الجمعة، 25 ديسمبر 2020

إِلْف النعم

 

خاطرة الجمعة /271


الجمعة 25 ديسمبر 2020م

(إِلْف النعم)

 

حكى لي أحد أقاربي -وكان يشغل منصباً عسكرياً كبيراً- فقال: كنتُ أتردد على موسكو زمن الاتحاد السوڤييتي للتدريب وكنتُ أجيد اللغة الروسية، وكان امتلاك مصحفٍ في ذلك الزمن جُرماً يُعاقَب عليه المسلم بالإعدام، كما كان يُمنع دخول المصحف مع المسافرين القادمين من الخارج إلا إذا كان للاستعمال الشخصي، ويُسجَل على جواز السفر لضمان أن يرجع مع صاحبه، لكني بحكم منصبي العسكري كنتُ آخذ معي عدة مصاحف أغلفها بورقٍ على أنها قواميس لغةٍ وأموهها.

في أحد الأيام دخلتُ إلى أحد الأسواق بموسكو فرأيتُ رجلاً، يبدو من شكله أنه قوقازيٌ بلحيته الخفيفة الطويلة، وواضحٌ أنه فلاحٌ بسيطٌ يبيع الملفوف "الكرمب"، فشعرتُ بانجذابٍ كبيرٍ للحديث معه! ولما جلستُ قبالته قلتُ: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته؛ فتلفتْ الرجل يميناً وشمالاً ثم رد السلام بخوفٍ وحذرٍ ممزوجان بفرحٍ وسعادةٍ ما رأيتها في وجه غيره! سألني: هل أنت مسلم؟ قلتُ: نعم، وسألته: هل عندك قرآن؟ فتعوَّذ وبسمَّل ثم قرأ بخشوعٍ سورة الإخلاص والمعوذتين! قلتُ له: أقصد هل لديك مصحف؟ قال: لا، ثم سألني: هل عندك أنت؟ قلتُ: نعم، حجم وسط، وأخرجتُ المصحف من جيبي؛ فأشار إليّ أن خبئه! ثم مد يده إلى إحدى ثمرات الملفوف الكبيرة وضربها بأصابع يده بحركةٍ تشبه حركات الكاراتيه ففتح فيها حفرةً عميقةً ثم حسَّنها بالسكين، وأخذ المصحف وأدخله فيها ثم سد الفتحة بأوراقها وغطاها بثيابه! قلتُ: عندي عدد كذا، قال: موعدنا غداً بإذن الله! في اليوم التالي أحضرتُ المصاحف، ووجدتُ بجانب الرجل -بعدد المصاحف- رجالٌ أمام كل واحدٍ منهم ملفوفةٌ منقورةٌ؛ فأخذوا مني المصاحف وخبأوها في الملفوف وهم يشكرونني، ولا يعلم إلا الله عزَّ وجلَّ مدى سعادتهم.

بكيتُ كثيراً وحمدتُ الله ورجوته أن يبارك لي في أجرها، ثم صرتُ أحضر له مصاحف من الحجم الكبير في كل مرةٍ أحضر فيها. اللهم لك الحمد على كل نعمك وآلائك.

 

أحبتي في الله .. هل استشعرتم النعمة التي تعيشون فيها؟ معكم مصاحفكم تحملونها في كل مكانٍ دون خوف، وتقرأون فيها علانيةً في وسائل النقل العام بغير وَجَل!

للأسف؛ لأننا ألفنا وجود المصحف معنا دون أية مشاكل، فقدنا الإحساس بأن مجرد وجوده معنا نعمةٌ كبيرةٌ تستوجب الشكر لله سبحانه وتعالى، على الأقل في كل مرةٍ نخرج فيها مصحفنا من جيبنا أو حقيبتنا ونحن آمنون من أي عقابٍ؛ لا نخاف حكماً بالإعدام!

لماذا لا نشكر الله سبحانه وتعالى على هذه النعمة؟ لأننا -ببساطة- ألفناها وتعودنا عليها، حتى صارت أمراً اعتيادياً مألوفاً، وهكذا الحال مع كثيرٍ من نعم المولى عزَّ وجلَّ؛ توالي الليل والنهار على سبيل المثال، يكاد كثيرٌ من الناس لا يُحسون بأن ذلك نعمةٌ من الله تستوجب الشكر، مع مطلع الشمس كل يومٍ ومع غروبها، لا لسببٍ إلا (إلف النعم) والتعود عليها؛ يقول تعالى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاء أَفَلا تَسْمَعُونَ . قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ﴾.

وكذلك الحال مع العديد من النعم الربانية؛ كتغير الفصول، وهطول المطر، وزراعة الأرض، وهبوب الريح، ووجود السماء والهواء والبحار والأنهار والأنعام المسخرة للإنسان، وغير ذلك كثيرٌ وكثيرٌ وكثيرٌ؛ يقول تعالى: ﴿وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا﴾. ألفنا وجود هذه النعم لاستمرارها وتكرارها وانتظامها، حتى كدنا لا نستشعر أنها نعمٌ تستوجب الشكر حتى تدوم، فبالشكر تدوم النعم.

