الجمعة، 4 يونيو 2021

قصة قارون

 

خاطرة الجمعة /294


الجمعة 4 يونيو 2021م

(قصة قارون)

 

قصةٌ حقيقيةٌ رواها أحد الدعاة، وكان يتولى رئاسة لجنة الزكاة بالمملكة العربية السعودية، قال إن اللجنة كانت تُحصل الزكاة من كبار الأغنياء وتنفقها كالعادة على الفقراء والمستحقين للزكاة في مصارفها المحددة. فوجئنا بأن مليارديراً كانت تُحصل منه اللجنة مبلغاً بملايين الريالات رفض دفع الزكاة، وقال للجنة إنه لن يدفع زكاة ماله، فأرسلنا إليه محذرين بالحكمة والموعظة الحسنة، وقلنا له ما الذي جرى لك؟ إن الشيطان ينزغ بينك وبين عملك الصالح فلا تستمع لصوت الشيطان، أنت تؤدي زكاواتك على الدوام فزادك الله نعيماً فوق نعيمٍ فلا تُهلك نفسك بنفسك، فرفض مرةً بعد مرةٍ، واستخسر أن يُفرط في الملايين التي كان يدفعها، فزدنا في نصحه ولكنه قال: "لن أدفع، ولا يقل لي أحدٌ إن المال سيضيع وسينتهي؛ فأنا معي مالٌ لو أراد الله أن يُفقرني فلن يستطيع"! وهنا تركوه ولم يتحدثوا معه ثانيةً.

‏تدور الأيام وبعد شهور قليلةٍ فقط يمرض ذلك الملياردير ويدخل المستشفى مصاباً بسخونةٍ، تتوقف درجة حرارته عند أربعين درجة، ويحتار الأطباء في أمره، حاولوا معه كل الحيل والحرارة لا تنزل أبداً وهو يتوجع؛ فأحضروا له أطباء من الخارج أجروا له عملية استئصالٍ لورمٍ بجانب المرارة، ولم يحدث له أي تقدم؛ فاستقدمت المستشفى أطباء آخرين، ومع ذلك لم تتحسن حالته، وتحملت المستشفى التكاليف والنفقات الباهظة انتظاراً للتحصيل من الملياردير في النهاية ثقةً منها في قدرته على السداد.

تعطلت أعمال الملياردير وشركاته؛ فاتصل مدير أعماله بنجله الشاب -الذي كان قد تزوج من أمريكيةٍ وهاجر معها إلى الولايات المتحدة- ليحضر مرض أبيه، فجاء الشاب ورافق أباه لمدة أسبوعين، وقام الأب بعمل توكيلٍ عامٍ للابن لإدارة أعماله، وبعد شهرٍ واحدٍ أصاب الضجر الابن وحضرت زوجته الأمريكية للسعودية بطفليها، واتفق الابن وزوجته على أن يبيعا جميع ممتلكات الأب ويعودا من حيث أتوا، ظناً منهم بأن مسألة موت الأب مسألة وقتٍ؛ فقام الابن ببيع جميع ممتلكات أبيه من شركاتٍ ومصانع واستولى على أرصدته بالبنوك وعاد إلى الولايات المتحدة مرةً أخرى، وبمجرد أن حدث ذلك فوجئ أطباء المستشفى بشفاء الملياردير وكأنه لم يمرض للحظة! وطالبته إدارة المستشفى بفاتورةٍ طويلةٍ كان الابن قد سافر دون أن يُسددها، واكتشف الرجل بأنه قد أصبح خالي الوفاض من أي مالٍ، بل وأصبح مديوناً؛ فاتصل بنجله ففوجئ به يسأله: "هل ما زلتَ حياً"؟ وأغلق الهاتف في وجهه وانقطعت العلاقة بينهما. ظل الرجل يبكي بكاءً مريراً وانتبه لحاله وتذكر قولته التي قالها، واتصل بأحد شيوخ اللجنة فجاءه في المستشفى وعلم ما حدث له ودعاه للتوبة من كلام الكفر الذي قاله وقال: "دعك الآن من مالك الذي ضاع، واسجد لله شكراً أن منحك فرصةً للتوبة". وقامت لجنة الزكاة بدفع فاتورة المستشفى بعد أن خفضتها إدارة المستشفى لتناسب حالة الفقير الجديد الخارج تواً من رحلته كملياردير في هذه الحياة المتقلبة!

