تكمنُ في الإخلاص؛ قالَ اللَّهُ تَبارَكَ وتَعالَى: [أنا أغْنَى الشُّرَكاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَن عَمِلَ عَمَلًا أشْرَكَ فيه مَعِي غيرِي، تَرَكْتُهُ وشِرْكَهُ]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: [لَا يَقْبَلُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَمَلًا فِيهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ رِيَاءٍ].

وإذا كان الدعاءُ كما ورد في الأثر هو "مُخّ العبادةِ" فإنَّ الإخلاص هو مُخُّ الدعاء.

والدعاء عبادةٌ يُقصَد فيها المعبودُ وحده لا غير حتى يكون العبد مُستحقّاً للأجر، أمّا من قصد بدعائه غير الله سبحانه وتعالى فإنّه لا يكون مُستحقّاً للثواب والأجر، بل ويكون مُستحقّاً للعقوبة، لأنه يكون قد وقع في براثن الشرك الأكبر، والعياذ بالله.

 

إن (الإخلاص في الدعاء)، هو مفتاح الفرج لكل من ضاقت به الحال، واشتد كربه؛ فهذا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم -وقد تعرض لأذىً شديدٍ من المشركين بالطائف- يدعو ربه بإخلاص ويقول: [اللَّهمَّ إليك أشكو ضَعْف قوَّتي، وقلَّة حيلتي، وهواني على النَّاس، يا أرحم الرَّاحمين، أنتَ ربُّ المستضعفين وأنت ربِّي، إلى من تَكِلُني؟ إلى بعيدٍ يتجهَّمني؟ أم إلى عدوٍّ ملَّكْتَه أمري؟ إن لم يكن بك عليَّ غضبٌ فلا أبالي، ولكنَّ عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الَّذي أشرقَتْ له الظُّلمات، وصلحَ عليه أمر الدُّنيا والآخرة مِن أن تُنْزِل بي غضبك، أو يحلَّ عليَّ سخطك، لك العُتْبَى حتَّى ترضى، ولا حول ولا قوَّة إلا بك].

ولَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ نَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ أَلْفٌ وَأَصْحَابُهُ ثَلَاثُ مِائَةٍ وَتِسْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا؛ فَاسْتَقْبَلَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقِبْلَةَ ثُمَّ مَدَّ يَدَيْهِ فَجَعَلَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ: [اللَّهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ آتِ مَا وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ لَا تُعْبَدْ فِي الْأَرْضِ]، فَمَا زَالَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ مَادًّا يَدَيْهِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ مَنْكِبَيْهِ فَأَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ فَأَخَذَ رِدَاءَهُ فَأَلْقَاهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ ثُمَّ الْتَزَمَهُ مِنْ وَرَائِهِ وَقَالَ: "يَا نَبِيَّ اللَّهِ كَفَاكَ مُنَاشَدَتُكَ رَبَّكَ؛ فَإِنَّهُ سَيُنْجِزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ"، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ﴾. وفي روايةٍ أنه -عليه الصلاة والسلام- قال: [اللَّهُمَّ هَذِهِ قُرَيْش قَدْ أَتَتْ بِخُيَلَائِهَا وَفَخْرهَا، تُجَادِل وَتُكَذِّب رَسُولك، اللَّهُمَّ فَنَصْرك الَّذِي وَعَدَّتْنِي].

وهذا سيدنا يونس عليه السلام عندما ابتلعه الحوت ونزل به في ظلمات البحر؛ دعا الله بإخلاص فقال: ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ فاستجاب الله له؛ يقول تعالى: ﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾، لقد كانت الاستجابة سريعةً وفوريةً عقب الدعاء مباشرةً؛ فحرف الفاء في كلمة ﴿فَاسْتَجَبْنَا﴾ يُشير في اللغة إلى الترتيب والتعقيب.

يقول أحد العلماء إن الإخلاص في العبادة لا بدّ أن يؤدي إلى (الإخلاص في الدعاء)، وهذا ما أمرنا الله به في قوله: ﴿فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾؛ فنحن عندما ندعو الله يجب أن يكون دعاؤنا له هو فقط.

وهناك مِن الناس مَن يدعون الله بإخلاصٍ في المواقف الصعبة؛ فيستجيب لهم برحمته ويُنجيهم، ثم إذا بعضهم مقتصدٌ وبعضهم جاحدٌ يكفر بنعمة الله؛ يقول تعالى: ﴿وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ﴾، وهكذا يفعل -للأسف- كثيرٌ من الطلاب وقت الامتحانات، وكثيرٌ من الناس وقت المرض أو الشدة أو الابتلاء، يدعون الله سبحانه وتعالى بإخلاص، يواظبون على الصلاة في المساجد، وتراهم في الصفوف الأولى، ثم بعد أن يستجيب الله لدعائهم إذا هم يعودون إلى ما كانوا عليه بُعداً عن المولى عزَّ وجلَّ وعن بيوته.

 

والله يُحب أن يُسأل، لأن السائل يعرف أن لا رب سوى الله، وأنه هو الواحد الأحد الفرد الصمد، الذي يسمعه حين يدعو ويستجيب له، وهو وحده القادر على نفعه وضره. وهو سبحانه يحب التضرع إليه وسؤاله والدعاء له؛ يقول أحد الصالحين: "وأَحَبُ خلق الله إليه أكثرهم وأفضلهم له سؤالاً، وهو يحب الملحين في الدعاء، وكلما ألح العبد عليه في السؤال، أحبه وقربه وأعطاه".

ويقول الشاعر:

لا تَسْأَلَنَّ بَنِي آَدَمَ حَاجَةً

وَسَلِ الَّذِي أَبْوَابُهُ لا تُغْلَقُ

اللَّهُ يَغْضَبُ إِنْ تَرَكْتَ سُؤَالَهُ

وَبُنَيَّ آدَمَ حِينَ يُسْأَلُ يَغْضَبُ

 

أحبتي .. كم منا مَن هو قليل الدعاء؟ وإذا دعا الله سبحانه وتعالى فهو يدعو بلسانه فقط وقلبه مشغولٌ بغير الدعاء؟ وكم منا مَن يدعو الله بكلماتٍ محفوظةٍ يرددها وهو لا يفهم معنى بعضها؟ وكم منا مَن يُكثر الدعاء في أوقات الشدة ثم يكون قليل الدعاء وقت الرخاء؟

كلنا -إلا مَن رحم ربي- ينشغل بالدنيا فتأخذه بعيداً عن مناجاة ربه والتوجه إليه بالدعاء بخشوعٍ وتذللٍ وإلحاحٍ وإخلاص.

اللهم ارزقنا (الإخلاص في الدعاء) واستجب لدعائنا، بما فيه مصلحةٌ لنا؛ في ديننا ومعاشنا، في عاجل أمرنا وآجله، واقدر لنا الخير، أينما كان، وحيثما كان، ويسره لنا، ثم رضنا به، وبارك لنا فيه.

https://bit.ly/3adQPY8