 

يقول العلماء إن (إِلْف النعم) آفةٌ خطيرةٌ تصيب الناس؛ فالإنسان قد يألف النعمة التي أنعمها الله تعالى عليه بحيث لا يعود يشعر بها ولا يؤدي حقها وهو شكر الله تعالى وحمده على نعمه. كما فعل كفّار قريش الذين ألفوا رحلتا الشتاء والصيف وغاب عنهم أن الله هو الذي سهّل لهم هاتين الرحلتين ومهّد الطريق ووفّر التجارة وأنعم عليهم بنعمة الأمن وعدم الجوع والفقر؛ يقول تعالى: ﴿لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ . إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ﴾.

 

إن (إِلْف النعم) وتعوّدها مرضٌ خفيٌ إذا أصابنا أفقدنا بركة القليل وزيادة الكثير، والضمان والكفيل لحفظ هذه النعم وزيادتها إنما هو شكرها؛ يقول تعالى: ﴿لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ﴾، والشكر يتجاوز النطق باللسان فكم من شاكرٍ لسانه ومنطق قلبه وحاله في نكرانٍ وجحود، بل يتجاوز الأمر ذلك ليبلغ المرء مرحلة من العتو والبطر والجحود ألا يستشعر أساساً بالنعم التي أمده الله بها ابتداءً، وما ذلك إلا لأنها صارت جزءاً روتينياً في حياته اعتادها ومن شدة اعتيادها فَقَدَ الشعور بوجودها.

أعجبني قول أحدهم: إن اعتيادنا على النعم وملازمتها لنا بشكلٍ دائمٍ أوقعنا في إشكالين؛ الأول: أننا ألفنا هذه النعم وصارت جزءاً أصيلاً من حياتنا لشدة اعتيادنا عليها وملازمتها لنا ملازمة جلودنا لأجسامنا وأنفاسنا لصدورنا وكأننا أوتينا ميثاقاً غليظاً على دوامها، فما تألفه وتعتاد عليه عادةً يؤدي إلى الغفلة عن عظيم الفضل علينا، فلا نتذكره إلا بفقدانه ومكابدة الحياة بغيابه، وقتها ندرك الهوة والفرق بين وجوده وعدمه. الإشكال الثاني: أننا بتنا نشعر باستحقاقنا لهذه النعم وكأنه حقٌ لنا نكتسبه من الله سبحانه وتعالى لا تفضلاً ومَنّاً منه تعالى علينا ابتداءً، وهذا يؤدي إلى البطر وعدم الشكر والنكران والجحود، بل وعدم استخدام هذه النعم في الوجهة الصحيحة وفق مراد الله تعالى.

ولنا في رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم أسوةٌ حسنةٌ؛ فها هو يداوم على حمد الله على نعمةٍ تتجدد كل يومٍ فيقول وقت الاستيقاظ من النوم: [الحَمْدُ لله الذِي أحْيَانا بَعْدَمَا أمَاتَنَا، وإلَيْهِ النَشُور]، ويقول: [الحَمْدُ لله الذِي عَافَانِي في جَسَدِي ورَدَّ عَلَيَّ رُوحِي وأَذِنَ لي بِذِكْرهِ].

 

يقول الشاعر:

أأَقْدِرُ شُكْرَ ربِّي أن اُكِنَّهْ

وشُكْرُ العَبْدِ من مولاهُ مِنَّهْ؟!

فإمَّا يهْدِني لِلشُّكْرِ ربِّي

فإنِّي ما حييتُ لأشْكُرَنَّهْ

فكيفَ أضِنُّ عنهُ وقال رَبِّي:

لئِنْ شكرَ العُبَيْدُ لأُعْطِيَنَّهْ!

 

أحبتي .. كم من نعمٍ كنا نتقلب بها آناء الليل وأطراف النهار، ما أدركنا عِظَمها إلا عندما فقدناها. نعمٌ كالصحة، والعمل، ووجود الأم والأب، والزوجة الصالحة، والأبناء البررة، والسكن المريح، والأمن، وغيرها نعمٌ تستوجب أن نحمد الله ليل نهار على وجودها؛ سواءً في ذلك ما يستجد منها، أو المتجدد مهما تكرر وانتظم وأصبح مألوفاً لنا، إن لم نستشعر هذه النعم، ونشكر المولى عزَّ وجلَّ عليها، فقد تضيع منا، أما إذا وفقنا الله إلى شكره فقد هدانا إلى طريق صيانة النعم والحفاظ عليها وزيادتها وطرح البركة فيها؛ ألا يستحق الله الخالق المنعم الشكر منا ليل نهار؟

اللهم ألهمنا رشدنا، واجعلنا ممن لا يغفلون عن خطورة (إِلْف النعم) بأن نكون من الشاكرين الحامدين، لكل نعمةٍ وكل فضلٍ، وتقبل اللهم الشكر والحمد منا قبولاً حسناً.

 

https://bit.ly/2WMKOu1