 

أحبتي في الله .. كثيرون للأسف يكررون (قصة قارون) يغترون بأموالهم وثرواتهم وأملاكهم، ويظنون أنها آلت إليهم عن علمٍ أو ذكاءٍ أو شطارة، ويُزين لهم الشيطان أعمالهم، فيمتنعون عن أداء حق الله في المال الذي رزقهم إياه، والثروة التي مكنهم منها، والأملاك التي أنعم بها عليهم.

 

كنتُ منذ فترةٍ كتبت خاطرةً تحت عنوان فتنة المال عن أغنى رجلٍ عربيٍ على الإطلاق، كان يُلقب بقارون العصر؛ اشتهت ابنته ذات يومٍ آيس كريم من باريس، وشوكولاتة من جنيف، فأقلعت طائرته الخاصة بكامل طاقمها في رحلةٍ لمدة سبع ساعاتٍ لجلب الآيس كريم والشوكولاتة! ومع كل هذه الأموال الطائلة فإنه كان يستنكف أن يساعد محتاجاً، بل ويبخل حتى على عُمّاله وخدمه المحتاجين. أفلس في آخر عمره إفلاساً عجيباً. ويُقال إن رجلاً مغترباً كان يعمل خادماً عنده احتاج مبلغاً من المال ليرسله لأهله في بلاده لعلاج زوجته المريضة؛ فذهب وطلب المبلغ من الملياردير كمساعدةٍ أو قرضٍ يتم تقسيطه من راتبه الشهري، فوبّخهُ الملياردير وأذلهُ، وطرده من قصره ليلاً شرّ طردة؛ فقال له الخادم مقهوراً: "أسأل الله العلي العظيم ألا يُميتني حتى أراك ذليلاً تمدّ يدك للناس"، فغضب الملياردير من هذه الدعوة وقام بفصل العامل وأنهى عمله. ولما افتقر هذا الملياردير قيّض الله له أحد رجال الأعمال الكبار في بلده فاشترى له تذكرةً سياحيةً للسفر إلى بلدٍ آخر، وأعطاه مبلغاً من المال لاستئجار شقةٍ، وقال له: "أنا لم أتفضل عليك، ولكن الله أمرني أن أدفع لك، وكل شهرٍ سيأتيك مصروفك مني محولاً على البنك". قال قارون العصر: "قبل سفري ذهبتُ إلى رجل الأعمال لاستلام المال الذي وعدني به، فاتصل بأحد العاملين لديه ليحضر لي المال؛ فكانت أسوأ لحظةٍ عشتها في حياتي عندما دخل العامل الذي أعطاني المال؛ فإذا هو خادمي الذي طردته وفصلته من العمل وقف ينظر إليّ مذهولاً مفزوعاً عندما رآني، وكأنه لا يصدّق ما يرى، ورأيته خرج وعيناه مبللةٌ بالدموع".

 

إنها (قصة قارون) تتكرر، رغم أن الله سبحانه وتعالى أوردها في كتابه الكريم ليست كقصةٍ تُروى للتسلية، وإنما لكي نتعظ منها ونتعلم ونستخلص العبر.

ويتكرر مع كل قصةٍ خسفٌ ليس كالخسف بقارون، بل ربما أشد؛ فهو خسفٌ نفسيٌ؛ عذابٌ أليمٌ موجعٌ بالذل والخزي والمهانة، والإحساس المستمر بالحسرة والندامة، حتى أن صاحبه يتمنى الموت ولو بالخسف ولا يُدركه!

 

وعن المال في الإسلام يرى أهل العلم أن المال من نِعم اللَّه العظيمة على عباده؛ يقول تعالى: ﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾، ويقول تعالى: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾. والمال إما أن يُستخدم في الخير أو الشر؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ﴾، وهو من الفتن العظيمة التي يُبتلى بها المؤمن، والقليل من الناس من يصبر عليها؛ قال النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: [إِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ فِتْنَةً، وَإِنَّ فِتْنَةَ أُمَّتِي الْمَالُ]. والعبد يُسأل عن ماله يوم القيامة ماذا عمل فيه؛ قال النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: [لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ: عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَ فَعَلَ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَا أَنْفَقَهُ، وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَا أَبْلَاهُ]. وقد جُبِلَت النفوس على حب المال؛ يقول تعالى: ﴿وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا﴾، وقال النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: [لَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ وَادِيَانِ مِنْ مَالٍ لَابْتَغَى ثَالِثًا، وَلَا يَمْلَأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ]. وقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: [لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ وَلَكِنَّ الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ] والعَرَض هو متاع الدنيا؛ فالغنى المحمود هو غنى النفس وشبعها لا كثرة المال.

قال الشاعر:

النفسُ تَجْزَعُ أَنْ تَكُونَ فَقِيرَةً

والفَقْرُ خَيْرٌ مِن غِنىً يُطغِيهَا

وَغِنَى النُّفُوسِ هُوَ الكفافُ فإنْ أَبَتْ

فَجَمِيعُ ما فِي الأرضِ لا يَكْفِيهَا

وهذا المال إن لم يستخدمه صاحبه في طاعة اللَّه وينفقه في سبيله، كان وبالاً وحسرة عليه؛ يقول تعالى: ﴿فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُون﴾، ويقول تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُون﴾، وقال النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: [اثْنَتَانِ يَكْرَهُهُمَا ابْنُ آدَمَ: الْمَوْتُ، وَالْمَوْتُ خَيْرٌ لِلْمُؤْمِنِ مِنَ الْفِتْنَةِ، وَيَكْرَهُ قِلَّةَ الْمَالِ، وَقِلَّةُ الْمَالِ أَقَلُّ لِلْحِسَابِ]. وقد أخبر صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن البركة إنما تحل في هذا المال، إذا أخذه صاحبه بطيب نفسٍ من غير شَرَهٍ ولا إلحاح؛ قال عليه الصلاة والسلام: [... إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ، كَالَّذِي يَأكُلُ وَلَا يَشْبَعُ]. وقد أخبر عزَّ وجلَّ أن المال عَرَضٌ زائلٌ ومتاعٌ مُفارَقٌ، يقول تعالى: ﴿اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلاَدِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُور﴾، وقال النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: [يَتْبَعُ الْمَيِّتَ ثَلَاثَةٌ، فَيَرْجِعُ اثْنَانِ وَيَبْقَى مَعَهُ وَاحِدٌ: يَتْبَعُهُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَعَمَلُهُ، فَيَرْجِعُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ، وَيَبْقَى عَمَلُهُ]. وبعض الناس يظن أنّ مَن رُزق مالاً كثيراً، فإنه قد وُفِّق، وهو دليلٌ على محبة اللَّه له، والأمر ليس كذلك، فإن الدنيا يعطيها اللَّه من يحب ومن لا يحب؛ يقول تعالى: ﴿أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِين . نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لاَّ يَشْعُرُون﴾، ويقول تعالى: ﴿فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاَهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَن . وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاَهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَن . كَلاَّ﴾.

 

أحبتي .. فليحذر كلٌ منا أن يُزين له الشيطان أنه أُوتي ماله عن علمٍ أو شطارةٍ أو ذكاء، ولنعلم أن المال مال الله يؤتيه من يشاء من عباده بفضلٍ منه، وينظر ماذا نحن فاعلون؛ فلنحرص على اكتساب المال من حلالٍ وإرجاع الفضل لله وحده، وإنفاق المال في حلالٍ؛ بالوفاء بحق الله فيه وحقوق العباد خاصةً منهم الفقراء والمساكين، والبعد عن المعاملات المالية المحرمة: كالربا، والغش، وأكل أموال الناس بالباطل وغيرها؛ لنكون من الفائزين. ولنقاوم نزغات الشيطان ووسوسته وتزيينه، ونقهر هوى النفس، وإلا صار مَن ضَعُف وخضع لشيطانه وهوى نفسه ممن يكررون (قصة قارون) والعياذ بالله.

اللهم ثبِّتنا على طاعتك، وزِد إيماننا، وأعِنَّا على مغالبة الهوى، ولا تَدَعْنا لأنفسنا، واهدنا سواء السبيل.

 

https://bit.ly/3pmGeAf